شنكيباي بين أسطرة الواقع وتدجين الأحلام للكاتب الإريتري محجوب حامد
بقلم الأستاذ: أشرف دسوقي علي - شاعر وناقد وعضو مجلس إدارة اتحاد كتاب اسكندرية المصدر: الجمهورية اليوم دوت كوم
مجموعة شنكيباي للقاص الإريتري محجوب حامد تسلط الضوء علي واقع وشخوص
و أحداث تتمتع بالبساطة والتلقائية، تراوح بين الواقع والحلم والوهم أحيانا، ويضفر بينها جميعا في سلاسة متناهية دون تقعرأو افتعال حتي تكنيك الكتابة من فلاش باك والمزاوجة بين الواقع والأحلام عبر التشويق وتشظي للزمن وتداخله ماض وحاضر ومستقبل لا يبدو للقارئ علي أنه مقصود لذاته، لكنه مستخدم لخدمة تطوير الحدث، حيث يجتذب القاريء نفسيا إلي حيث يريد، عبر استلهام بعض المواقف الحياتية التي يتعرض لها المواطن الإريتري من حب وهجر واغتراب ووقوع في وهم السحر وفك الأعمال عبر دجالين يتخفون في زي رجال دين، ورغم اختلاف بعض المسميات إلا أنك في نهاية المطاف لا يسعك إلا أن تلمس حقيقة لا فرار منها هي أن معظم إن لم يكن كل ما يمارس من عادات وتقاليد وما يصادفه البطل الإريتري ومايعانيه أيضا هو كل ما يعانيه ويصادفه المواطن العربي في كل مكان في وطننا العربي، فالوقوع في الحب وفشل التجربة ومحاولة استعادة ذكريات اللقاءات العاطفية وشعور الطرف الآخر بالحنين والشوق ولو عبر اتصال هاتفي خاطف والتقاليد الشعبية في عاشوراء والأعراس واحتفالية استقبال الغائب تتشابه في مضمونها مع مايحدث في كل الدول العربية وإن اختلفت بعض المسميات وطرق الاحتفال، فشنكيباي إريتريا هي شنكيباي السودان وإن كان تحت مسمي آخر هو السنكاب ويقال أنه مستوحي من عادة يمنية قديمة أيضا، وشنكباي إريتريا في لغة التجريت حزمة من جدائل السعف،أو الدوم المربوطة بقطعة قماش حمراء معلق عليها بعض من الخرز والودع وبعر الإبل، رمزا للخصوبة وطرد الأرواح الشريرة ومنع الحسد والعين، ويدل بعر الإبل علي الثراء، وهي جميعا دلالة علي حزمة الأمنيات الجميلة التي تعلقعند مدخل العروس الرجل يوم الزفافولا يقتصر استخدام الشنكيباي علي كونها طقسا يمارس عند العرس، بل تمتد إلي الاحتفال بعاشوراء وعند شح الأمطار وعند زيادة هطولها أيضا.
ويتم ربطها ببعضها جيدا وهي من الدلالات المعبرة عن الفرح، وتوضع أمام باب العروسالذكرخاصة،فشنكيباي هي الفأل الحسن وهي البهجة، كما أن لهم فيها مآرب أخري! كما يتماهي الاحتفال "بمعشورا"، "عاشوراء" بلغة التجريت اللغة الرئيسة في إريتريا يليها في المرتية الثانية اللغة العربية ؤسميا، ويلاحظ التقارب بين اللغتين، ولا يخفي أن للغات المحلية دائما أصول وأنها عبارة عن روافد للغات كبري رئيسة كالغة العربية، خاصة أن كثير من القبائل ذات أصول عربية نزحت من شبه الجزيرة العربية كبني عامر والرشايدة علي سبيل المثال وبلاد الشام بلغتهم العربية ومعتقداتهم الإسلامية وعاداتهم وتقاليدهم، ولا شك أن الاختلاط يخلق لغات وعادات مشتركة، قد يلتقي فيها معظم المجتمعات.
وما يخفي علي كثيرين في تاريخ هذا البلد هو أنها تفخر بكونها أول بلد بني فيه أول مسجد في العالم للمهاجرين المسلمين، فلا غرابة إذن أن تكون معظم العادات والتقاليد ذات صبغة إسلامية وأنها استطاعت عبر ألف وأربعمائة عام أن ترسخ قدمها وتوثر وتتأثر بالثقافة والتقاليد المحيطة بها.
وعبر هذا التثاقف تنمو العادات وتتبدل بعض خصائصها / ليظل الأصل واحدا رغم كل شيئ، فالبليلة الإريترية هي المصرية تقريبا، لكن العنصر الرئيس المكون لها مختلف، ففي إريتريا يكون عنصر الذرة هو العنصر الرئيس، بينما في مصر يكون عنصر الغلة حبة القمح.
تتكون المجموعة القصصية شنكيباي من ست قصص فصيرة متفاوتة في الطول، لكنها لاتخرج عن إطار تصنيفها، فلا تغوص في تفاصيل الرواية ليعاب ذلك عليها، ولا تقنفي لعبة الجمل الشعرية، بل تحتفظ بتوازنها التركيبي لتحفظ قوامها كقصة قصيرة، تستخدم تقنياتها بدقة، نادرا ما تستخدم الحوار إلا لضرورة، كما تتجنب الإسهاب في الوصف جاءت القصص الست علي النحو التالي:
1. عند حافة الحلم،
2. وجه الصباح،
3. معشورا،
4. ليلة رأس السنة،
5. كذبة إبريل،
6. خسران.
