قراءة في كتاب إبراهيم محمد علي... مسيرة جبهة التحرير الارترية بداية ونهاية - الحلقة الرابعة

بقلم الأستاذ المناضل: محمد صالح أبوبكر

حول الاصلاحات التنظيمية الأولى: إن المذكرات التي يكتبها السياسيون هي شهادات متأخرة

مسيرة جبهة التحرير الإرترية بداية ونهاية

وكثيراً ما تخلو من الموضوعية وتنحو لتبرئة الذات، وليست توثيق أمين لمرحلة محددة ليجد فيها الجيل اللاحق ما يهدية على طريق خدمة وطنه.

درج الاستاذ إبراهيم في هذا الفصل المستويات القيادية في الجبهة حيث ذكر أن المجلس الأعلى ثم يليه القيادة الثورية التي كانت تشرف على الداخل والسودان ثم قيادات المناطق ويأتي بعدها القطاع الجماهيري (المدني) وهو لم يذكر دستور جبهة التحرير الارترية الأول الذي كان يحدد الأهداف والمقاصد ومشروعية النضال الارتري وهو مشروع مطروح من المجلس الأعلى قيادة التأسيس، ولم يتطرق لمصير اللجنة المركزية التأسيسية في القاهرة، كما لم يذكر أن القيادة الثورية كانت قيادة عرضة للزيادة والتبديل، إذ كان فيها الأستاذ عمر جابر عمر والذي دخل عوضاً عنه الشهيد الزين يسن شيخ الدين كما دخلها الشهيد الاستاذ محمود محمد صالح وكل من والداي قدي وملو كما اضيف إليها الشهيد صالح أحمد إياي وأبوبكر إدريس وكانا يقودان منطقة البحر الأحمر وعطبرا، وعندما أتى على ذكر الشهيد عثمان صالح سبي قال فيه الكثير وما لفت نظري قوله بأن سبي يشوه خصومه السياسيين دون وجه حق - والسؤال هل هناك وجه حق في التشويه أصلاً؟ ثم كيف ينهي الأستاذ عن خلق ويأتي بمثله.

وفي معرض تناوله للمناطق أكد على أن فكرة المناطق من الوجهة النظرية لاغبار عليها، إلا أنه لم يتطرق للهدف المركزي من إنشاء المناطق بصرف النظر عن أنها مستوحات من تجربة الثورة الجزائرية وواقع الجزائر نفسه متعدد من أمازيغ، لعرب لشاوية، لطوارق، لأفارقة لأرض شاسعة تمور بالتنوع الاجتماعي والقبلي.

وعلى حسب ما قرأت وسمعت من أعضاء أساسيين في القيادة الثورية المشرفة على عمل الداخل (الشهيد محمد سعد آدم + صالح حدوق امد الله في عمره) أن الهدف المركزي من إنشاء المناطق كان توسيع رقعة إنتشار الثورة وتوصيل رسالتها لأوسع قطاع شعبي ممكن وشن عمليات عسكرية ذات أبعاد دعائية (معركة أغردات 1966 ـ التي أستشهد فيها دنقير ودشارف وأبفروت) ولا أعتقد أن التركيب الارتري كان مجهولاً لأولئك المناضلين وإلا أنهم لم يتخيلوا حجم المشكلات التي حصلت، وحتى تلك المشكلات كانت ذات طابع إداري، وهي نابعة عن فهم الكادر لطبيعة المهمة وحجم الصلاحية وقدراته الإدارية والسياسية وللتفاوت الكبير بينه ولطبيعة الاشخاص أنفسهم، لهذا كان عبئ التكليف ورغم التفاني والاخلاص وسلامة النوايا كان فوق قدراتهم... وكان المرجح في إختيار هؤلاء القادة العسكرية، ولم يتحسب أحد للمشكلات الأخرى التي برزت... وللاسف لم يتطرق لتفسيرات المتطلعين لمسألة المناطق خارج سياقها واهدافها، وإعتبروها وكأنها إستحقاق قبلي مناطقي، أدى لتعبئة نفوس البعض وأسفر في نهاية المطاف عن بروز حركات إحتجاجية ومطلبية حركة أبناء الساحل، حركة الكسر، حركة أبو طيارة يدفعها تطلعات الأفراد لإيجاد مكانة لهم.

