رامبو الحبشي أجنحة جديدة لنعال الريح

بقلم الأستاذ: المثنى الشيخ عطية  المصدر: القدس العربي

يا لحسن حظ ّهذا الشاعر طفلاً، وتاجرَ البنّ والسلاح بالغاً، أو يا لسوئه في الحالين إن تفَكّرنا

رامبو الحبشي 2

في عذابه بكليهما، أن يحيا كلما فكر عشاق الشعر والأدب والتجديد أنّ جَرّته امتلأتْ من ذهب الاهتمام، على امتداد الأرض، محققاً ما وصفه به الشاعر مالارميه: «العابر الهائل بنعالٍ من ريح». ويعني عبور جسر الخلود، في الوقت الذي يخطو فيه شعراء كبار، على الأخص في عالمنا العربي، بنعالٍ من رصاصٍ، تقيدهم عن العبور، على ما ارتكبوا من آثام الحياد أمام المجازر، إن لم يكونوا أيدوها، والأمر سواءٌ في الحقيقة على من يوضَع في مكانةٍ تفرض إثقال الخطواتِ أكثر فأكثر برصاص الصمت.

الروائي الإريتري حجّي جابر، يضيف ورقة خضراء إلى شجرة العابر الهائل بنعالٍ من ريح / الشاعر الفرنسي آرتور رامبو، بروايته التي وضعها تحت عنوان «رامبو الحبشي»، مدلّلاً منذ البداية على الجزء الثاني من حياة الشاعر في كونه تاجر البن والسلاح في إثيوبيا، وهو الجزء الذي اكتنفه الغموض، وبات ساحةً للبحث الذي يبقى ناقصاً ويكمله الخيال المستند على الأغلب إلى رسائله لأمه وأخته.

حيث أن شعره وما يحيط به قد توقف بشطر سيفٍ لا يرحم عن اللحاق به، مثلما فعل جابر في متابعة حياة هذا الشاعر بحثاً وخيالاً، والخروجِ بروايةٍ مميزة حقاً في استنادها بقوة على تحليل عميق لعناصر بحثه. لا تنقصه العودة إلى ماضي شعره، ومِزَق حياته المؤثرة بحاضرِ زمنِ جزئه الثاني، وبالأخص علاقته المِثلية الملتَبسة بالشاعر فيرلين، وفي استنادها الأكثر صعوبة، على خيالٍ صارمٍ في نسجه بخيوط تحليل نفسي عميق بقدر شطحه في مدّ حياة رامبو إلى تأثيرها، ليس في القراء الشغوفين بتفكيك أسرارها فحسب، وإنما كذلك وهو الجديد الذي يضيفه جابر إلى هذه الحياة: تأثيرُها فيمن رافقوها حقيقةً إلى لحظة رحيلها الذي لا عودة فيه، وبعمقِ ما لا يمكن للإنسان الانفصال عنه، ويشكل جوهر وجوده / الحبّ، الذي لا ينفصل عن الكراهية / قرينه الذي يعيش معه دون أن يستطيع التغلب عليه؛ والحبّ الذي تَمَثّل في علاقةٍ مستحيلة التحقق لتداخلها بالمِثلية، بين ثلاثي الرواية: رامبو، ألماز، جامي.

ونستطيع إضافة رابع لهذه الثلاثية، بتأكيدِ منحه حياةَ المتداخل والمؤثر فيها، هو مدينة هرر، المكان الذي منح شخصيات الرواية الثلاثية ألَقها، ومنح الرواية جريانَها وتماسكها، وإسباغَ وصف رواية المكان مضافاً إلى رواية الحب المستحيل عليها، وختَمها بشاعريةِ فتحِها إلى قلوب القراء الذين يعيشون زمن انفتاح العصر على معالجة المثلية بالتفهم والرحمة والإقرار بالحقائق، ولكنْ، ليس دونما شهر السيوف على رقابها كذلك.

في حبّ روايته المستحيل الذي أوصلها إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، البوكر 2022، يشكل جابر روايته في بنية شاعرية متناغمةٍ كما الحكاية في الرواية نفسها، إن أوجزها القارئ عاريةً من أبعادها العميقة المتداخلة مع أبعاده بـ: فتاةٌ، هي ألماز، بطلة الرواية الأساسية، وإن أخذتْ الروايةُ اسم محورها الشاعر الفرنسي الشهير رامبو، إنْ لم يكن الروائي قد أمِلَ منها أن تكون قرينَه.

