ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة الخامسة والأربعون

بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية

في صنعاء:

في شهر آب أغسطس 1989، تلقت عدة تنظيمات ارترية دعوة من الرئيس

ارتريا من الكفاح المسلح الي الاستقلال 2

علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية العربية اليمنية، لزيارة صنعاء.

وجاءت الوفود ورؤساء التنظيمات. وتم اللقاء بين رئيس الجمهورية العربية اليمنية علي عبدالله صالح، وهذه الوفود.

وقال لهم الرئيس اليمني: (إني أعرض عليكم وساطتي لحل قضيتكم سلمياً) ثم أضاف: (عليكم بالتفاوض المباشر مع الأثيوبيين. وأنا أرى وأفضل أن توحّدوا صفوفكم، فهذا ضروري وأفضل لكم).

ثم قال: إني كلفت العقيد غالب غمش رئيس جهاز الأمن الوطني والسيد أحمد الأرياني وكيل وزارة الخارجية، للحوار معكم ومواصلة الأجتماعات).

وبقيت الاجتماعات أسبوعاً كاملاً. وقد توصلت هذه التنظيمات الأربعة إلى اتفاق فيما بينها من أجل الوحدة والتفاوض، مع الأثيوبيين، لحل القضية الأرترية، على أن يكون الاتفاق برعاية السودان والدول العربية ويتم ّ التنسيق معها:-

1. يتم تشكيل وفد أرتري موحّد، يتولى التفاوض مع الحكومة الأثيوبية، على أساس تصور موحّد بين الفصائل الأرترية.

2. تم الاتفاق على أن توحّد الفصائل نفسها، في إطار وطني واحد.

3. هذه التنظيمات ستعود إلى قياداتها، لتستكمل تفاصيل وتسمية وعمل الاطار الوحدوي، الذي تم الاتفاق عليه.

ثم عادت هذه الوفود إلى السودان. وفي يوم 1989/9/12 اجتمع اللواء أ. ح. بكري المك حاكم الإقليم الشرقي السابق، في مدينة كسلا، بالفصائل الأرترية الخمسة وقال لهم نرجو منكم وباسم الحكومة السودانية أن تعجلوا بوحدتكم لأن هذا يخدمكم ويخدم الخط الوطني في الساحة الأرترية).

ثم قال لهم: (إن السودان مستعد لمساعدتكم وتقويتكم).

كان السودان وهو البلد العربي المجاور لأرتريا، يشعر ويعرف ما يتم في الخفاء، فبعمله هذا يريد أن يضمن النهج المستقبلي، لجيران المستقبل، فضلاً عن روابط الأخوة بين البلدين.

وأنا هنا لا أريد أن أعدّد هذه الروابط ويكفي أن أقول إن السودان استضاف مليون إنسان أرتري خلال محنته، إنما أذكره فقط. وترجمة لهذا وصل من الخرطوم، إلى مدينة كسلا اللواء أركان حرب الزبير محمد صالح نائب رئيس مجلس قيادة ثورة الانقاذ الوطني، كان بتاريخ 1989/9/16.

قال لهم السد اللواء: (إننا نناشدكم باسم السودان، أن تسارعوا بتحقيق الوحدة الاندماجية فوراً، وإقامة تنظيم واحد، ونحن من جانبنا في حالة توحدكم، سنلعب الدور المطلوب منا، وذلك لتقويتكم عسكرياً ودعمكم سياسياً) قال لهم اللواء الزبير نائب رئيس مجلس قيادة الثورة بالحرف الواحد (غدا إذا توحدتم سوف تكونون قوة لها كلمتها، ورأيها وسوف تتصدرون قضية مصيرشعبكم، بل ستصبحون قوة يحسب لها، وخاصة أن الجبهة الشعبية ورئيسها أسياس أفورقي يسعى وبشكل دؤوب للإنفراد بالساحة الأرترية حتى تكون له الكلمة الأولى والأخيرة، في مصير شعبكم.

وإن الجبهة الشعبية بدأت تمارس المفاوضات المنفردة مع الأثيوبيين، حسب الوساطة التي يقوم بها الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر، ويدعمه مجلس الكنائس العالمي والذي له دور كبير في توجه الجبهة الشعبية، ليحولوا دون اشتراككم أنتم الفصائل الأرترية ذات التوجه الوطني.

هذا ما قاله اللواء، نائب رئيس مجلس قيادة ثورة الانقاذ الوطني في السودان، وفي مدينة كسلا، وقد سمعه رؤساء الوفود الموقّعين على اتفاقية صنعاء، ثم قالوا له نحن نرحّب ونبدي استعدادنا التام لتحقيق الوحدة وبأسرع وقت.