أكد الأستاذ على عدم وجود قيادة مركزية مرجعية مشرفة، وهذا غير صحيح فقد كانت القيادة الثورية هي الجهة المشرفة بدليل عقدها لأكثر من إجتماع أو مؤتمر مع قيادات المناطق العسكرية وهذا موثق في كتاب الأستاذ عثمان دندن باليوم والتاريخ وكانت تشرف على توزيع السلاح والأدوية والمال على شحهه، والحقيقة أن القيادة الثورية لم يكن بمقدورها المتابعة اللصيقة لإختلاف المكان - السودان - الميدان، وحاولت القيادة الثورية الوقوف على حقيقتها وسعت لإيجاد حلول لها، كما كانت توجد ضوابط وتوجيهات في شتى المجالات إلا أن الاشكال كان في عدم الالتفات إليها والعمل بها - وهذا يشبه تماماً ما حدث لاحقاً في وقت توفر النظم والبرامج التي كانت تغلق عليها الأدراج ويعمل الناس خارج سياق الأسس، ومالم يتطرق له الأستاذ أن المواطنين أصبحوا الضحية إذ كانت تؤخذ منهم الاشتراكات والتبرعات أكثر من مرة بل تعدى الأمر للتوجيه والتكليف بل وتنفيذ العقاب.

وبجانب آخر كانت للمناطق مطلق الحرية في تقرير الجوانب العسكرية إلا أنها في الجانب المالي كانت الحرية منكمشة، إذ أن كل المال بعد أخذ بعض المستلزمات المستعجلة كان يذهب للخزانة في كسلا وكانت تشرف عليها القيادة الثورية وامينها الشيخ عمر حاج إدريس أمد الله في عمره وكانت توفر نفقات المناطق والجنود الجرحى والمجازين والقيادة الثوررية نفسها والعوائل، وهذا ليس نفي للتجاوزات في المناطق بقدر ما هو ذكر لحقائق تغيب.

كما تجاهل الأستاذ حقيقة مركزية وهي أن هيئة التدرريب لعموم التنظيم الوليد كانت واحدة وكان مقرها منطقة تقع بين عنسبا وكرديبا برئاسة الشهيد عمر دامر، وعضوية كل من الشهيد إدريس حامد، الشهيد على جامع عامر، الشهيد محمد ادم شنكحاي، محمد عمر آدم أمد الله في عمره، الشهيد محمد إدريس ودعتيل، عبد الله إدريس درار أمد الله في عمره وكان الجيش يوزع من الهيئة لكافة المناطق دون تمييز على أي أساس كان، ومرحلة المناطق التي تحمل فوق طاقتها بدأت في النصف الثاني من عام 1965م وحتى أغسطس 1969م أي أربع سنوات كانت مرحلة تأكيد وجود الثورة وتثبيت وجودها، وكانت المناطق بحدود المديريات المتعارف عليها والموروثة من العهد الايطالي مع إدماج بعضها، وكانت تحدث بعض النزاعات في الحدود وتابعية هذه النقطة أو تلك، وكان الجنود من مختلف المناطق يناضلون في المنطقة هذه أو تلك فكنت تجد مقاتلين من بركة أو كرن أو الساحل أو سمهر في الخامسة أو الاولى أو الثانية، الثالثة، الرابعة وبالعكس كما لم تكن للقبلية أية فعالية أو تاثير بين المقاتلين وحتى بين المجتمع لم تكن أكثر من أداة تعريف وتحديد للهوية ليس إلا.

وكان كل القصد من صورة القيادة في المناطق التناغم مع التركيب البشري وسهولة توصيل خطاب الثورة للشعب باللغة التي يفهمها ومن خلال الأشخاص الذي يشعر انهم منه، وحتى ذلك التركيب الفوقي لقيادات المناطق لم يكن مقفولاً على أهل ساحة المنطقة فمثلاً كان التشكيل في المنطقة الاولى ديناي رئيس، صالح أبو عجاج نائب، موسى محمد هاشم مفوض سياسي، الشهيد آدم قندفل الأمن، محمد عثمان إزاز المالية، الشهيد عبد القادر رمضان المفوض الصحي، حامد حسين مساعد المالية، والمنطقة الثانية كان فيها الشهيد عمر إزاز، محمد عمر آدم، الشهيد شكيني، الشهيد حليب ستي ...إلخ.

