قراءة في كتاب إبراهيم محمد علي... مسيرة جبهة التحرير الارترية بداية ونهاية - الحلقة الثالثة

بقلم الأستاذ المناضل: محمد صالح أبوبكر

إن المذكرات التي يكتبها السياسيون هي شهادات متأخرة وكثيراً ما تخلو من

مسيرة جبهة التحرير الإرترية بداية ونهاية

الموضوعية وتنحو لتبرئة الذات، وليست توثيق أمين لمرحلة محددة ليجد فيها الجيل اللاحق ما يهدية على طريق خدمة وطنه.

بيئة الانطلاقة وتخومها حاضنة النضال الارتري:

ذكر الاستاذ ابراهيم في كتابه جاءت انطلاقة الكفاح المسلح في بيئة ريفية تسود فيها الأمية وفي واقع إجتماعي تعلو فيها الى حد كبير تأثيرات الولاءات القبلية والولاءات الشخصية على الانتماء الوطني العام (صفحة 24).

تحدث الأستاذ إبراهيم عن بيئة الانطلاقة، و ما كتبه أضحى ملكاً عاماً للقراء وشكل في ذهن القراء صورة وفكرة، وهي صورة قاتمة وسوداوية عن تلك البيئة وأهلها، لهذا لزم علي أن أضع القراء في صورة واقع بيئة الانطلاقة أو بؤرة الثورة وتخومها في ذلك الوقت من كل جوانبها، حتى تكون الصورة كاملة ويكون الحكم للقراء والأجيال عادلاً ومبني على المعلومات، كانت كما هو معروف منطقة الانطلاقة القاش بركة حتى كرن وتخوم الساحل في عنسبا، وهذه المنطقة الشاسعة كانت ساحة الانطلاقة ومن بينها الرجال الذين أشعلوا الثورة، أما بؤرة الفعل المباشر فكانت منطقة بركة القاش، وهي منطقة تعج بالسكان وبالالسن من بداويت لباريا لكناما لتجري لبلين، ومن حيث الواقع المعيشي فهي بيئة يمتهن سكانها الرعي ثم الزراعة وأخيراً التجارة، كما أن مدنها هي خليط من هؤلاء بالإضافة لمجموعات من بقية الوطن الارتري، أما القرية فهي وإن كانت معروفة التركيب بحكم أنها إمتداد عائلي، إلا انها في هذه المنطقة ليست خالصة لقبيلة واحدة وهي خليط من البطون والفخوذ والقبائل.

أما واقع التعليم فهي لاتختلف عن بقية الريف الارتري، وكان التعليم بمعناه العام يتمركز في المدن أم حجر، قلوج، تسني، هيكوتا، بارنتو، أغردات، كرن، حقات، شمبقو، تكمبيا، على قدر، أوقارو، منصورا، عدردي، كيرو، تكرريت وخلاوي قرآنية كثيفة في الريف في عد سيدنا مصطفى، الشيخ محمد الأمين في دبك، خلوة عد فكي، خلوة الشيخ محمد عامر، خلوة الشيخ محمد ود عجيل في همبول، خلوة سيدنا حامد همد، خلوة بيت عوض، خلوة شيخ محمد آدم طون، خلوة موشيتت، خلوة الشيخ محمد حاج إنتأدرات، خلوة الشيخ حجاج ابوموسى في تقوربا، خلوة الشيخ موسى تلاب في تلأي الرجل الخطاط الذي كان يخط المصحف الشريف بخط جميل يدهش الناظرين، خلوة الشيخ محمد أبرهيم، خلوة الشيخ ملكين في بيشا، خلوة دفسي، خلوة الشيخ إدريس حجاج، خلوة الشيخ على كرار في مجاوراي، خلوة عد كوكوي، خلوة دلك، خلوة عد عيسى، خلوة عد كشة، خلوة عدفاكاي، خلوة عد شيدلي، خلوة عد نصور، خلوة أف إدي، خلوة عد همد درار، خلوة عد هقراي، خلوة عد حمد شلح، خلوة كوريت، حجفيراي، عد شاول، عد حديث، عد موسى أري، ومعهد وخلاوي آل زرؤم، وخلاوي ومدرسة هبرو، خلاوي جنقرين، وخلاوي حلحل وملبسو والكثير الكثير.

