ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة السادسة والأربعون
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
الوساطة الأمريكية:
أنت تقول يا أخ عمر، أن الولايات المتحدة تتحرك ويمثلها رئيس جمهورية أسبق، وهو جيمي كارتر،
وأنها تلعب دوراً ضاراً، حيث حصرت وساطتها في تنظيم الجبهة الشعبية بقيادة أسياس أفورقي، مستثنية باقي الفصائل الأرترية الوطنية، ذات الوجه العربي، وإنها شرعت في اطلنطا في الولايات المتحدة الأمريكية بالمحادثات.
بعد هذه المعلومات سألني عمر: "ما هو الواجب الذي علينا فعله؟" وعمر برج رجل ينفعل، عند أول كلمة تقولها له، ويعتبر الكلام والحوار موجّهاً إلى شخصه، كان عمر برج رجلاً نزقاً.
قلت: "يا أخ عمر أنت طبعاً، اطلعت على البلاغ النهائي، الصادر عن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، والذي جرت المحادثات بإشرافه، في اطلنطا بولاية جورجيا، بالطبع قرأتها كما قرأناها كلنا".
أريد أن أسألك سؤالاً واحداً فقط: لماذا لم يدعكم السيد/ كارتر لحضور هذه المباحثات؟ أو بالأحرى لماذا لم يدع أحداً من التنظيمات الأخرى لحضور هذه الاجتماعات؟.
الجواب بسيط ومعروف وله شقان
الشق الأول: "هو العلاقة القديمة الجديدة بين الأمريكيين والجبهة الشعبية".
الشق الثاني: "أنتم وكما قلت لكم - لا تشكلون قوة لها وزنها وكلمتها، في الساحة الارترية أليس هذا صحيحاً؟".
أجابني برج: "أنت دائماً متشائم وهجومي".
قاطعته قائلاً: (أنا لست متشائماً وهجومياً، إنما خلق الله لي عقلاً، بعقلي هذا أرى وأعيش الواقع. فعندما قرأت البلاغ النهائي للاجتماعات - وهذا كان علنياً بالطبع، أما السري فالله يعلم، والمفاوضون، وطبعاً السيد/ كارتر. نعم إننا نعرف علاقة الأمريكيين بالشعبية. أما علاقة الأمريكيين بأثيوبيا منغستو فهي غير واضحة للبعض. إن الطرفين اتفقا قبلاً على أن المحادثات كانت بناءة ومنتجة، فما رأيك أو رأيكم بالأحرى؟).
لم يجب السيد برج، ولا أحد، ولا أظنهم كانوا يعرفون بلقاء كارتر بعبدالله ادريس وأحمد ناصر في الخرطوم.
كان هذا اللقاء في شهر تشرين الثاني/نوفمبر، من عام 1989، في فندق الهيلتون بالخرطوم، وقد رافق الأخ عبدالله ادريس السيد إدريس حشكب ورافق أحمد ناصر كل من سيوم ميكائيل، ومحمود نجاش، وللعلم لم يخبرني الأخوة بهذا وإنما هذا من مصادري الخاصة.
وكما قلت: "إن الرئيس جيمي كارتر وأثناء وجوده في الخرطوم اجتمع بكل من أحمد ناصر والأخ عبدالله ادريس، والإثنان رئيسان لتنظيماتهما، اجتمعا مع الرلائيس كارتر في فندق هيلتون وكان بصحبة الرئيس كارتر زوجته، وعندما كانوا جالسين على طاولة كارتر، تقدّم أحد مرافقي الرئيس، وقدّم له ورقة عليها بعض المعلومات وقال لي أحد الفضوليين الأرتريين، والذين حضروا لقد نظرت بطرف عيني إلى الورقة فوجدت فيها معلومات عن أحمد ناصر وعبدالله إدريس: صدّقني يا أخ أحمد حتى الأجهزة الأمنية الكبيرة تخطئ ولا تكون دقيقة بقول الملاحظات: إن عبدالله إدريس اتجاهه سوري، وأحمد ناصر اتجاهه عراقي فما رأيك؟.