تعيش حلمها بالانتقال من حياة أهل السهل الذين يعيشون على أطراف مدينة هرر الحبشية، في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر، فقراء، منبوذين وممنوعين لكونهم مسيحيين من دخولها، كمدينة مقدسةٍ، محرمة على غير المسلمين، وتثير بهذا مخيلة وشغف أجيال السهل الذين يعرفون كذلك أنها مدينة أسلافهم، كما تثير شغف الأوروبيين الذين تُشغل مخيلتَهم وتثير شغفها عوالمُ الشرق المحجوبة الحافلةِ بأسرار التجارة والغنى والمحظيات.

تعطف الفتاة على فتى فقير من الأشتات، يصغرها بعامين في المدرسة، هو جامي، يتعلق بها حباً لا تبادله إياه، ولا يمنعها من الهرب عن أمها، ودخول المدينة المحرمة، والعيش فيها بائعةً لعشبة القات المقدسة في سوق هرر، بعطفِ ومساعدة صديقةٍ مسلمةٍ لها هي كلثوم. تثير الفتاة بهربها حقدَ محبّها المخذول عليها وعلى العالم، ويتقاطع قدرُها مع شاب أوربي هو الشاعر رامبو، الذي انفصل عن حياة الشعر، ودخلَ هرر تاجراً بالبنّ كمسلم سمى نفسه «عبد ربه» ونال احترام وتقدير الأهالي.

تعيش الفتاة التي تساعد الشاب الأوروبي المميز بسحر داخلي غامض، على تعلم الأمهرية مقابل تعليمها الفرنسية، حبّاً ممضاً يرهقها، حيث لا يبادلها الحب، وتتحول حياة العاشقة بدخول جامي الحاقد إلى هرر مع ملك شوا مينيلك الذي أسقطها بفضل أسلحة الأوروبي العامل سراً بتجارة السلاح، وحوّلها إلى مدينة مسيحية أفقدها تدميرُها وفسحها للجميع سحرَ تحريمها.

كما تتحول حياة الثلاثة إلى ما لا يمكن العودة إليه، وإلى غياب الثلاثة في المآلات التي صنعتْها تداخلات علاقاتهم، بإقامة رامبو علاقة مثلية مع جامي الذي أصبح خادمه في تحولات هرر، وانكشافِ هذه العلاقة لألماز، ومرضِ رامبو، وبقاءِ المكان الذي طبع الرواية بروحه، مقدساً محرّماً حافلاً بسحر الغموض، ومدمّراً بالمجازر ممسوخاً بالتحول وعادياً بتفاهة الفسح: «وحدها هرر بقيتْ على حالها، تنادي على الحالمين وتعِدَهم وتُمنّيهم، دون أن تنتبه الأفواجُ السائرة إلى حتفها، كيف يبدو الأملُ أحياناً حبلاً يقود إلى الهاوية، فيما نظنه المنقذَ منها. وكيف كان سيبدو كل شيءٍ مختلفاً لو استطعنا أن نخرجَ من أنفسنا للنظر إليها مجرّدين من ذلك الأمل. بقدْر ما يتعلق الأمل بالمستقبل؛ فإننا لا نراه على تمامه إلا حين يُصبح ماضياً».

فيما يحيط بهذه الحكاية الشاعرية، ويحولها إلى رواية آسرة بأبعاد الرواية الحديثة، يكوّن جابر بنيته الروائية بواحدٍ وعشرين فصلاً تأخذ أرقاماً بدلَ العناوين، ويقدم كلاً منها بجملةٍ من شعر رامبو، مختارةٍ من ترجمات الشاعر كاظم جهاد، لتخيّم بروحها على الفصل، مسبغةً عليه شاعريةَ وشفافيةَ التداخل.