ولو إفترضنا أن أية خلوة تمكنت من فك أمية 20 طالب ومن بينهم تقدم في المسارات العليا فقط 7 تلميذ فإننا أمام كم هائل من الذين محو أميتهم والذين إنتقلوا للمسارات العليا، وإذا كان يقصد بالتخلف الجانب الاقتصادي الاجتماعي، فهذه البيئة كانت غنية جداً، كانت أرض تعج بالثروة الحيوانية والمنتجات الزراعية والتجارة، وإذا كان يقصد أنها بيئة غير مدنية فالمدنية في عموم إرتريا حديثة عهد في عموم إرتريا جاءت مع الاحتلال الايطالي وهو عهد قريب، وهي مجرد قرى كبيرة لم يتغيير فيها نمط العلاقات الريفية لآن التغيير في نمط المعاش طفيف للغاية، إذ لم تنشأ مؤسسات صناعية تجمع أعداداً كبيرة من الارتريين لتغيير نمط العلاقات البينية وحتى الورش التي أقيمت لم تك لتستوعب أكثر من 40 عاملاً، والمشاريع الزراعية كان العمل فيها موسمي لهذا كان الارتريون يتجهون للعمل والدراسة في السودان، وكانت المهن الغالبة الرعي الزراعة وأعمال الخدمات العتالة في الكلات، المقاهي، المطاعم، الأعمال التجارية، بيع الخضر وكلها أعمال لاتحتاج لمهارات.

أما الامية التي رمى بها أهل المنطقة فهي تحتاج لوقفة، يقسم العلماء الأمية إلى أنواع منها الأمية الأبجدية (القراءة والكتابة) الأمية السياسية، الأمية الصحية والغذائية ...الخ وأضيفت عليها أخيراً الأمية التقنية ومعروف ان نمط الأكل والمسكن يرتبط بنمط العيش والمهنة والاستقرار، ولايعقل لمجتمع المركزي في معاشه الرعي بكل مطلوباته من سير وراء البهائم والبحث عن الماء والكلأ، فلا يجد وقتاً للأعتناء بالطبخ والتفنن فيه ولا الملابس فيكتفون بالضروري منها، والرعاية الصحية فهي عند القوي الشديد وإعداد الأكل (العصيدة أو القراصة) لايحتاج لوقت طويل وهذا ليس عيباً يرمى به مجتمع المنطقة والريف الارتري فهو حالة عامة لكل المجتمعات الرعوية.

كان الارتريون في تلك البيئة وغيرها يتجهون للسودان من أجل العمل والدراسة، والمهنة الغالبة كانت الرعي، الزراعة، اعمال الخدمات (مقاهي، مطاعم، عتالة، دكاكين) وكلها مهن تعتمد المجهود العضلي ولاتحتاج لمهارات وهؤلاء لعبوا دوراً تاريخياً في رفد الثورة وتثبيت وجودها.

أما بيئة الانطلاقة من حيث موقعها الجغرافي وتضاريسها فهي بيئة ملائمة جداً لحرب العصابات لأنها منطقة غابات كثيفة ومجاري مياه وآبار جوفيه ووفارة في المياه على السلاسل الجبلية فضلا عن المغارات والكهوف وبها مجتمع مؤمن بالثورة ومسلم لها بالقيادة والطاعة قدم لها كل ما يملك كما ترتبط بحدود طويلة مع السودان والمجتمع المتواجد على الطرف الآخر من الحدود هو ذات المجتمع وكانوا حاضنة إضافية سهلت حركة المناضلين.

