الهشّْ: عملٌ روائيٌ فوق العادة الأحزانُ وشاح والذاكرة تختزنُ المشهدْ - الجزء الثاني والأخير
بقلم الأستاذ: أبوبكر عبدالله صائغ - كاتب وصحفي ثقافي مهتم بالتأريخ
- "من يدرى ربما إلتقيها يوماً ما ؟!!" قال: "عبدالصمد" يتأرجح بين الأسي واليأس والرجاء.
- العولمة الإعلامية والعالم الذى أصبح منزلاً مفتوحاً من كل الجوانب على الفضاء الطلق نراه حاضراً في الرِّواية عبر تصفح ومتابعة ومشاهدة شخوص الرِّواية مثل المواقع الإخبارية الفضائية ومواقع الإنترنت التى تتناول أخبار المنطقة برمتها عموماً والشأن الإرترى على وجه الخصوصْ.
- أحداثٌ كثيرة تفرض نفسها على المشهد العام للرِّواية ولاينكرها إلا مكابر، لأنها تؤرخ للمرحلة بكلِّ تفاصيلها الدقيقة والمؤلمة والموجعة لحدِّ حبس الأنفاس والوجع الأليم، وهذه صورة أخرى عانى منها الأبرياء من الشعب وراح ضحيتها من ليس لهم فيها لاناقة ولاجمل "إنفجرت حافلة ركاب متجهة الى "شامبقو" عند الصباح، توفي إثر ذلك الحادث عشرون راكباً بينهم أطفال وجرح خمسة عشر أخرين".
دوت إعماق "صابر" بالفجيعة حيث إتجهت "ساره" لتعود خالتها بعد مرضها الشديد وهي من تبقى لها بعد موت أبويها وإصطحبت "يوسف" معها.
تمني وهو يرتجف خوفاً وترقباً أن تكون "ساره" وإبنها في تلك الحالفة !!.
ولكن... حاول رفاقه مواساته والأيام تفعل فعلها فيه، لم يتمالك "صابر" أعصابه وفقده الكبير فانهار، ماتت "ساره" وذهب "يوسف" وماتت مشاعره وكل شيء يملكه معهما.
هكذا أحس "صابر" أنَّ روحه سُلبت منه.
- أيضاً نجد إحدى الصور المفجعة بين طيات صفحات الرِّواية حيث مقتل "ميكئيل" الذى صال وجال في رحاب الدنيا (هل يُعقل أن ينتحر "ميكئيل" المدجَّج بحبِّ الدنيا والحق والإنسانْ ؟!).
أسئلة كثيرة تُطرح ولا إجابة عليها !!.
هكذا كانت الأحلام !! "سنجعل هذا البلد مفخرة القرن الإفريقي، بل إفريقيا كلها".
صوت "ميكئيل" كان يجلجل بضحكته في أرجاء الحانة الجنوبية التى قضيا فيها آمال المستقبل وعربدات الأمل وفتونه، لتعلن عزمها أنْ تأتي وتعيش معه في "أسمرا" تاركة خلفها "أمريكا" وكل فقاعات النيون وجدائل الضوء وبريق الإسمنت.. وأن تنقل فنها لبلدها، وعدها بأنه سيعلمها ألـ "التغرنَّة" بشكل أفضل لتغني بها له ولأهلها ولوطنها.
وعدها ورحل قبل أنْ تكتمل خطوط فجرها معه والوعود، غارساً في وجدانها شظايا تدميها، وروعة أيام لن تقوى على نسيانها.
- أشجار "العركوكباي" تطلُّ عبر قرون من الممالك والأمم وهي تجسِّد ملاحم حروب الوهم والصراعات والهيمنة وبحار الدم في منطقة القرن الإفريقي، لتضيء الشواهد جيلاً إثر جيل وعبرمختلف العهود والحقبْ.