وبالرغم من أن القصص تستقي أحداثها من الواقع وأن شخوصها يتمثلون لحما ودما ألا أنهم في معظم القصص مجرد أحلام وأمنيات ؤغم واقعيتهم المؤكدة، فرأس السنة وكذلك كذبة أبريل ما هما إلا وهم، وقبلها عند حافة الحلم أكبر الأوهام رغم واقعيتها و كذلك القصة الأخيرة خسران! فالبطل المحبط المغترب الواهم يصحو دائما علي لاشيء أو يلاحق السراب أو يعود إليه فلا يجده شيئا!
تنوعت الشخوص بين رجل وامرأة، في موازنة تلقائية ربما غير مقصودة، تنم عن نفسية سوية ترصد "لا سواء" المجتمع والظروف والفقر والقهر والاغتراب والحب الضائع والوهم والخداع.
بطل كل قصة بطل عادي، تشبه ملامحه ملامحنا تقريبا، يقع تحت طائلة نفس ظروف الشباب في أنحاء الوطن العربي، يمارس السلوكيات نفسها تقريبا، فبطل عند حافة الحلم يسير في شارع "كمبشتاتو" لا يلوي علي شئ غير مشاكسة الفتيات والهروب من الحر والرطوبة إلي الكافيتريات المكيفة والفتيات الجميلات وكشاب يأتي من ضاحية إلي العاصمة أسمرا، فلا بد أن تصيبه ابتسامة فتاة برعشة تشبه رعشة الملاريا، كما يؤنسن الأشياء عندما يدق جواله، يرتعش البنطال، لكن شتان مابين الرعشتين! رعشة الفرح وعودة الأمل ورعشة الحزن وفقدان المستقبل.
تلوح ومضة في ثاني القصص وجه الصباح لوجه طفولي، فتاة اعتادت الذهاب إلي النهر مرات ثلاث لملأ جرارها، فيجاملها أحد الضيوف بقوله: وجهك كالصبح، فما كان منها إلا النظر في صفحة النهر لتتساءل وتتحقق مما قال، ثم ما تلبث أن تتساءل ثانية في فلسفة تكاد تكون لفيلسوف محنك: إذا كان وجهي يشبه الصباح فماذا يشبه الصباح؟ لتطالعنا قصته الثالثة "معشورا" التي تعتبر بحق هي قلب أو لب مجموعته، فهي فتنة الشنكيباي وطقوسه بين السعف والبليلة والغناء ودق الطبول، التقاليد الموروثة وبهاء الواقع وإشارة إلي التمسك بمعتقدات السابقين حيث لا تدوم البركة إلا والأثافي في اتجاه القبلة فنتعرف علي أنشودة محلية يقولون فيها بلكنتهم:
يارب عفو دينا سلمنا ونجينا
تاكو تاكينا
عد ربي آتينا
في حضرة البخور العدني وحفنة الذرة المخزنة للعام القادم ولغائب لم ينل نصيبه من بليلة اليوم ولجنة زكاة المسجد وخروج الأطفال واحتفالهم حيث يتجمعون في الباحة الوحيدة المتسعة لكل المناسبات يغنون جميعا محتفلين بعاشوراء:
عاشوراء عاشوراء
اهدنا أمانينا الجميلة
واطلِ أظافرنا بلون السماء
وهم يتراشقون بثمار النبق في ضحكات مجلجلة، ويستخدم الكاتب تكنيكا يراوح بين الحلم واليقظة، وقصة داخل قصة، فأبي محمد يستند علي راحة يده اليسري فيغفو قيداهمه كابوس بموت ابنه الذي يتحقق وفقا لنبوءة قديمة، وسرعان ما يصحو باحثا عنه، فيجده نائما ولم يغادر إلي الباحة يوم عاشوراء، والذي توعدته النبوءة بالموت إن خرج لها ذلك اليوم خاصة!
ليتكرر تكنيك الحلم اليقظة ثانية في قصة رأس السنة حيث ينتظر البطل صديقه العائد من السغر لتفاجئه حبيبة سابقة بلقاء وقبلة وموعد يوم غد - حيث احتفال ليلة رأس السنة - فيبتاع وردا ويغني يا حبيبي كل شيء بقضاء، في سخرية يباغته بها م صديقه الذي عيره بأوهامه، لكنه كان مصدقا لماحدث وكنا نحن معه، لكنه يصحو من غفوته ليجد كل شيء قد تبخر وأن ما حدث لم يعدو كونه خيالا لم يتحقق منه شيء، في حين تأتي كذبة إبريل وهي بطولة نسائية هذه المرة، فتاة وصفت بأنها مسحورة تعاني أوهام الحب الضائع - وكما في كل المجتمعات وخاصة البدائية، يكون للشيخ - الدجال جبريل - الهيمنة بالقدرة علي العلاج عبر طقوسه الشيطانية ومطالبه الخرافية، لتنتهي المجموعة بقصة الخسران حيث يصدرها بآية قرأنية تصم فعل الشاب الذي خرج ولم يعد، ثلاثين عاما، وهو الجرم الذي لايغتفر، فهؤلاء لا يعترفون بالنزوح عن أرضهم مهما كانت الأسباب.
بين الحلم واليقظة استطاع صائغ هذه المجموعة أن يصنع قصصا من الحلي باستخدام عناصر صاغها من مفردات بسيطة وجمل غير معقدة وتكنيكات مألوفة، لكنه صنع الدهشة والمتغة دون تقعر ودون إسفاف، مبشرا بقاص ذي نكهة خاصة يمزج بين الروح واللغة والتراث العربي والواقع المحلي الذي يحياه في سيمفونية عذبة، من الصعب أن تجدها لدي غيره بهذا العمق وهذه السلاسة.