رواية ملف نورالنبي بخيت - الحلقة الأولى
ترجمة وتقديم الأستاذ: موسي عَوِلْ خير - كاتب إرتري تأليف الكاتب الإريتري: تسفاي قبرآب
الفصل الأول: وداعاً فانا
كل عمليات البحث عن الطعام في قريته باءت بالفشل،
عاد إلى منزله بروح مرتعشة، كان يتفجر غضباً، لكنه لم يجد أحداً يمكن أن يفرغ فيه حنقه، لذلك قام بتنفيس حنقه على نفسه وعلى أم أبنائه الاثنين، لم يأكل لأيام مضت، لذا فإن صوته كان عصياً على الخروج من حنجرته، هاهو وقد لامس اليأس والقلق كبريائه الأبوي العميق فكان قاب قوسين من الجنون.
هذا غير مقبول! لأن أرواح آبائي وأجدادي سوف تصاب بحزن عميق لو تم الإعلان عن هلاك سلالة سمرچون semersion التي تنحدر من عائلة فِرِمْ حَقْ بن أبْرِهِمْ، وعائلة چَوَّاقْ من عائلة موسى mussi، وعائلة سَمْرَا من ناشح بسبب مجاعة، ثم كيف أن شجرة عائلة بخيت أن تنتهي بنور النبي، لا أستطيع دفن أبنائي، بل هم من يجب أن يواروني الثرى، لا يمكن أن يحدث هذا، لماذا الاله هكذا بلا رحمة؟ مالذي جنيناه لنستحق كل هذا العذاب؟ هكذا قالها من هول المصيبة وهو المؤمن بقضاء الله وقدره.
رفعت زوجته زهراء رأسها من المكان الذي كانت تنام فيه ملفوفةً في خرقة من القماش، قائلةً له: إجلس يا نور النبي، ألم تجد حتى بعض حبات الحمص المتناثرة؟ لا شيئ؟ أتيت بيدين خاويتين؟
فرد عليها قائلا: "إنه لأمر مدهش، لا توجد هناك حبة ذرة واحدة يمكن شراؤها في أي مكان في هذه المنطقة، جميع الناس هنا في (فانا) هربوا، عثمان فكاك ذهب إلى بركا هو وأسرته، حربوي دفن زوجته وأبناءه الاثنين وهاجر إلى مصوع، أما منى حليب منتل زوجة مصطفى النبي تنام على الرماد بالقرب من الأثافي بعد أن وارت زوجها الثرى، وإبراهيم سعيد خليفة ليس بالمنزل، حتى صديقي وقريبي "حربه" غادر هو وزجته وأطفاله دون أن يخبرني، وأن مغادرة حربه هي أكثر ما كسرني، حتى أنني لا أعلم إلى أين ذهب، من بقي منهم؟ نعم عمر عثمان أيضا غير متواجد في منزله، حتى "نابوتي" دفنت زوجها بنفسها ثم أخذت أطفالها إلى بركا، بهدوراي، محاري، بتراي..."
كان نور النبي منهاراً من أعماق أعماقه، لكنه لم يتوقف فأردف قائلاً: الحليب توارى عن الأنظار، لمدة كم من الزمن لم نر حليباً؟ حتى الدخن أصبح بعيداً عن متناول الأيدي، أصبح الحصول على الذهب أسهل من الحصول على الدخن، لم تشهد منطقة بقوس في تاريخها خراباً ودمار مثلما تشهده الآن، لا توجد أمطار، السماء خالية، تفرقت السحب وذهبت إلى غير رجعة، إن لم تمطر لن نجد حتى أعشاباً نمضغها، الآبار جفت، ماذا علينا أن نفعله؟ إنه حكم الله، فقد نبذنا الله عن رحمته، هذا كل شيئ، يا للعجب! ولكن لا يمكن أن يكون الله مستمتعاً بمصيرنا هذا، كمصير الفأر تحت رحمة أنياب ومخالب القط.
نهضت زهرة من وضعية الإتكاءة التي كانت عليها بعد أن بذلت جهداً كبيراً ثم قالت: إنها عقوبة إلهية، هو من أنزلها علينا وهو رافعها، كل شيئ بإرادة الله، نور النبي لا تتلفظ بكلمات ليس لها معنى ولا قيمة، الله كريم، الحمد لله.