- هكذا عبَّر الراوى والشواهد كثيرة: القبور والقرى المحروقة والآبار التى جفَّت مياهها والصخور التى إحترقت بنيران القذائف من مختلف الأنواع والمقاسات والاحجام، الأرض التى احترقت أصبحت غير صالحة للزراعة والرعى، الحيوانات هاجرت كما يهاجر البشر وانقرضت، الحياة البيئية تلوثت، هذا كان الثمن وكل شيء في بلادى يشهد على الجرائم التى إرتكبتها القوات الغازية في كافة الأرجاءْ.
- تختلف هموم وشجون جيل الحرية عن الأجيال التى عاصرت الثورة وكانت وقودها ونورها والمحرك الرئيسي لها، الثورة تضحيات ونكران للذات والانشغال بالهمِّ العام والترفع عن الهموم الشخصية، وحتماً عهد الثورة يختلف عن عهد الدولة، فلكلّ جيل قناعاته ورؤيته وإحتياجاته وهمومه وأولوياته.
- وضعت هذه الكلمات التى تمثل صوراً لمشاهد في ذاكرتي وأنا أقرأ الحوارات التى جرت بين "نور عبدالله" و "صابر" و"نقستي" و"ميكئيل" و "عبدالصمد" و "عامر" ورحيله من البلدْ.
- سألت "نور عبدالله"، "عامر" قائلة: هل هناك شيء يستحق أن نضحِّي بعمرنا من أجله ؟!.
رفع "عامر" عقيرته وقد بدأ الإجهاد عليه: كلُّ الدروب تفضي إلى قلق ودمار في هذا البلد،، قال هذا وهو يرتشف شايه الصباحي:
الحقد يحكم علاقات الإرتريين وهم يشوهون بعضهم البعض ؟!!. ردَّت "نور عبدالله" ألا يستحق هذا الشعب أن نضحي في سبيله؟!.
قال "عامر" وهل هذا الشعب يملك إرادته ؟! أو يعرف ما قيمة التضحيات ؟!.
كما قلتُ لك هم مهمومون بالإساءة إلى بعضهم البعض وبالذات من يدعون النخب !!.
عبثٌ وتفاهات !! ألا تتابعين ما يُكتب في "الفيس بوكْ"، ومواقع الإنترنت هي مرحلة وستمرّ، فقد خضنا حرباً عنيفة راح فيها الالاف من الشهداء على مدى الأجيالْ.
قالت و"نور عبدالله" لاتقولى شهداء !! قولي ضحايا !!.
لفظ عبارته مضيفاً دعينا من وجع الرأس،، وحدثيني كيف كانت المحاضرة اليومْ.
انتهى في تقديري أهم مقطع من الحوارْ.
قد تكون هذه الحوارات التى جرت بين "نور عبدالله" و "عامر" فيها الصالح والطالح والتشدُّد والتسامح، لانها تجسِّد هموم الشباب،، ونحن لسنا بصدد تحديد إتجاهات بوصلة إعتقاداتهم وطرق تفكيرهم وهم أبناء جيلهم وعصرهم، ولكن هنالك كلمة وردت في الحوار تستحق الردّ لأننا ننتمي لأمة نالت إستقللالها عبر تضحيات جسام كان مهرها الشهادة، وشهدائنا هم فلذات أكبادنا نفتخر بهم ونقتدى أثرهم وهم مشاعل تنير لنا الطريق، وإلتزامنا الأخلاقي والأدبي والوطنى يحتم علينا بأن نقلدهم وسام الشهادة ونحتفي بهم وهذا أضعف الإيمان،، وهم شهداء في ضميرنا وعقيدتنا وثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا وليسوا ضحايا... وكفى.
الروابط الوطنية أو الثنائية في تفاصيل الرواية:
منذ البداية لايغيب المشهد الوطنى عن تفاصيل رواية "الهشّْ"،، فالوطن هو الوطن بكل تقسيماته العرقية والدينية واللغوية ووشائج الصداقة والمصير المشترك "صابر" و"ساره" والطفل "أمانئيل" / و "ميكئيل" ورفاقه "نورعبدالله" و "نقستي" و "عامر" و "روت" و "ثريا" و "ألمْ" و "عبدالقادرْ".