أما من حيث الوضع الاقتصادي فكانت تلك البيئة التي تعتمد على الرعي والزراعة ومن حيث الثروة فكانت بيئة غنية وأهلها يمتلكون أعداداً هائلة من الابل ـ الأبقار - الماعز - الضآن ويبيعون السمن واللحم، كما كانوا يبيعون سعف الدوم وثمارها وجريدها وأحياناً جذع الشجرة نفسها والحطب بكل أنواعه لشراء إحتياجاتهم الضرورية، والأهم من كل ذلك كان فيها مجتمع مؤمن بالاهداف والمبادئ ومتفاعل مع الثورة حتى أنه قاسم مناضليها لقمة أطفاله، ويعرف الأستاذ أن زاد المناضلين وطوال عقد ونصف العقد من الزمان كان يعتمد على أهلها بشكل كلي، كما كانت بيئة واسعة تمتد من سيتيت للقاش لبركة لعنسبا وكانت منطقة القاش سيتيت منطقة رعيها وخاصة في مواسم القحط والجفاف كما كانت البهائم تتجاوز لصعيد السودان على الحدود الاثيوبية.

كانت بيئة غنية جداً بالقياس لواقع المجتمع الارتري في ذلك الوقت، حتى أن المناضلين في البدايات أطلقوا عليها إسم الكويت، وكانوا يعتبرون من يوجه للنضال فيها سعيد فهو سيجد الحليب، اللحم، الاستقبال وامهات هذه المنطقة كانت مطاحن زاد المناضلين.

كان ينبغي أن يذكر الأستاذ انصافاً لهذه المنطقة المظلومة في الحاضر والتاريخ، أن هذه المنطقة الواقعة تحت براثن الأمية والتاثيرات القبلية والولاءات الشخصية هي التي زودت الثورة بالمال - بالزاد - بالرجال - بوسائط النقل (الجمال) بالقواعد الآمانة بالحاضنة الشعبية، وكرست كل ما تملك في سبيل الثورة، ولتذكير استاذ إبراهيم وغيره أن أهل هذه المنطقة تبرعوا بأكثر من 200 رأس من الإبل والكفاح المسلح في بداياته الأولى، كما تبرعوا بالسلاح الذي كان بأيديهم، واذكر أن الشيخ حامد همد من منطقة برمكانات في القاش تبرع بسبع بنادق بكامل ذخيرتها مع قنابل يدوية، وكان للسلاح بالنسبة لهم في أعالي القاش أهميته القصوى لحماية أنفسهم من الشفتا والهجمات عبر الحدود للنهب ويعرف الأستاذ أحوال مناطق الحدود في القاش سيتيت ولكنهم قدموا سلاحهم عن طيب خطار وقدموا أمان الثورة وإستمرارها على أمان اهلهم وأنفسهم وممتلكاتهم فأي وعي عملي متجاوز للقبلية والمناطقية والولاءات الشخصية يريد أكثر من ذلك، بل وتبرع هذا الشيخ الجليل بنفسه أن لتنفيذ عملية فدائية في حاضرة بركا أغردات، ولولا رفض رجال البدايات لكان هذا حدثاً حاضراً في تاريخ النضال الارتري.

وهؤلاء الذين أناخت عليهم التاثيرات القبلية بكلكلها نزح إليهم الكثير من أبناء إرتريا وعاشوا بينهم بأمان وسلام وأخوة ومحبة إمتدت لدرجة التصاهروالتمازج، ولو كانوا كما وصف الاستاذ لكانوا بيئة طاردة لاتقبل بأحد، ولكن ما يحزن القلب أن هؤلاء قد ظلمتهم تماماً كما ظلمهم النظام الاستبدادي، فحرمهم من أدنى الحقوق بل وحرمهم من حقهم في العودة والعيش على أرضهم بسلام ومن حقهم الانساني والتاريخي في العودة لمناطقهم التي لجوء منها بسبب الثورة، حسبكم الله يا أهل منطقة الانطلاقة.

نواصل... في الحلقة القادمة

Top
X

Right Click

No Right Click