قال الرئيس كارتر لأحمد ناصر وعبدالله إدريس إنني أسعى مع الجبهة الاشعبية إلى إحلال السلام في ارتريا، ونظام منغستو سوف يسقط أو سقط، وعليكم أن تعملوا تحت راية الجبهة الشعبية، وإن قبلتكتم أم لا، فالمفاوضات مستمرة معكم أو بدونكم، وإني أتعامل مع السيد أفورقي فقط.
وللأسف إن الأخوان في التنظيم الموحّد، لم يعرفوا بلقاء كارتر بأحمد ناصر وعبدالله إدريس.
وذهب كل لحاله، أما أنا فبقيت أعيش بتأملاتي، وكنت قد حصلت على البلاغ النهائي للاجتماعات التي دارت بين أثيوبيا والشعبية في اطلنطا، وإني أقدّم لكم بعض الفقرات من هذه الاتفاقية التي رعتها الحكومة الأمريكية برئاسة اليهودي هرمن كوهين؟.
1. أظهر الجانبان التزاماً حقيقياً، نحو عملية السلام وتصميماً لمتابعة الجهود للتواصل إلى نتيجة ناجحة.
2. سيمسك سجل كامل للإجراءات وسيزود الفريقان بنسخ عن أشرطة التسجيل، مع بيان خطي بالمباحثات باللغة الانكليزية، وبعد كل جلسة تفاوض أو جولة من المباحثات يمكن لأي من الفريقين نشر هذه البيانات.
3. بالنسبة لجلسة التفتوض المقبلة، كما في اطلنطا، لن يكون هناك أي شروط مسبقة، وسيجري إعلام الجمهور عنها، وسيشترك فريق ثالث بنصاب كامل.
4. ستتم دعوة مراقبين لحضور الجلسات، ويوجد بعض الخلافات، حول اختيار ودور النمراقبين، كما يتم شرحه لاحقاً.
5. سيقوم الفريقان المتفاوضان بإختيار رئيس الجلسة أو نائبه الذي ستقتصر مهامه على تأمين الاجتماعات وجداولها وفتح واختتام الجلسات وترؤسها.
6. وفود المباحثات تتشكل، مما لا يقل عن 12 مندوباً، من كل جانب، ويقوم كل فريق بإعطاء أسماء هؤلاء المندوبين سلفاً، إلى الفريق الآخر أي بما لا يقل عن أسبوعين، قبل عقد كل جلسة تفاوض، ويحق لكل فريق تغيير أسماء الأعضاء، في الفريق المفاوض بموجب إشعار مسبق، يوجّه إلى رئيس الجلسة والجانب الآخر.
7. جدول المباحثات:-
أ) بيان افتتاح الجلسة من قبل نائب الرئيس.
ب) كلمة الترحيب من رئيس الدولة في البلد المضيف.
ت) كلمة الافتتاح من قبل رئيس كل من الفرقين المتفاوضين.
ث) الموافقة على نقاط الاتفاق التي تم التوصل إليها في المحادثات الأولية.
ج) بيان نقاط الخلاف في مباحثات اطلنطا.
ح) البلاغ النهائي.
خ) كلمة الختام.
د) أخيراً عدم الاجتماع في أي من الدول العربية.
لقد تمّت الموافقة على مهام ووظائف الرئيس ونائب الرئيس. وأحد الرئيسين يجب أن يكون زعيماً أفريقياً، وكان موقف الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا، بل أُمرت أن يكون رئيس الجلسة كارتر نفسه وإن نائب الرئيس سيعين من قبل الرئيس ومن بين الدول المضيفة.
8. أما موقف حكومة أثيوبيا، فيرمي إلى أن يتم إقرار إسم الزعيم الأفريقي، ولا يرغب أي زعيم أفريقي بالقيام بمهمته، ما لم يوافق على اتفاقاتنا في اطلنطا، ويدرك أنه مقبول من الجانبين وإذا لم يتمكن أي من الرؤساء المختارين أصلاً، من القيام بمهمته، سيتم اختيار غيره بالاتفاق المتبادل بين الفريقين المتفاوضين.