والذي حدث أن الفصائل عادت إلى التنافس والتناحر فيما بينها، ونسف مشروع الوحدة، وبقيت الفصائل الخمس على وضعها، إلا أن الظروف قد فرضّت على جزء من تنظيم قوات التحرير الشعبية الذي يرأسه محمد سعيد ناود الانضمام إلى التنظيم الموحّد، بعد أن تم الطلاق النهائي بين محمد سعيد ناود وأحمد جاسر رئيس هذا التنظيم الموحّد كان مصادفة لا أكثر، لا حباً بالوحدة وإنما لظروفه، تم هذا في 1989/10/1.

ثم جاء واندمج تنظيم آخر، هو تنظيم جبهة التحرير الأرترية، القيادة الانتقالية، مع التنظيم الموحّد. وأيضاً له ظروفه وأصبح التنظيم الموحّد يضم أربعة تنظيمات، وأصبحت تنطوي تحت اسم جبهة التحرير الأرترية التنظيم الموحّد، وكان يوم 1989/10/3 هو بداية الحوار بين التنظيمات الأخرى، وحصل هذا اللقاء وخرجوا بتقرير سمّوه (اجتماعات لجان الحوار الوحدوي) ولجنة الحوار هذه اجتمعت مساء يوم 1989/10/3 بمدينة كسلا السودانية، وبمكاتب جهاز الأمن السوداني وبحضور كل من:-

1. جبهة التحرير الأرترية عبدالله إدريس – مثّلها رئيساً حامد آدم سليمان.

2. جبهة التحرير الأرترية المجلس الوطني – مثّله رئيساً محمود نقاش.

3. جبهة التحرير الأرترية التنظيم الموحّد – مثّله حسن عثمان كتنباي .

4. جبهة التحرير الأرترية المجلس الثوري – مثّلها رئيساً إبراهيم محمد علي، ومثّل حكومة السودان، وفد مراقب مكوّن من المقدم (السر العمده) والمقدم (عمر بخيت).

كانت هذه الاجتماعات والحوارات كمن يكذب على حاله، وأصبحت هذه التنظيمات يديرها التناقض والتناحر.

وصدر عن التنظيم الموحّد بيان وهذه فقرة منه: (أكد المؤتمر على وقوفه والتزامه باتفاقية صنعاء الوحدوية بين الفصائل الأربع أما فيما يختص بالتنظيم الذي يرأسه عبدالله إدريس إن الحوار معه مرتبط بتوضيحه وكشفه وارتباطاته واتصالاته مع العدو الأثيوبي، أمام الجماهير الأرترية، الأمر الذي يعتبر جرماً بحق القضية والثورة الأرترية، وبعدها يمكن الجلوس والحوار معه.

هنا أوضح وفد جبهة التحرير الأرترية رفضه مواصلة جلسات الحوار، قبل معالجة هذا الموقف، خاصة أن الطرف الذي أصدر البيان كان يعتبر جزءاً من جبهة التحرير الأرترية التنظيم الموحد، واعتباراً من إعلان الدمج في 1989/10/1، وكان هذا أول لغم انفجر في هذا الحوار.

توالى انفجار الألغام الواحد بعد الآخر، فمن رأى إقامة تنظيم وطني واحد= من خلال الوحدة الاندماجية الفورية وعلى مراحل، واللغم الثاني انفجر حين قالوا: (يجب أن يسبق الاندماج مرحلة انتقالية)، واللغم الثالث انفجر عندما تقدم آخرون (حوار الطرشان) على وضع برنامج عمل مرحلي، يسبق الدمج حيث اعتبروه مرحلة لتنقية الأجواء.

وفي 14 تشرين الأول، انعقدت جلسة صباحية، انفجر فيها لغم آخر، وهو الاتفاق على إقامة التنظيم الوطني الواحد من خلال وحدة اندماجية وعبر مرحلة انتقالية، ثم اُقترح تغيير أسلوب مناقشة /الأجندة / والتحول إلى مناقشة المشاريع المفصلة.

في يوم 16 أكتوبر انعقد الاجتماع برئاسة حسن عثمان كنتباي رئيس وفد جبهة التحرير الأرترية التنظيم الموحّد، وأوضح قائلاً (أن لقاءات البارحة لم تتمخض عن الوصول إلى صيغة موحدة وعليه اتُفق على رفع تقرير موحّد بأعمال لجان الحوار، يتضمن تحديد نقاط الاتفاق والنقاط المختلف عليها، لتمكين اجتماع رؤساء الفصائل الذي اقترح له يوم 20 أكتوبر للنظر في معالجة الموقف، بما يؤمن السبيل لوحدة الصف الوطني.

