إريتريا.. مصادفة الطغاة وسمراويت

بقلم الأستاذ: علي حسن الحمد - كاتب سوري المصدر: مدونات الجزيرة

هل تحتاج إلى رحلة لجوء طويلة كي تعرف إريتريا ؟ ماذا لو لم يكن بحوزتك طاغية كطاغيةِ الشام، هل ستعرفُ أسمرا ؟

في رحلتي الطويلة بحثاً عن المنفى، صادفتُ الكثير من الشباب الإريتري في مخيم السلام شمال فرنسا / مدينة "كاليه"، لم يكن أحدٌ منهم يتحدث العربية، إلى أنْ صادفتُ فتى في الخامسة عشرة من عمره في إحدى محاولات التعلّق بالقطار، كان سامي يتحدث العربية بلكنة أهل السودان، فظننته منهم، إلى أن أخبرني بأنّه من إريتريا، لم يعطني صورةً واضحة عن بلاده حين قال: نحن قريبون من حدود السودان، لهذا نتحدث العربية، أمّا البقيّة فلهم لغة خاصة بهم، ويتحدثها الجميع.

بعدَ أن وصلتُ بريطانيا بدأتُ ألتقي بآخرين، كانوا يرفضون التحدث بالعربية، ويُبدون امتعاضاً من ذلك، إلى أن وصلتُ مدينة بريستول غرب لندن، سكنتُ مع صديقٍ لي في منزلٍ مشترك، كان يقيم في نفس المنزل شابٌ إريتري اسمه محمد، الاسم العربي شجّعني على الاقتراب منه، وفعلاً صرنا نتناول الفطور على مائدة واحدة، ونذهب إلى صلاة التراويح معاً، كان محمد يتحدث العربية بطلاقة، وكان قد تخرّج من إحدى جامعات الهند بكلية الصيدلة، ذلك الهدوء البسيط الذي يطغى على شخصيّته جعلهُ قريباً، إنّها كاريزما الشخصية العربية الأفريقية كما يبدو، إذ التقيت بعدها بمصريّ من الجنوب، بدا لي مختلفاً عن مصريي الداخل، أقرب إلى أهل السودان، والتقيت بآخر من تشاد، كان أيضاً يتحدّث العربية ويلبس ذاتَ الكاريزما، أشبّههم بأهل السودان لأنّني أوّل ما التقيت من عربِ أفريقيا؛ التقيتُ بهم.

مشاقّ اللجوء الأريتريّة تكادُ تفوق مشاقّ لجوئك السوريّ، فعوضاً عن تعلّقكِ بقاربٍ مطاطيّ وسطَ بحرٍ غامض النهاية، ستتعلّق بحبلٍ يجرّه جملٌ ويعبرُ وِحشةَ الصحراءِ جرياً دون هوادة لأكثرَ من أربعةِ أيّام في أحدِ الأيام طلبتُ من محمد رأيه بأحد نصوصي الأدبية، فقرأه وأُعجِب به كثيراً، سألني: هل تعرف حجي جابر؟ بدا الاسم مألوفاً، لكنّني لم أعرفْه، فقلت: للأسف لا. دخل محمد إلى غرفته، ثمّ عاد وبيده رواية "سمراويت" وقال لي: إذا أحببْت أن تقرأها فتفضل.

سمراويت؛ الرواية التي تسرقك من سطرها الأول، فتذهبُ بكَ إلى شوارعِ أسمرا، لتشرب الكابتشينو وتأكل البيتزا، ثمّ تتابعُ المسيرَ على أنغامِ أغنية "صفاءٌ هادئٌ عذبُ" لإدريس محمد علي، المغنّي الإريتري المسجون منذ أحدَ عشرَ عاماً دون سبب يُذكر.

ستكتشفُ أنّ إريتريا هي دولة عربيّة يحكمها طاغية لا يقلّ جبروتاً عن الطاغية الذي أعطاكَ الفرصة لتكتشفَ ذلك، طاغية يحارب اللغة العربيّة بكادرٍ عربيّ، ويملأ سجونه بمعتقلين مذ دخلوا الزنازين انقطعت أخبارهم، يجلسُ على عرش البلاد منذ أكثر من عشرين عاماً، ويأكلُ أكتاف الجوعى ليُشبِعَ شهوة الطغيان فيه.

ستعرفُ أنّ الثورةَ الإريترية، عاشت صراعاً دامَ ثلاثينَ عاماً، وأن مشاقّ اللجوء الإريتريّة تكادُ تفوق مشاقّ لجوئك السوريّ، فعوضاً عن تعلّقكِ بقاربٍ مطاطيّ وسطَ بحرٍ غامض النهاية، ستتعلّق بحبلٍ يجرّه جملٌ ويعبرُ وِحشةَ الصحراءِ جرياً دون هوادة لأكثرَ من أربعةِ أيّام، ستدفعُ بعدها المال الذي استدنته لتاجرِ بشر، وتذرفُ حفنةَ ملحٍ من عيونكَ فوقَ زهرةِ صبّار، وتعبرُ أسلاكَ البلاد الشائكة وحدَكَ دون عودة.

Top
X

Right Click

No Right Click