رواية ملف نورالنبي بخيت - الحلقة الثانية

ترجمة وتقديم الأستاذ: موسي عَوِلْ خير - كاتب إرتري  تأليف الكاتب الإريتري: تسفاي قبرآب

كان عامَ الجفافِ والتصحّرِ هذا في 1888م * وهو نفس الجفاف والتصحر الذي دفع

The Nurenebi File 2

نور النبي لمغادرة (فانا) الحبيبة، في هذا العام عمّت المجاعةُ كافة أرجاء شرقِ إفريقيا " كان الجوعُ يفتك بالجميعِ لدرجةِ أنّ المجتمعات التي كانت تتعايش بعطفٍ واحترامٍ متبادلين تخلّتْ عن بعضها البعض، أما العمل الخيري كان أمرًا لا يمكن تخيله، حيث أصبح البقاءُ على قيدِ الحياةِ هو الشغل الشاغل لكل شخص، حتى الأطفال الذين تنهمر دموعُهم لأتفه الأسباب تجمدتْ في أجفانهم بفعل قساوةِ الحياة، أما القتل لأجلِ الطعامِ كان من الأمورِ الشائعة، كانت أربعة سنوات عجاف بلا هوادة، اجتاحت فيها المجاعةُ المرتفعاتِ والمنخفضاتِ على حدٍّ سواء على جانبي نهر (مرب)، كانت فترة كارثية لا تبقي ولا تذر تأخذ آلافَ الأرواح يوميّا.

لم يكن الجفافُ والمجاعةُ التي تسبب فيها المشكلة الوحيدة في تلك الفترةِ العصيبةِ من تاريخ المنطقة، بل كانتْ هناك جائحةٌ أطلق عليها سخريةً اسم "دستا" وتعني البهجة أو المرح، تسببتْ في هلاكِ كافة أنواع الماشية، ظهرتْ هذه الجائحةُ بظهورِ الايطاليين في المنطقة، الأمر الذي دفع الناسَ إلى الاعتقاد بأن الايطاليين هم من نشروا هذا المرضَ، لأنّه في حال هلاك ماشيتهم سيضطر أبناؤهم الشباب إلى العمل في مزارع الايطاليين والخدمةِ العسكرية في الجيش الإيطالي، هذه هي المؤامرة التي دبّرها الإيطاليون لمصلحتهم بحسب اعتقاد السكان المحليين، وأنّ الايطاليين قاموا بتمرير هذه المؤامرة عمدًا لحرمانهم من ممتلكاتِهم، كما كان يدّعي بعضُ كبارِ السّنِ من الرجالِ والنساءِ أنّ الوباءَ جاء مع الإنجليزي (نابير) (الجنرال روبرت نابير)، أثناء قيادته الحملةَ الإنجليزية ضد الإمبراطور الاثيوبي تواضروس - وكان ذلك بسبب الماشية التي أحضرها على سفنهِ من الهند، كان الريف الارتري يعجُّ بهذه الشائعات في تلك الفترة.

ولهذا السبب قام السكانُ المحليون باطلاقِ لقب "القدم الجافة" على الايطاليين، خلال هذه الفترة هجر مربّوا الماشية، والمزارعون في المرتفعات والمنخفضات أكواخَهم وهربوا إلى حيث تأخذهم أقدامهم، كانتْ "حلحل" من أكثر المناطق التي تضررتْ جراء هذه المجاعة، فؤلئك الذين يستطيعون بيعَ أكواخِهم بغرض الهجرة فعلوا ذلك دون تردد، ومن لم يستطع بقي بجانب مواقدهم الباردة ينتظرون مصيرَهم المحتوم، ومع انخفاضِ أعداد البشرِ تزايدت أعداد الآفات والفئران، كما استولى النملُ الأبيضُ على الأرضِ وبدت الأرضُ كأنْ لم يعمرها الانسان من قبل، فقدت ملامحَها وحتى روحها، عندما فرَّ منها لونُها ونعومتها.