والأصابع الملوثة بدأت تلعب، وهي تلعب منذ زمن فكل هذه الاقتراحات لهذه التنظيمات لم تر النور، إلا للدمج الفوري لا للتنسيق، ولا لتنقية الأجواء.

منهم من قال نريد ثلاثة شهور حتى نرتب أنفسنا، ومنهم من قال: نريد ستة أشهر، ومنهم من اقترح سنتين وهكذا.

وأتساءل الآن، وتتراءى لي شخصية محمد أبو بكر محمد جمع رئيس المكتب العسكري الذي كان يتزنر بقنابل الأنيرجا في المؤتمر، والذي انعقد في ساساريب القريبة من مدينة كسلا، لماذا لم يلق هذا المناضل قنابله على هذه القيادة ويخلّص شعبه منها؟

وتصفّق له الجماهير وتعتبره زعيماً أكثر من حامد إدريس عواتي مفجر الثورة؟ لقد زعل مني أبو بكر محمد جمع حين أخذت منه إحدى قنابل الموضوعة على خصره، ولم أعرف قبل سحب القنبلة إنها كانت قنابل زينة وضعها حين كان متوجهاً إلى مكان انعقاد الجلسات، وأدركت بعدها إنها قنابل زينة من أجل الزفة، ألا يتزين العريس والعروس ليلة الدخلة، وهذا ما كان كله زفة بزفة، لقد أضاع بعض قياديي هذه الفصائل، فرصة هامة وتاريخية للوحدة في فترة هامة، من حياة ومصير الشعب الأرتري.

لم يتم أي إجراء وحدوي بل تم عكس ذلك، فالتنظيم الموحّد أتهم تنظيمات الجبهة الثلاثة منمثلة برؤسائها أحمد ناصر، و عبدالله إدريس، وعبدالقادر جيلاني، أنهم رفضوا الوحدة وقالوا: (نريد التنسيق فقط وليس الوحدة).

إن التنظيمات الثلاثة قالت هذا على ذمة التنظيم الموحد (نريد عامين كاملين للدمج)، أما هكذا نُدمج فالعملية ليست (شرب شوربا). وروى لي أحد الأصدقاء: أن كل من كان مجتمعاً كان يتشفى من الآخر، ويتشفوا ممن؟! من شعبهم المسكين، من شعبهم المذبوح؟

كانوا يسعون إلى تحقيق مكاسب،خاصة بهم وبتنظيماتهم الصغيرة، ولم يهتموا بما كان يدور حول قضيتهم، وما كانت تقوم به الجبهة الشعبية. لم يقدّروا أهمية المرحلة، ولم يشعروا بحالة ضيم وظلم، والتجربة أثبتت فشل كل فصيل في أن يصبح قوة مؤثرة، لها وزنها وكلمتها المسموعة، ولا شيء غير الوحدة أمامهم، ليصبحوا قوة فعالة لهم ولشعبهم، فكيف يُبنى تنظيم والأصابع تلعب به؟ كيف يُبنى تنظيم لايملك القدرة على الصمود حتى يتعامل مع شعبه؟ كيف؟! وكيف...؟!.

كان اليمنيون صادقين في دعوتهم هذه الفصائل للوحدة، مثلهم مثل السودانيين والسوريين والعراقيين والمصريين والسعوديين وكل العرب، إنهم يريدون لهم الوحدة وبغير الوحدة لن يعود العملاق عملاقاً، والشعب الأرتري صاحب القرار الوطني، والانتماء الثقافي، للظهور وأخذ قضية شعبه والمضيّ بها، إنها جبهة التحرير الأرترية الأم.

لماذا التنظير والخطر على الأبواب؟ ألم يسمعوا من القادة العرب كلهم والمنظمات والأصدقاء الحقيقيين: إذا لم يتوحّدوا فلن يكون لهم شأناً، بل سيعيشون ويعيّشون شعبهم ويدفنون ثقافته التي نبتت في أرضهم التي ارتوت بدماء شهدائهم، ألم يسمعوا كلمة الرئيس حافظ الأسد، والملك فهد ملك العربية السعودية، وقبلها المرحوم هواري بومدين وغيرهم من الرؤساء العرب؟ "إن الخطر على الأبواب"، ألم يسمعوا كلام نائب رئيس مجلس قيادة الثورة السوداني وهو آخر من تكلم مع هذه الفصائل بالوحدة؟ بل ترجاهم أن يوحّدوا أنفسهم. لأن هناك من ترك أصابع الحقد والكراهية تلعب بهم.

أتدرون أين هم هؤلاء القادة، منهم من يعيش تحت رحمة حكام الجبهة الشعبية ولو بواجهة المسؤولية، ومنهم من رمى نفسه في بئر التعاسة والظلام، ومنهم من لا يزال يناضل لايجاد حقه وحق فصيله في بلده.