ويبث جابر في هذه الفصول أبعاد بنيةٍ عميقة للحبّ المستحيل، يمركزها في ملكة الرواية، الفتاة العادية الحالمة، بائعة القات ألماز، التي تقع في حبّ شاعر لا يحب إلا نفسه كما يبدو في الجانب المظلم من شخصيته الكريمة في جانبها المشرق. ويرسم جابر شخصيتها كما لو كانت قرين رامبو، إنْ شطح القارئ بمخيلته واعتبرها كذلك، حيث تصل الفتاة بعد انكسارها من كشف علاقة رامبو بخادمه الذي أصبحت تشك في حقيقة حبه لها كذلك، وبعد إلقائها اللوم على جسدها الذي شكلته عادات حجب جسد المرأة، وشعورها بكراهيته، ومن ثم تصالحها معه، إلى أن تحلّ محلّ من قهرها: «حين استقمتُ لأغادر، في تلك اللحظة بالضبط خطر ببالي أمرٌ تملكني تماماً. هذه الرغبة التي استبدّت بي هي تقمّص رامبو، كأني أريد أن أصبح هو.

لا أعرف هل هو اشتياق أم حقد، لكني أرجح أني أفعل ذلك نكايةً به، فقد قاوم بشراسة وإصرارٍ كلّ محاولاتي لأكون قربه، وها أنا ذي أنتقم منه، ليس بالاقتراب منه فحسب، بل بتقمّصه والدخول فيه. هل ثمّة قرب أكثر من هذا، أنا أنصهر به تماماً، آخذ ضحكته، طريقته في التأّمل، سأمه، اندفاعه، وحدته، أجلس على منضدته، أكتب بأقلامه، على أوراقه. وتماماً كما فعل، سأردّ له الطعنةَ وأكتب الكثير دون أن أراه. سأمّر عبره دون أن يحضر بحرفٍ واحد. ماذا تبقى؟».

ولكن هل يمكن استمرار هذا التقمص لشاعر يرشق جابر صفاتَه كشخصيةٍ لا تستقرّ على حالها خلل الرواية، كما لو كان لعنةً على نفسه وعلى الآخرين، لا يعيد تكرار شيء كما هي البذرة التي تسيّر حياته: «نحو أفق، أسود أبداً، هناك، حيث يرتعش بحر الزمرد» كما يعبّر في شعره؟

يجيب على هذا الراوي العارف، بحكمة جابر، هيهات، وكما هي حياتها العبثية: «وعلى خلاف مقصدها، لم تكتب إلا عن الرجل من حيث أرادت تجاهله».
كما يبثّ جابر في بنيته العميقة، أبعاد شخصية مكانِه المختار الذي تتفاعل معه الشخصيات ويوجّه مصائرَها بهذا التفاعل، مدينةُ هرر التي تعاني تحولاتُ احتلالاتٍ وأديانٍ تقود إلى المذابح، في تعاطفٍ إنسانيّ مع المكان وأهله، يتناغم وتعاطفه مع شخصية رامبو الكريم في جوهره، والمتحول نتيجة معاناته، وأحلامه بالثراء السريع إلى أن يكون تاجر سلاح لا يأبه بما يجرّه السلاح على مصائر البشر، كما إخفاقاته المستمرة في تجارة البنّ، تحت عين شاهدة مصائر البشر: بائعة القهوة التي تملأ فناجين قهوة القدر، بعبثها.

وفي هذه البنية العميقة الحافلة بتحليل نفسيّ ساحر للشخصيات، وتشويقٍ ترسمه علاقات دواخلها أكثر من أحداث خارجها، يطلقُ جابر تدفّق روايته، بمنظومةِ سردٍ بسيطة متناغمة مع جميع أبعادها، يستخدم فيها صيغة سرد الراوي العارف، بميّزة أسلوب إثارة التساؤل، عن جريان الأحداث في الأغلب، ويداخل معها صيغة سرد الأنا على لسان بطلة الرواية، حول الأحداث والأحلام والآمال والانكسارات والمصائر. كما يبثّ في منظومة سرده نبضاً حيّاً أكثر من خلال التلاعب بزمن السرد حيث يبدأ الرواية من نهايتها تقريباً ويعود بها إلى الخلف ليروي بداية الأحلام والأفعال واللقاءات والأحداث، وما يلبث أن يقاطع سرد توالي الزمن في نقاط محددة يخلق فيها التشويقَ بالعودة إلى نقطة بداية الرواية/ النهاية، لتقرير المآلات.

حجي جابر: «رامبو الحبشي»
منشورات تكوين - طباق للنشر، رام الله 2021
263 صفحة.

Top
X

Right Click

No Right Click