وذكر الكتاب أن الاستاذ أحمد آدم عمر كان المفوض السياسي للمنطقة الأولى وهذا غير صحيح فالمفوض السياسي كان موسى محمد هاشم أمد الله في عمره.

أما بروز التكتلات القبلية أو الاقليمية، فقد ظهرت أوهام وجودها في وقت متأخر من عمر المناطق وهي برزت عندما بدأ بعض النفر من أصحاب الياقات البيضاء كما يقال، يعلنون ويسرون ويحرضون أن المناطق قسمت على اساس قبلي جهوي وصوروها وكأنها إستحقاق مناطقي قبلي وهذا التوصيف تفاعل في نفوس بعض المتطلعين والبسطاء ممن كانوا يشعرون بهكذا مشاعر وأنهم ظلموا، وكان من الواجب منحهم منطقة بإعتبار التفسير أعلاه.

وما يحزن أن الأستاذ وصف المناطق بالإقطاعيات وهذا ظلم فاحش لمناضلين إلتحقوا بالثورة وحملوا أرواحهم وخاضوا غمار الثورة والنضال، وهؤلاء عندما إلتحقوا بالثورة لم يحدثوا أنفسهم إلا بالكفاح النصر أو الشهادة على طريق إستعادة حق الشعب الارتري، وكانوا من بدأ النضال بلا تجربة سابقة، ولكنهم عندما كلفوا تحملوا أعباء المسؤولية، حتى التناقضات التي برزت لاتختلف عما يحدث اليوم بين المديريات والمحليات في التداخلات وتنازع الصلاحيات والحدود وهو ماثل حتى اليوم في عالمنا المعاصر عامة والعالم الثالث خاصة، وكانت جل التناقضات التي برزت ليست بالحجم الذي هول لأغراض مرحلية هدفها الوصول لسدة القيادة، ويذكر الاستاذ كيف أن قيادات المناطق ونوابهم حرموا من حقهم في الترشح للقيادة في مؤتمر أدوبحا دون أن تكون بيد الناس أدلة على تجاوزاتهم ورغم مرارة الظلم إنصاع هؤلاء لرغبة رفاقهم المؤتمرين وابقوا على وحدة التنظيم وكان بإمكانهم أن يخلقوا ضجة كبرى بل إنقسام وإحتملوا الأذى وهو نموذج كبير في تجاوز المشاعر والآراء الذاتية لم يتكرر في ساحتنا بعدها أبداً والأكثر شرفاً أن هؤلاء بقوا على عهد النضال في ذات التنظيم فمنهم من مضى شهيداً ومن بقى لم يتخلى عن موقعه النضالي حتى أتى النضال أكله.

ومن جاء بعدهم في سدة القيادة لم يحتملوا وتناقضاتهم وتنافسهم هو الذي مزق الثورة وأورد الشعب الارتري الموارد وفي ساحة الجبهة بعد عام 1980م لم تستطع قيادتها الاحتمال وجعلت من تنظيمها كالعهن المنفوش ومزقته شر ممزق.

وللتاريخ فان جل التناقضات التي برزت في المناطق كانت في الجوانب الادارية وفي تمركز بعض الوحدات من مناطق أخرى في غير مناطقها لمختلف الأسباب وهذا لاغبار عليه، إلا أن الاشكال كان في أنهم كانوا يمارسون دوراً إدارياً وقيادياً ومالياً بل ويعاقبون، وقيادة المنطقة المعنية لاعلم لها بكل ما يجري وكانت تأتيها الشكاوي، وهنا كان يحتدم الجدال والنقاش... وعلى كل حال كان المواطنون يدفعون الثمن، وحتى الاختلافات هنا لم تكن في المقاصد والأهداف بل في الادارة، وهذه لتم تلافيها لوكانت القيادة المركزية (القيادة الثورية) تتابع عن كسب، إلا أن القيادة الثورية والمجلس الأعلى وبعدهم عن الميدان حال دون تصحيح الأخطاء وهكذا تراكمت المشكلات دون حل. والوحدة الوطنية بمعنى مشاركة كل المكونات الارترية في العملية النضالية الجارية، كانت حاضرة في العقل والقلب وكانت مجال إهتمام بدليل إنشاء المنطقة الخامسة بقيادة والداي كحساي ومشاركة عديد المناضلين والعناية بالمناضلين من المرتفعات وتدليل لهم هدفه الكسب لمصلحة المشروع الوطني والوحدة.