ألم ير الأخوة القادة أن التجارب التي خاضتها جبهة التحرير الأرترية وغيرها قبل عشرين عاماً تقريباً، وحين نسقوا مع الشعبة عام 1979 وتدخل الأمين العام المساعد للجامعة العربية الأستاذ محمد عمران ماذا حدث؟ ألم يتعلموا منها؟ كان في ذلك الوقت تنظيمان فقط وحين فشلت تجربة التنسيق أصبحوا ثلاثة تنظيمات، ألم تكن الحرب الأهلية الطاحنة في بدايتها تنسيق؟ وأنا هنا لا أخص أحداً على حساب أحد، فالفصائل الخمسة وبلا استثناء، هي المسؤولة عن إفشال الوحدة. وإني أذكر هنا لكم الأحداث التي عشتها وعلى سبيل المثال:-

1. الاتفاقية الأولى التي تمّت بين الجبهة الأم وقوات التحرير الشعبية بإشراف الرئيس السوداني جعفر النميري أكان النميري صادقاً أم أنه ينفذ ما يطلب منه؟

2. اتفاقية اكتوبر تحت إشراف نائب الرئيس السوداني أبو القاسم محمد إبراهيم في عام 1978 بين جبهة تحرير أرتريا والجبهة الشعبية لتحرير أرتريا وعلى أثرها قامت حروب أهلية!!

3. اتفاقية تونس 1980 والتي عقدت في جامعة الدول العربية تحت الإشراف المباشر من قبل أمين الجامعة العربية الشاذلي القليبي،ثم قامت التنظيمات فيما بعد بالاقتتال فيما بينها، ثم قامت اتفاقية جدة.

لم يكن بعض قيادييهذه التنظيمات صادقين، في قضية الوحدة، ومنهم - ويا للأسف من ارتبط بالجبهة الشعبية خفية، وعندما نال الشعب الأرتري استقلاله وحريته، وجدنا هؤلاء ينضمون تحت راية أعداء الأمس الذين أصبحوا أحباب اليوم. لا أعلم (هل كان هؤلاء القادة بانضوائهم تحت قيادة الجبهة الشعبية نتيجة حبور وسرور من أفعال قيادة الجبهة الشعبية؟ أم لأنهم بشكل أو بآخر كانوا مرتبطين بمعرفة أو دون معرفة بالجبهة الشعبية؟ الجواب لهذا التساؤل يكمن في تصرفاتهم وهم الذين قادوا تنظيماتهم وبعثروها في الهواء صحيح أن الجبهة الشعبية فصيل وطني، ناضل وقاتل، لكن هناك كثيراً من الأسئلة التي ليس لها غير إجابة واحدة على بعض أصحاب القرار المتنفذين من قيادة الجبهة الشعبية.

وعندما يصل القارئ باستنتاجاته إلى هنا، يستطيع أن يحدّد من هو الذي أوصل الحرية واستقلال الشعب الأرتري؟ ومن هو الذي كان يلعب في الظلام؟ ومن هم الذين بعثروا تنظيماتهم في الهواء؟ ومن الذي رمى ثقافته خلف ظهره؟

أعود إلى الموضوع واعذروني - فأنا دائماً أخرج عن موضوع لأدخل موضوعاً آخر، فالجروح والآلام التي عشتها وأحسستها والتي تتجسد في الشعب الأرتري، لا أستطيع إلا أن أخرج من موضوع لآخر، وأنا من بين الذين أصابهم الجرح والألم ولكني تعافيت حين شهدت رفع العلم الارتري في ساحة اسمرا عاصمة ارتريا عشية الاستقلال، نعم لقد تعافيت تماماً.

أعود لأسرد وأقول (كيف كانت نهاية التنظيم الموحّد والذي كان مرشحاً - في يوم من الأيام - لأن يعيد أمجاد جبهة التحرير الأرترية، ولكني كما قلت لكم إن هذا التنظيم بات أسيراً للآخرين بسبب أهواء وأمزجة بعض قياديي التنظيم الموحّد.

جاء رئيس اللجنة التنفيذية للتنظيم الموحد إلى دمشق واجتمع بالمسؤولين أصحاب الشأن والاختصاص. ثم زارني في منزلي وتذكرنا الأخ عثمان سبي، وقال عمر برج: "لو كان الأخ عثمان حياً لهانت كثير من القضايا" قلت له: "رحم الله عثمان فقد كان يريد لهذا التنظيم أن يكون له شأناً، وإذا أردنا النهوض بهذا التنظيم فعلينا أن نتسامح، بعضنا مع بعض، وأن نواجه المعركة القائمة والمقبلة.

الى اللقاء... فى الحلقة القادمة

Top
X

Right Click

No Right Click