ملاحظة:
1- إن الرئيس الأمريكي الأسبق جيميكارتر كان قد اختار - مسبقاً وضمنياً - الرئيس الأفريقي دانييل آراب موي رئيس كنيا لهذا العمل، وإن كل هذا الكلام من أجل إضفاء الصيغة الديمقراطية لعمله الاقتراح النهائي للتسوية: (سيكون هنا سبعة مراقبين وستتم دعوة آخرين للحضور من هؤلاء المراقبين يمكن لكل فريق أن يختار مراقبين أثنين، دون قيد ودون ممانعة من الجانب الآخر، أما الثلاثة الآخرون فتتم دعوتهم، بالأتفاق المتبادل بين الفريقين، ويمكن أيضاً تمثيل دول أخرى بواسطة مراقبين، بالأتفاق المتبادل بين الجانبين، توافق الجبهة الشعبية على عدم إبداء أي تحفظ أو ممانعة بشأن الخيار غير القيد، وإن المراقبين سيقومون بمهامهم كشهود، وكانت الجبهة الشعبية تصرّ على أن يقوم مركز كارتر وغيرهما بتأمين عناصر السكرتارية.
2. ويصرّ الجانب الأثيوبي على أن نائب الرئيس سيختار من عناصر السكرتارية الذين يستخدمون بصفتهم الفردية.
3. قال كارتر بالرغم أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق تام، حول الأمور أثناء المباحثات الأولية، في اطلنطا فإن الجانبين وافقا على الاستمرار في هذه الجهود، وقد تم تفويضي بتحديد وقت ومكان المباحثات المقبلة، وإنني أفضّل استمهال جهود السلام هذه لغاية 1989/11/18. حيث سيعقد اجتماع آخر في نيروبي عاصمة كينيا، وفي هذه الأثناء يُطلب من الجانبين السعي إلى اتفاق حول المواضيع المتبقية وتقديم لائحة المراقبين، والاتفاق على الزعيم الأفريقي الذي يعمل معي، ضمن إطار المباحثات الرئيسية.
هذا ما جاء في البلاغ النهائي والذي صدر في اطلنطا ومن القراءة الأولية يلاحظ المرء أنه يخلو من أي اتجاه للوجود العربي، كما نلاحظ أن الجبهة الشعبية تمشي وترسّخ أقدامها، واخواننا في الفصائل يتناحرون وإلى حد أن وصل الموقف بينهم إلى الاقتتال.
وفي 1991/3/20 أرسل لي الأخ رسالة يقول فيها الآتي: الأخ العزيز أحمد أبو سعدة المحترم، أرجو أن تكون بخير وفي تمام الصحة والعافية مع بقية الأخوان الكرام.
عزيزي: "لقد وصلت إلى الخرطوم من كسلا، وللاتصال بكم ووضعكم في الصورة عن آخر تطورات تنظيمنا، لاسيما بعد اكتشاف شبكة للتجسس والتخريب مرتبة، مع الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا، والغريب بالأمر أن هذه الشبكة شملت عناصر قيادية من التنظيم، وعلى رأسها محمد أبو بكر جمع رئيس المكتب العسكري سابقاً، وبعض القياديين من المجلس الوطني في حدود الستة أشخاص، وعدد من القادة وأن اللجنة التنفيذية اتخذت الإجراءات الوقائية والتنظيمية اللازمة نحوهم، وأصدرت قراراً بفصلهم من التنظيم وتتم محاكمة العناصر المتآمرة لاحقاً لأخذ التنظيم حقه.
الأخ أحمد: الوضع داخل التنظيم متماسك، والجميع ملتزمون بكل الإجراءات التي تم اتخاذها وقد تم تأجيل اجتماعات المجلس الوطني، لحين تصفية الأمور واستكمال إعادة التنظيم، وقد أطلعت سعادة سفير القطر العربي السوري في الخرطوم على كل هذه التفاصيل.