إلا أن آثار مرحلة الفدرالية وتأثير دعاة الانضمام ودعاية المخابرات الأثيوبية وتأثيرها على الناس كان أقوى وأكبر ويحتاج لمزيد من البذل لإقتناع الغالبية لسير مع الثورة في طريق حرية إرتريا كل إرتريا، إلا أن الثورة كانت تسير بتدرج نحو هذا الهدف، رغم أن العدو كان يستغل الثغرات والأخطاء لدق الأسفين بين مكونات المجتمع الارتري في سبيل بقاء الاستعمار، وتطرق الأستاذ لحركة الاصلاح وهي حراك لكوادر بهدف تصحيح أوضاع الثورة وعلاقات المناضلين وكان مركزها المنطقة الأولى، وقد تناغمت مع طرح مناضلي المنطقة الخامسة التي تعرضت لهزة عنيفة بعد تسليم قائدها وإستدعاء نائبه الشهيد حشال عثمان من قبل القيادة الثورية، كما تم إستدعاء قائدي السريتين الأولى والثانية الشهيد على جامع عامر و الشهيد قبرهوت ودي حمبرتي وناب عنهما الشهيد عبد الله إدريس محمد، ومحمد إبراهيم العلي وهما تواصلا مع المنطقتين الأولى والثانية وطالبا عقد إجتماع لقادة المناطق لتدارس وضع المنطقة الخامسة وتمكينها من الصمود ودعمتهم المنطقة الثانية وبرزت لأول مرة فكرة النظر في المناطق نفسها، وتلقفت الدعوة الكوادر النشطة في المناطق وخاصة في المنطقة الأولى، وبدأت تحرك منظم إطلق عليه إسم حركة الاصلاح وهم طرحوا فكرة إلغاء المناطق وأن يكون جيش التحرير تحت إمرة قيادة مركزية واحدة، وهذا الطرح جر عليهم غضب قيادة المنطقة الأولى التي طاردتهم واخرجتهم من الميدان وذكر الأستاذ نشطاء الاصلاح ونسي الأخوين حامد محمود والشهيد عثمان عجيب، ورغم سلامة ما طرحوا إلا أنهم لم يجدوا الفرصة للتواصل مع الجنود.

وعندما ذكر حركة الجنود حصرها في إحتجاج الجنود بكسلا وذكر الشهيد عبدالله تلودي وهناك عدد كبير ومن الجنود وتطويرهم لموقفهم من تحسين أوضاع الى مطالب منسجمة مع حركة الاصلاح خاصة وان هؤلاء كانوا متواجدين أثناء تحرك الجنود، وكل الحراك أخذ قوته عندما وقفت بجانيه السرية الثالثة الشهيد حاج موسى على بقيادة صالح أبوبكر، الشهيد موسى إبرهيم، الشهيد إبراهيم قطوب، الشهيد حامد شريف فتحول كل الجهد للضغط على قيادة المنطقة الأولى والمطالبة بالغاء المناطق وتوحيد جيش التحرير، وهذه السرية ومن إنضم إليها من جنود وفصائل من السرايا الأخرى أمنت خروج نشطاء الاصلاح وضمان سلامتهم في الميدان، ومن المعروف أن حركة السرية الثالثة الضاغطة أسفرت عن عقد إجتماعين وأخيراً إلتزمت قيادة المنطقة بمطالب جنودها وكوادرها.

ويمكن أن أقول للأجيال أن فكرة الاصلاح كانت مجرد حلم لنخبة من الكوادر إلا أن انضمام السرية الثالثة حولها لفعل فرض نفسه بقوة وكان هذا فعل كبير غير مسار المنطقة الأولى لم يشر اليه الأستاذ، وكانت المواجهة قاسية مع ديناي وأبوعجاج وهما من المناضلين الأشداء والمعروفين بالعناد.

نواصل... في الحلقة القادمة

Top
X

Right Click

No Right Click