ترجمة وتقديم الأستاذ: موسي عَوِلْ خير - كاتب إرتري  تأليف الكاتب الإريتري: تسفاي قبرآب

الفصل الثاني: الفضاءات الموحشة وأحزان البحر الأحمر.

عندما قرر نور النبي الرحيل ومغادرة قريته الأم، كانت مصوع وجهته الأولى، لا لشيئ سوى أن شقيقته الكبرى مريم بخيت تقيم هناك، لكنه ليس لديه فكرة عن أحوالها ولا ظروف عيشها، ولم يسبق له أن زار مصوع، وكل ما يعرفه عن مصوع هو أن الايطاليين احتلوها قبل ثلاثة أعوام، أو ما تواتر إلى مسامعه بأن إمدادات البحر الأحمر وموارده لا حدود لها "إن البحر الأحمر يوفر كميات كبيرة من السمك" هذا ما كان يقوله الناس، ولو كان هذا صحيحاً، فأن الناس يمكن أن يبقوا على قيد الحياة ببعض اللقيمات من السمك، هكذا كان يحدث نور البني نفسه بينما كان يهم بالرحيل.

كان يحدوه الأمل على ان يجد حلا لمعضلته عند شقيقته وأسماك البحر الأحمر، استغرقت رحلة نور النبي للوصول إلى مصوع حوالي أسبوعين من السفر الشاق، عندما غادروا أرض أسلافهم "فانا" كان عددهم خمسة، بما فيهم "شمال" لكن فقط ثلاثة منهم تمكن من الوصول إلى مصوع، فخلال تلك الرحلة الشاقة اضطر نور النبي إلى دفن زوجته وأم أبنائه على قارعة الطريق، أما بقايا شمال فقد تركها للنسور الجارحة التي كانت تحوم في السماء.

توفيت زهراء عندما نزلوا لأخذ قسط من الراحة وعلى بوابات الكنيسة الأرثوذوكسية في قرية "دبرسينا Debresina) فبالرغم من أنهم وجدوا بعض الطعام داخل الكنيسة إلا أنها لم تستطع إبتلاعه كي إلى معدتها وإنقاذها من الهلاك المحتوم، فتوقفت اللقمة في حلقها لإلتصاق الجلد بعظم الرقبة جراء انعدام الطعام لأيام، كانت عيونها مغمضة وفمها مفتوحاً، ظلت على هذه الحالة بين الموت والحياة لمدة يومين، لكنها في نهاية المطاف فارقت الحياة وآثرت الموت تاركة وراءها زوجها وأطفالها في حزن عميق، وفي الحقيقة فإن الموت كان رحمةً لها.

استعار نور النبي جاروفاً من الكهنة وبدأ يحفر خارج أسوار الكنيسة، فجاء إليه كاهن شاب وأخبره بأنه يمكن أن يواري زوجته الثرى داخل أسوار الكنيسة، إلا أن نور النبي رفض العرض، لأنه وباعتباره مسلماً لا يمكن أن يواري زوجته الثرى داخل أسوار كنيسة مسيحية، فبدأ الكاهن الشاب بمساعدته على حفر القبر، وبينما هم يحفرون القبر كان الكاهن يواسي نور النبي بكلمات عسى أن يخفف عنه وطأة الحزن على زوجته قائلاً: "لم نسمع أن مرت الإنسانية بمثل هذه الفترة المروعة حتى في العصور القديمة، في مثل هذه الظروف يفقد الناس إيمانهم، حتى أنهم يتلفظون بكلمات خارجة عن تعاليم الرب، في مثل هذا الظرف الرهيب، فإن الانسان الذي خلقه في أحسن صورة يفقد كرامته واستقامته بل وانسانيته، مثل هذه المخاطر لا تميز بين مسلم ومسيحي، فهي تضرب الجميع على حد سواء" ثم أردف قائلاً:-

• من أين أتيتم؟

• نحن من فانا، رد عليه نور النبي.

• فانا؟ هنا في حلحل؟ لأي درجة أنتم مسلمون بحق وحقيقة؟ أنتم البلين وماريا قيح وماريا طلام والمنسع والبيت جوك وبيت أسقدي أصبحتم مسلمين عندما ضعفت الكنيسة وقام المصريون بإدخالكم الإسلام بعد أن كنتم جميعكم مسيحيون أرثوذوكس، في تلك الأيام خلال الغزو المصري فإن بعض أعمال النهب التي قام بها بعض قطاع الطرق وأمراء الحرب تسببت في إضطراب العقيدة لدى الكثيرين من سكان المنطقة، ولهذا أصبح جزء من البلين مسلمين بينما اعتنق الجزء الآخر المسيحية الكاثوليكية، وقليل من رفض هذا وذاك وبقي على عقيدة مدهاني ألم "المسيح المنقذ" الأرثوذوكسية، ولكن ما اسمهم الآن؟

توقف الكاهن عن الكلام للحظات، ثم غير الحديث عن المسيحية والإسلام، لوجه سؤالاً لنور النبي قائلاً:-

• على فكرة من هم أسلافكم؟

• أنا من "عد موسى Mussi" رد عليه نور النبي.

• إذن سمرا يكون جدك.

• نعم هذا صحيح.

• يا الله يا أخي، إذن أنت من سلالة سمرچون؟ تلك الأسرة العظيمة؟ ذاك العرق المتميز؟ ألم تكن زعامة القرية من نصيبكم منذ زمن بعيد؟ والآن أصبحتم مهاجرين مشردين؟ أي زمان هذا؟ أي عصر هذا؟ حتى العصور والأزمنة يمكن تخون، الرب الذي جعل "نبوخذ نصر" * يأكل العشب، الإله الذي جعل إمرة لوط تتجمد كالتمثال لأنها تجرأت النظر إلى الوراء، الإله الذي جعل من الراعي موسى قائداً عظيماً، الرب الذي أنقذ نوح من الطوفان، الخالق الذي غفر خطايا داوود، الإله الذي مسخ الأسود إلى قطط لإنقاذ دانيال من أنيابها، الخالق الذي شاء ليونس أن يمكث ليلةً في بطن الحوت بسلام... لا يوجد شيئ أعظم من هذا الإله، نسأله وبحكمته أن يغفر لنا.

• نسأل الله أن يحميك من الشر، رد عليه نور النبي.

لأول مرة في حياته يبدو نور النبي مهزوماً، مسح عينيه بطرف الشال، إلا أن كل ما استطاع إزالته هو تلك الغصة التي كانت تخنقه وبعض الدموع الغير مرئية، ومن أين لها أن تأتي الدموع؟ فمحاجره قد جفت منذ زمن بعيد، لم تكن هناك أي شكل من أشكال الرطوبة في أحداقه، حتى حواجبه كانت متصلبة لا حراك فيها، كان يبدو خالياً من أي شكل من أشكال الحياة.

نواصل بمشيئة الله... في الـحـلـقـة الـقـادمـة

• السابق
• التالي