ملاحظة:
معظم العناصر المتورّطة في هذه المؤامرة، هم من جماعة أبو بكر محمد جمع وهذا للعلم، البيانات الخاصة بهذا والصادرة من قيادة التنظيم، مرسلة لكم مع هذه الرسالة، وأرجو أن تتكرم بإبلاغ الرفاق عن آخر التطورات حتى وصولي إليكم.
تقبل تحيات الأخوة
وإلى اللقاء قريباً
الخرطوم 1991/3/20
أخوكم...
اعفوني من ذكر اسم مرسل هذه الرسالة خوفاً عليه، لأنه كان من الأفراد الأوائل الذين عملوا تحت رعاية الجبهة الشعبية، وأنا للأمانهة لا أنشر اسمه وتوقيعه.
ثم وقع المحظور: فقد أرسل الأخ صالح اياي والأخ حسن عثمان كل على حده، بأن لأحضر للخرطوم للضرورة القصوى، وفعلاً نفذت ما طلب مني.
وحين وصولي لم ينتظرني الأخ حسن لانشغاله خارج السودان، وإنما وجدت الأخ صالح اياي الذي أطلعني على ما كان يدور في الخفاء وقال: (إن عمر برج ومعه حسن عثمان صاحبك، أي يقصدني بالصداقة الشخصية لحسن عثمان - وقال "صاحبك تآمر علينا مع الأمن السوداني، وإنني مطلوب الآن من قبل الأمن السوداني، وعندما كنا نجتمع كمجلس وطني دخل علينا، رجال الأمن السودانيين وهدّدونا ثم طردونا خارج المبنى، وعلّقت الجلسات، وهذا كله بسبب عمر برج وسعيد ناود ومنتاي وصاحبك حسن عثمان كنتباي وآخرون. لقد تآمروا على التنظيم ويريدون تسخير التنظيم لجهات... أفضّل عدم ذكر الأسماء.
قلت له: (إذن حدث انشقاق آخر).
وقال إننا نفكر بتغيير بعض أعضاء القيادة بمن فيهم الرئيس عمر برج فما رأيك؟.
قلت له ليس لي رأي، فهذا ما كنت أخشاه، بالأمس أسقطت أبا بكر محمد جمع ورفاقه، واليوم برج ورفاقه، وغداً ماذا سيحدث؟ ما رأيك يا أخ صالح بأن أقوم بوساطة مع أصدقائنا ونسوّي الوضع؟
أجابني صالح لقد تعاونوا مع الأمن السوداني فكيف تريدنا أن نعمل معهم؟ قلت له (دعني أراهم علني أفعل شيئاً).
وفي الصباح الباكر جاءني الأخ محمد عمر يحيى، وهو من تنظيم جبهة التحرير الأرترية المجلس الثوري.
قال لي (الجماعة تفرقوا) ولقد أجريت عدة محاولات لكي أجمعهم،لكن للأسف لم أوفّق فما هو رأيك يا أحمد؟ وخاصة أن الجماعة وصلوا إلى طلاق لا عودة فيه.
قلت له: (سوف أحاول فأنا موجود وليس هناك أي خسارة).
وفعلاً ذهبت وقابلت عمر برج الذي كان ينزل "بالجراند أوتيل".
وقلت له: (يا أخ عمر لا يزيد الانشقاق إلا انشقاق آخر، وهذا ليس لمصلحة التنظيم، لذا أرجو أن تلتقوا وأن تتفاهموا، وهذا أفضل، لقد أصبح هذا التنظيم أفراداً أما ما تبقى من الجيش، فقد كفروا بكم وبمن قبلكم ومن سيأتي بعدكم).
بالطبع لم يعجبه كلامي ولكنه قال على مضض: (إذا قبل صاحبك الاجتماع - وبقصد صالح اياي - فأنا جاهز للاجتماع به.