الصبيان الاثنان يجلسان القرفصاء بجوار الأثافي بينما يستمعان بإهتمام إلى الحديث المحبط الذي يدور بين والديهما في زمن العقوبة هذا، كان ادريس نور النبي في عمر التاسعة بينما آدم كان في السابعة من عمره، كان الطفلان أحياناً يلقيان نظرات خفيةً ووجلة على والدهما الذي يتصبب غضباً، بعد أن هدأ نور النبي من ثورانه جلس إلى جانبها يفرك شعر رأسيهما بلطف ثم قال لهما متمتماً بسخط: ادريس ابني، آدم إبني، أنا لن أدفنكما، يجب أن لا تموتا في هذه الظروف، هذا لا يمكن أن يحدث، لن أدفنكما كما فعل مصطفى بأطفاله، الحمد لله.
ثم إلفت إلى زوجته زهراء موجهاً لها سؤالاً مزعجاً "ما مقدار الطعام الذي بقي لدينا؟" فردت عليه قائلة: "حفنة من الحمص والقليل من اللحم المجفف الذي كنت قد خبأته بعيداً، يمكن أن نبقى على هذا حتى الأحد القادم ان شاء الله".
قفز نور النبي واقفاً على قدميه نحو الخارج، القفص الذي كان يضج بصوت الدجاج قبل عام الآن يلفه صمت مطبق، والحظيرة التي كان يرسل منها الماعز سيمفونيته إلى الفضاء خالية، أما مجمع الأبقار الحلوب والثيران التي كانت تجتر شبعاً فقد أصبحت يباباً تذروه الرياح، لا توجد أي إشارة أو بقايا لتلك المواشي التي كانت تملأ حظائره، فضلات السماد والدجاج أصابها الجفاف ثم تحولت إلى غبار، في منتصف المجمع تقف الناقة "شَمَالْ" الحيوان الوحيد الذي يتحمل الجوع والعطش، عليها الظهور لتخبر القصة وتروي الكارثة، لكنها الآن تقف دون حراك، تقف هناك كذاك الجبل الذي بالجوار "جبل شالوكو".
اقترب منها ثم فرك على رأسها، مرت عليها أيام لم تتذوق فيها طعم الماء، وبالطبع الطعام بعيد عن متناولها، جلدها قد إلتصق بعظامها، تبدو كمن لا حياة فيها، فكر نور النبي في ذبحها مرات عديدة، لكنه صرف النظر عن الفكرة لإدراكه بعدم وجود لحم يمكن أن تمدهم به، فهي الآن مجرد عظام يكسوه جلد، فأستمر في فرك رأسها في محاولة لمواساتها.
عاد بذاكرته لأمها "هِمَالْ" التي تنحدر من سلالة باكستانية مختارة بعناية، في الفصول التي تمتاز بالرخاء كانت همال تمدهم بالحليب، كانت تحلب في اليوم أربعة مرات بما يقدر عشرون لتراً من الحليب في اليوم الواحد، تعود أسلاف شمال وهمال إلى عهد المؤسسين لسلالة موسي، واحداً من ذرية شمال واسمه "قالول" تم ذبحه قبل شهر وأخوه "قوسول" هو فقط من كان له عائد مادي من بيعه لشراء حبوب، إن أجيالاً من عشيرة سمرچون شهدت ازدهاراً بسبب الحليب واللحم الطازج والمجفف الذي كانت تمدهم به هذه المخلوقات المباركة، كانت شمال آخر هذه السلالة، قال لها نور النبي هامساً في أذنها "شمال أنت إله" وكان يعني ذلك من كل قلبه، لأنه في تلك اللحظة كان يثق في شمال في أنها من سيساعده على الهجرة بعائلته، ففتحت شمال عينيها ونظرت إليه، كانت تبدو وكأنها فهمت ما يصبو إليه، لكن عيناها كانتا ذات نظرات متحجرة.
هامش:
ورد في الكتاب أن نور النبي من عائلة سمرچون التي تنحدر من عائلة موسي بن فرم حق بن أبرهم، وبما أن القصة حقيقية ولتثبيت المعلومة بحثت عن صحتها وبعد البحث الأولى بالتواصل مع بعض العارفين تبين لي أن عائلة موسي لا توجد بها أسرة تسمى سمرچون إلا إذا كانت من الأسر الصغيرة المتأخرة جداً وجاري البحث للتأكد أكثر، بالإضافة الى أن موسي هو بن فرم حق بن قبرخستوس بن أبرهم بن طوقي، وفي حال وجود شخص يمكنه تأكيد المعلومة نأمل التواصل مشكوراً.
نواصل بمشيئة الله... في الـحـلـقـة الـقـادمـة