بدأت المجاعةُ في عام 1887 وامتدتْ من (شوا) إلى أرض النوبة، ومن بلاد (أساورتا) إلى الساحل، على الرغم من أن (شوا) نجتْ من كارثة الأربع سنوات، إلا أنّ موسمين بلا أمطار كانا كافيين لبث الرعب فيها، نفقت فيهما المواشي بشكلٍّ جماعي، وكانت رؤية كائن حيّ يتنفس تعد من المعجزات، تم امتصاص دمها ولحومها من جلودها وعظامها، يقال إنّه في وسطِ هذه المأساة، وفي قريةٍ تسمى (أنسارو Ansaro) قامتْ امرأة بذبحِ سبعة أطفال فظلت تتغذى على لحومِهم وعظامِهم لفترة من الزمن، ثم بعد أن انكشف أمرها تم تقديمها إلى الملك/ منليك لمحاكمتها.

• هل صحيح أنّكِ أكلتِ لحمًا بشريا ؟! (سألها الملك)

• نعم جلالتك، لقد كنت جائعةً، لذلك أكلت سبعة أطفال.

• أين وجدتٍ الأطفالَ؟!.

• لقد خطفتهم بينما كانوا يلعبون.

كانت امرأةً شعثاء غبراء، وكان انحناءٌ بشعٌ على رقبتها، وعيناها منتفختان بشكلٍّ شنيع، بعد أن سمع الملك / منليك اعترافَها بأذنيه، قال: مملكتي آلت إلى الخرابِ والدمار، وصوتي لا يكاد يخرج من حنجرتي. ثم بكى عيانًا بيانا.

قال أفورقي قبر إييسوس في تلك الأيام الصعبة:-

رائحةُ الموتِ تخيّم على الأرض، النسورُ والضباعُ والغربان والذئاب مشغولة في أكل لحوم البشر في كلّ غابةٍ وفي كلّ بيت، كان من الطبيعي أن يترك الناس عشاقَهم وأصدقاءَهم يواجهون الموتَ وحدهم، حتى الأمهات والأطفال لا يتراحمون فيما بينهم، كانت المقابر بمثابة الملاذ الآمن، لكن الكثير من القبورِ تم نبشها من قبل الضباعِ والنسور .


لم تتوقف محنةُ "حلحل" على هلاك الماشية، فقد هبطت أسرابُ الجرادِ أيضًا على (عنسبا) و (بقوس)، هبطت عليها كعاصفةٍ ثلجيةٍ كثيفةٍ تحجب السماء عن الأبصار، خلال دقائق معدودة قضت أسرابُ الجراد على الغطاءِ النباتي في المنطقة بأكملِها.

حتى (الشبخة Shbakha) التي تشتهر بديمومةِ خضرتِها تمّ انتزاع أوراقها الخضراء، فأصبحت شبيهة بأشجار (الأكاشا) التي لا حياة لها في الصيف في منطقة سمهر، لم تتبقَّ عشبةٌ واحدة، أو شيءٌ من الخضرةِ حيث قام الجرادُ بحلق الأرض فجعلها تبدو كأنْ مرّتْ عليها ريح عاتية، بل يحكى أنّ الجرادَ قد نزل على طفلٍ ليلعق لحمه حتى الممات فأطلق عليها الناس الحقبةَ التي توقف فيها الزمن، كانت رائحةُ الموتِ تملأ الهواءَ، أما الجثث المتبقية من وجبات الضباع كانت مشهدًا يوميًا مألوفًا، فبدا البحرُ الأحمرُ حزينًا لخيانة اليابسة أمانتها.

في فجر اليوم التالي، سحب نورالنبي الناقةَ (شمال) لمغادرة القرية التي ولدتْ فيها، كانت تحمل الطفلين وأمهما على ظهرِها عندما استدارتْ نحو (رورا منسع) لترك (فانا) خلفها مرةً وإلى الأبد، رفعت (شمال) رجلَها لتأخذ خطوتها الأولى تجاه خدمتها الأخيرة تعبيرًاعن ولائِها وبطولتِها، عندما بدأت شمال بالتحرك لم تكن الشمسُ قد أشرقت بعد.

نواصل بمشيئة الله... في الـحـلـقـة الـقـادمـة

Top
X

Right Click

No Right Click