ولكن هذا برأيي كان مجاملة لا أكثر، ثم حاولت مع محمد سعيد ناود الذي فلسف لي الأمور ثم قال أيضاً: (إنه على استعداد) وكان في ذلك الوقت علي برحتو يتحرك شمالاً ويميناً و إدريس قلايدوس الذي كان نائباً للرئيس وفي يوم من الأيام قلت لأدريس قلايدوس: "علينا يا أخ إدريس أن نعمل سوية لإعادة التنظيم إلى ما كان عليه، وتوعدنا أن نلتقي في صباح اليوم التالي لنكمّل مشوارنا سوية، ألا وهو جمع الأخوة، لكن الأخ ادريس قلايدوس كان قد أعدّ العدة سلفاً للإلتحاق بالجبهة الشعبية، وفي الليل سافر إلى القاهرة، ومنها إلى اسمرا ليعمل مع حكومة الجبهة الشعبية، هذا هو موقف وتصرف نائب رئيس اللجنة التنفيذية للتنظيم الموحد في تلك الأيام؟.
قلت لصالح (إن الأخوة مستعدون للالتقاء بكم لإنهاء هذا الخلاف الذي سيؤدي إلى انشقاقات جديدة. ومن حديثي معه فهمت أن الأمر قد انتهى.
قلت له: افعلوا ما تشاؤون، فلن يكون هنا غير الانشقاق، ثم سافرت إلى جدة لألتقي بحسن عثمان صديقي وعثمان دندن، وقالا لي: انظر ماذا فعل صاحبك؟
قلت لهم أعتقد بأنكم أصبحتم ثلاثة تنظيمات والأفضل أن يجلس كل واحد في بيته، فعمر برج لن يتخلّ عن ارئاسة وسعيد ناود مقبول من جهات معينة، وطامح بالرئاسة، وعلي برحتو لابد أن يكون رئيساً في حالة تشكيل تنفيذية جديدة، وهذا ما حصل فعلاً.
وقال لي حسن: (يجب أن تقف جانبنا)، ثم جاءني علي برحتو ومحمود اسماعيل وإبراهيم امركاني وعبدالرحمن نكروما وكانوا يضمنون وقوفي، إلى جانبهم لأني صديق صالح اياي. والحقيقة لم أكن بجانب أحد،لقد تأثرت وأصبحت ضائعاً، كما ضاع هذا التنظيم، هؤلاء جميعاً هم... الذين أضاعوا التنظيم كما أضاعوا الجبهة، وعدت إلى دمشق وبدأت أفكر أن أعود إلى عملي الأصلي وأترك الثورة الأرترية والعمل الثوري، وخاصة أني أصبحت بعيداً عن هذه الانشقاقات، وبعيد عن الجبهة الشعبية التي لم أحاول أن التقي بأحد منها، وإذا التقيت بأحد يكون مصادفة وليس له فعل أو تأثير، ثم فوجئت برسالة من صالح يطلب فيها باسم الأخوّة والصداقة أن أقف إلى جانب الحق وأن أتابع عملي، ثم قال لي هاتفياً (لقد تم التغيير) وأرسل لي بالبريد التغييرات، التي حدثت في التنظيم، ويقول لي برسالته (إن الفترة التي امتدت من 1991/9/29 إلى 1991/10/7 تم اختيار لجنة تنفيذية جديدة، على أساس الكفاءة والإخلاص، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وتم اختيار لجنة تنفيذية جديدة، حلت محل السابقة، والتي انتهت صلاحيتها، عند انعقاد الدورة للمجلس الوطني، وفضها من قبل رجال الأمن السوداني، ثم مطالبة أعضائها بالالتزام بهذا القرار.