الفساد ومحاربته والقضاء عليه لبّ الرِّواية:
هكذا يبدأ الراوي الدخول إلى موضوع الفساد: "يجب أنْ تعجِّل الدولة بضرب الفاسدين مهما كان حجمهم" !!.
- قال: "ميكيئل" الذى مات منتحراً كما قيل في حادثة غامضة والتى لم يستطع "صابر" إستيعاب حدوثها بأي حال من الأحوالْ !!.
أصابه التشويش وهو يرشف فنجان "الماكياتو" وصورة "ميكئيل تولدى مدهنْ" تخترق خواطره.
(أهكذا تنسابُ روايات الحياة في كآبة وعبث وخيانة ؟!).
(أشعل في جسده النارْ ؟ !!) هكذا قالوا !!.
كرَّر "ميكئيل" دوماً:
يجب أن يكون التغيير جذرياً والإصلاح يأتي بالعمل الدؤوب و"النقد والنقد الذاتي" إنه ميراث "الجبهة الشعبية".
يجب ضرب الخونة والفاسدين فهذه البلاد جاءت عبر قوافل الشهداء ومنذ حرب التحرير إلى حرب السيادة الأخيرة !!.
قال "ميكئيل" يلجٌ إلى موته الحائرْ.
الحقُّ يؤخذ بالقوة...،، قال: "ميكئيل" يحتسي كأسه الحسيرة:
- سنتصر عليهم ؟!.
قالَ وأكَد وناضل في ظروف صعبة وحالكة.
- إستغلوا ثقة الناس لينهبوا وطناً مثخناً بالجراح.
قال: "مكئيل"
وهي لاتدرى عمن يتحدث !!!.
فقط آمنتْ به وبكل ما يقول ويفعل.!!.
- سنحاربهم !! ومن هنا !!.
هو "ميكئيل" الذى قيل عنه أحرق نفسه ؟!.
صدحت مسام "روتْ":
لايمكن أن يموت "ميكئيل" منتحراً !!! لايمكن لليأس أن ينخر في روحه !!. بكت بكاء اًحارقاً كحرقة أوقاتها بعد رحيله، لم يكن كذلك آخر لحظة إلتقته فيها وسافرت بعدها الى "واشنطن".
بدت لها "أسمرا" مكللة بثوب الحزن والفقد والفجيعة وخاصة بعد أن علمت بموت "ساره" و"يوسف" ومقتل "ميكئيل" وتساءلتْ: كيف سيكون حال "صابر" ؟!!.
وعادت إلى الوطن لتواسي نفسها و"صابر" وكل الذين تعرفت عليهم في "أسمرا".
وقبل الختامْ أوقفتني عباراتٌ وردت في المقال الذى كتبه الزميل والصديق/ صلاح سنيوس بعنوان "بضعُ كلماتٍ في حقِّ المؤلفْ" الذى أكنُّ له كل الودّ والحبّ منذ أنّْ عرفته صاحب قلم بارع "سَنينْ وحادْ" يقطع في الحالين كما يقال!!، لايهاب في الحق لومة لائمْ !!.
إنَّ الكتابة من "أسمرا" لها وقعها الخاص ونكهتها المميَّزة، وبأنَّ الخلاف لم يكن خلافاً شخصياً بل في هموم عامة ورؤى وأفكار واختلاف مواقف، ولذلك كتب وبكلّ شجاعة كلماتٍ في حقِّ المؤلف يستحقها وهكذا هي معادن الرجال صفاءاً وقوة وشجاعة ووفاءْ.
وهنا أستعير هذ المقطع من الرِّواية لكي أختم به مقاليْ:
"أدركتُ أنَّها ربما لن تكون بقوة هؤلاء البشر المتماسكين على الرغم من قسوة النكساتِ والصدماتِ التى تلحق بهم والتى كرَّستها أجواءُ حروبٍ وصراعاتٍ مدمرةٍ على مدى أجيالْ".
وأقول فعلاً يظلُّ الشعب الإرتري صامداً يكافح مِنْ أجلِ أنْ يهيء لنفسه وللأجيال القادمة حياة كريمة وإعتزاز بالنفس وهي رسالة الأجيالْ.