ثم يقول صالح إننا نسعى إلى إقامة لجنة نخولها صلاحية الاتصال بالجبهة الشعبية لتحرير ارتريا والاتصال بسائر الفصائل الوطنية الأرترية، من أجل الوصول إلى مصالحة وطنية، ثم يقول لي في رسالته: إن هناك لجنة تشكلت للتحقيق بالتجاوزات التي مارستها اللجنة التنفيذية السابقة، وإعادة الاعتبار لمن وقفوا أمام الانحرافات وتعرّضوا للطرد أو التعذيب، والنظر في إمكانية تعويضهم أو تخفيف آلامهم، ثم إعادة تشكيل أجهزة المجلس الوطني الارتري، وقد تم ذلك على هذا النحو. فلقد تم تعيين الأخ محمد صالح حمد رئيساً للمجلس الوطني الارتري، وتم تشكيل لجنة تنفيذية جديدة رأسها علي برحتو.
هذا ما تم أما التنفيذية القديمة، والتي لم تقبل التنازل، واعتبرت هذا انقلاباً فاشلاً، وبقيت تمارس عملها، ويقول كل واحد (أنا التنظيم الشرعي للتنظيم الموحد).
التناحر على أشده بين المجموعات والأفراد، وفي غياب كامل للتنظيمات المتناحرة، تم عقد الاجتماع في العاصمة الانكليزية لندن ضم الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا، والجبهة الشعبية لتحرير تجراي، وجبهة تحرير شعب الأورومو، تحت الرعاية الأمريكية متمثلة بهرمن كوهين اليهودي والصهيوني النزعة، وهو مساعد لوزير الخارجية الأمريكية لشؤون أفريقيا، وقد شارك في هذا الاجتماع رئيس وزراء اثيوبيا، ففي اجتماع لندن الذي ضم هؤلاء كلهم - وأثناء المفاوضات - جاءت الإشارة إلى ممثلهم بالإيعاز إلى ملس زيناوي رئيس جبهة تحرير تجراي، بدخول قواته إلى العاصمة أديس أبابا، فقد انهار الجيش الأثيوبي ومنغستو أم كان هناك مؤامرة أمريكية مرتبة، فهذه الرواية تقول أن المخابرات الأمريكية قالت لمنغستو: (إن الأمور أصبحت ناضجة للتفاوض فما عليك إلا الذهاب إلى كينيا للتفاوض، حتى لا تضيع أثيوبيا، وتقسم إلى دويلات صغيرة، يبدو أن الحيلة انطلت على منغستو وذهب إلى كينيا ضمن وفد كبير للمفاوضات مع الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا، والجبهة الشعبية لتحرير تجراي، وجبهة تحرير اورومو).
وعندما وصل منغستو إلى نيروبي قيل له: (أن الرئيس الكيني لن يستقبله أبداً)! ولم يُسمح له بالهبوط من الطائرة، وقالت له السلطات الكينية - عبر مكالمة قصيرة من برج المطار - عليك بالتوجه إلى زمبابوي، فلقد خُلعت من السلطة، ودخلت قوات ملس الزيناوي إلى العاصمة أديس أبابا، وهرب القادة من مدنيين وعسكريين، فأنت الرئيس السابق، لكنك اليوم الرئيس المخلوع وهكذا انتهت المكالمة.
وتوجه الرئيس المخلوع منغستو إلى زمبابوي، فهو يعيش ايوم بالقرب من هراري حيث يدير مزرعة خاصة به، إلا أن أوضاعه المالية سيئة جداً.
وقد روى لي أحد الأصدقاء هذه الرواية، وأعتقد أنها صحيحة وسمعتها من أكثر من مصدر، إلا أن صديقي أثبت لي صحة هذه الرواية: اتصل منغستو وهو في منفاه بالشيخ سعد العبدالله رئيس وزراء الكويت، وذكّره بموقفه أثناء أحداث الكويت والعراق وقال له (ألم أكن إلى جانبك؟) فما كان من الشيخ سعد إلا أن أرسل له مبلغ مائتي ألف دولار مساعدة مالية، والله يحب المحسنين!
ورواية أخرى وهي صحيحة أيضاً، فقد كان لمنغستو بعض الصداقات مع رؤساء العالم العربي، واتصل منغستو برئيس دولة عربية موجود خارج بلده وشرح له ظروفه المالية، فلبى هذا الرئيس طلبه وأرسل له مبلغ خمسين ألف دولار، ونعود الآن لاستكمال الحديث عن ارتريا، فبعد دخول قوات تجراي إلى العاصمة أديس أبابا دون مقاومة، دخلت قوات الجبهة الشعبية إلى العاصمة اسمرا ودون أي مقاومة إن تحالف الشعبيتين تجراي وارتريا نجح، وكان هذا في يوم 1991/5/4 فقد انهار الجيش الأثيوبي وتفكّك بسرعة البرق، ولم يطلق رصاصة واحدة.
إن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر نجح في تخطيطه، وساعدته الظروف، حيث انتهى وتفكك النظام الاشتراكي، ولم يبق منه سوى اسمه فقط، فالتخطيط الذي رسم من قبل الدوائر الأمريكية، كان أكبر من أن تستوعبه الفصائل الارترية المتناحرة، بل أن العرب شربوا المقلب الذي أعده الأمريكان، ولعب الدور بدقة بعض القادة من الجبهة الشعبية فاليمن الشمالي حينها كان يتبنى الحوار السلمي، بين ارتريا وأثيوبيا، وكلف السيد محسن العيني بذلك. لكن الأمريكيين يعملون كعادتهم من الخلف.
عندما سافر وزير الخارجية اليمني إلى أثيوبيا من أجل التمهيد لإجراء المباحثات، حيث أن الفصائل الارترية الوطنية، والجبهة الشعبية، قد وافقتا على هذا الحوار، وعندما كان السيد/ محسن العيني في طريقه إلى أديس أبابا، كان أسياس في طريقه إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإجراء مباحثات مع الأثيوبيين بالرعاية الأمريكية، وعند وصوله إلى أمريكيا رفض أسياس فكرة اليمنيين وبقي مع الأمريكان، بينما كانت الفصائل تنتظر لإجراء الحوار المرتقب مع الأثيوبيين، وأما أبطال وفد المفاوضات في اطلنطا فقد كان من أسياس أفورقي الأمين العام للجبهة الشعبية، وعلي سيد الذي أصبح بعدها وزيراً للداخلية، وقال: "أن سورية لم تمد الثورة الارترية إلا بسبعين بندقية سيمنوف"!!.
إذن ناك من ينتظر في اليمن، وهناك من يفاوض في أمريكيا، وعندما دخل المناضلون من الثوار الارتريين إلى أسمرا سارعت كثير من قيادات التنظيمات بالانخراط، ووضعت نفسها تحت تصرف الجبهة الشعبية.
حقيقة إنها فرحة تاريخية لا توصف، والحمد لله الذي أعطاني العمر لأرى أسمرا وقد دخلها الثوار الأبطال.
وزادت الأمور غلياناً فالمجلس الثوري بقيادة أحمد ناصر اشترط مبدأ الحوار مع الجبهة الشعبية فوافقت الشعبية على هذا اللقاء والحوار، لكي يصلوا إلى صيغة ترضي الجانبين. أما بقية الفصائل المتناحرة حيث ذهب كثير منهم إلى الجبهة الشعبية ليستلم مركزا أو منصباً لأنهم يعتقدون أنهم الأكفاء للعمل الخارجي، وكثير منهم يتصوّر نفسه سفيراً أو ملحقاً أو وزيراً، ولكنهم لم يعرفوا أن لهم أضابير ودفاتر في الجبهة الشعبية للمحاسبة، إذا لم يعملوا وفق تعليمات الشعبية عندما يحين الوقت. كثير منهم كانوا يجلسون في الفنادق والمقاهي وينتظرون. وقال لي أحد أعضاء مكتب دمشق للتنظيم الموحّد، وهو أول من رتّب حقيبته وسافر، قال لي: (سوف أعود إليك سفيرا).
قلت له: (قل إن شاء الله).
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة