ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة الثالثة والثلاثون

بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية

انقلاب في الجبهة:

في صباح يوم 1982/3/25 تحرك عبدالله ادريس وأخوانه من كسلا

ارتريا من الكفاح المسلح الي الاستقلال 2

ووصلوا إلى منطقة راساي، وفي المساء أطلقت الرصاصة الأولى وكان 25 مارس، وأنا سأروي لكم هذه التفاصيل كما عشتها وكما سمعتها.

قبل حوالي نصف ساعة من المعركة دخل اثنان من المناضلين إلى خيمة أحمد ناصر المنصوبة تحت الحجر الكبير الذي تسنده حجرة صغيرة.

يا أحمد.. هناك حركة غير طبيعية (ونحن خايفين عليك).

أجابهم أحمد ناصر: تخافا عليّ، ومم؟

إن الأمور غير طبيعية في الخارج وحركة الجنود غير طبيعية.

قال لهم أحمد ناصر: اسمعا يا إخوان.. منذ 12 عاماً لم يكن للجبهة برنامج سياسي، وكان التآمر القبلي على أشده، وفي مؤتمري عوتي وكر لم يحدث شيء، فهل من المعقول الآن أن يحصل شيء هل من الضحالة - بعد هذا السمو من الجبهة - أن يحصل شيء؟ وخاصة ونحن موجودون على الحدود السودانية ونحن مهزومون؟

كان هذا رد أحمد ناصر لكل من ولد سلاسي عقبا وتخلة ملاكي اللذان يعيشان الآن، واحد في السويد والآخر في النرويج، هذا ما دار قبل نصف ساعة، من الطلقة الأولى، وفي الساعة الخامسة والنصف من 25 مارس سمع البدو إطلاق الرصاص وبغزارة، وهربت الجمال وصرخت النسوة وركن كل إلى زاويته.

بدأ إطلاق النار غزيراً ثم توقف فجأة. فما الذي حدث؟ كان عثمان صالح يركض وبيده الكلاشنكوف ويصرخ على الجنود ثم يأتي حامد زيبوي ويرفع الكلاشنكوف ويصوب الرصاص أيضاً. لكن على من وإلى أين؟

أحمد ناصر في خيمته يستلم نقوداً من حسين خليفة لصرفها على التنظيم، ملاكي تخلي يجلس على الرمل وسط الخور ينظر إلى الأفق ولعله يتساءل: (ماالذي يحصل في الجبهة) أما عبدالله ادريس والدكتور هبتي فكانا خلف القوات. ومحمود حسب يحرّك المقاتلين هنا وهناك، أما محمود حامد فكان يركض والكلاشنكوف في يده، كان ملاكي ينظر للغروب وكان الغروب الأخير.

أطلق الرصاص عليه من قبل أحد الجنود وخرّ على الرمال والدماء تسيل من جسده، ودخلت الرمال في عينيه، لقد سدت الرمال عينيّ ملاكي تخلي مسؤول الأمن في جبهة التحرير الارترية.

هذه الرمال في عينيه حجبت الغروب إلى الأبد، وامتزجت الرمال بدمه كانت هذه الرمال من ارتريا والسودان، أليست راساي منطقة حدودية؟

أصبح لون الرمل أحمر قاتماً، هكذا سقط ملاكي وهو أول من سقط في الساعة الخامسة والنصف من مساء 25 آذار/مارس، وكان الجرحى هنا وهناك ومنهم عمر صالح الذي لم يكن إلا كادراً بسيطاً ويعيش الآن في مدينة ود مدني السودانية. لقد سقط المناضلون، برصاص بعضهم بعضاً، وليس برصاص العدو الأثيوبي أو الشعبيين. خرج أحمد ناصر من خيمته راكضاً.

عندما سمع إطلاق الرصاص معتقداً أن الجبهة الشعبية وتجراي تهاجمهم، خرج من الخيمة مع حسين خليفة الذي كان يعطيه النقود من أجل التموين. وكان هذا يعرف مسبقاً بأن هذه العملية ستتم، خرج ناصر من الخيمة ليجد رفيقه ملاكي مرميّاً على الأرض، ويعوم في بركة من الدم. واشتد إطلاق النار.

قال لي أحمد ناصر: فوجئت - على حين غرة - بجندي يصوّب البندقية إلى صدري، ويطلب مني أن أرمي مسدسي. ولا أذكر تقاطيع هذا الجندي حتى مماتي. وسمعت صوتاً من بعيد ينادي (قف.. قف... أعطه مسدسك يا أحمد...) كان هذا الصوت هو صوت ادريس هنغلا الذي قتلته الجبهة الشعبية فيما بعد وهو عسكري وخريج سورية.

وسألت أحمد ناصر: هل كنت مستعداً للقتال وقد فرض عليك؟

أقاتل من؟ هؤلاء أولادي وأخوتي، أنا أقاتل عدوي الأثيوبي، أنا لا أقاتل أبنائي وأخوتي. إذن لولا ادريس هنغلا لأطلق الجندي الرصاص وأرداني قتيلاً، وكانت الشهادة لي. وكان الجندي الذي أراد قتلي يبعد عني حوالي عشرين متراً، وقد ملأوا صدر هذا الجندي بالحقد والكراهية، ولولا ذلك لما سدّد البندقية إلى صدري، لم يتكلم معي بل كان يصرخ أن أرمي مسدسي! وأنا الآن أعرفه من بين الملايين، لإذا التقيت عيناي بعينيه، ولكني لا أعرفه قبل الحادث، ولا أعرف أين هو الآن وهل هو حي أم لا..!

وأعتقد بأنه من إقليم الساحل وقد أحضره حامد محمود ثم قام أصحاب الحركو بعدها، بجمعنا قريباً من جثة ملاكي - وكان هناك جريحان، قلت لحامد زيبوي - الذي كان يحمل البندقية وهو من منفذي الحركة، اسعفوا إخوانكم الجرحى.

قلت لأحمد ناصر: هل هناك مقاتل اسمه محمود الانكليزي وهو الذي أطلق النار على ملاكي؟

لم أر من أطلق الرصاص، لأني كنت في الخيمة كما سبق وقلت لك.

هل صحيح أن محمود حسب صرخ قائلاً (طلقة واحدة تكفي هذا الكلب) أي "ملاكي"...

لا علم لي بهذا...

لقد تم جمع كل من أحمد ناصر والجريح عمر صالح وعثمان خليفة وهيلاآب وتسفاي دقيقة وبقية رفاقهم وصوّبوا إلى صدورهم البنادق.

وسألت أحمد: ألم تشاهد عبدالله ادريس؟ الخلف بانتظار الحسم.. ونحن سائرون مررنا بجانب عبدالله ادريس والدكتور هبتي.. نظرت إلى عبدالله ادريس فأشاح بوجهه عنا.. أردت أن تلتقي عيناي بعينيه لأقول له: (أهذا هو الشرف الثوري؟) ثم مررنا بجانب حسين خليفة والذي كان معي قبل لحظات، وكان يقوم بعملية التمويه. والتقت عيناي بعينيه، فما كان منه إلا أن طأطأ رأسه، وسرنا إلى الساحة فوجدت زملائي مجتمعين ويقوم الجنود بربط أيديهم، وتقدم محمود حسب من سعيد صالح وسدّد إليه الكلاشينكوف وصاح بالجنود: اربطوه.. اربطوه...!

وتم تقييد سعيد صالح بالحبال، وهو الذي حرّر المئات بل الآلاف من سجن أسمرا وعدّ خالا و محمود حسب يعتبر صديق سعيد صالح واللاثنان بطلان. كان محمود حسب منفعلاً جداً لدرجة أنه مستعد لقتل معظم أعضاء القيادة، وأنا أعرف طباع محمود حسب إنه مقاتل شرس وعنيف، إنه وطني، ولكنه لم يكن سياسياً، إنه مسيّس حبه لوطنه وتحرير أرضه.

سألت محمود حسب في عام 1983 أيام انعقاد المؤتمر الخاص بتنظيم الجبهة التي رأسها عبدالله ادريس فيما بعد.

قلت له: هل تعاملون أحمد وسعيد والآخرين معاملة طيبة؟

وصعد الدم إلى وجه محمود وأجابني: نحن أخوة لعن الله الشيطان!...

وعلى فكرة إن سعيد صالح ومحمود حسب قتلا في مدينة كسلا. سعيد صالح مات بضربة حجر على رأسه، وقالوا إنه وقع عن الدراجة و محمود حسب أُطلقت النار عليه أما منزله فسقط شهيداً ولكن بأيدي من...؟...!

عندما تم ربط سعيد صالح بالحبال صار يضحك بشدة. وعندما شاهده أحمد ناصر والجنود من الخلف يسدّدون البنادق تلاقت أنظارهم.

يقول أحمد ناصر: هذه اللحظات وهذه الإشارات وهذه الأحاسيس تعيش مع الإنسان حتى يصل إلى القبر.. نعم كان يضحك وهو مقيّد بالحبال.. ومشينا سوية أنا وبقية الأخوان، حيث وضُعنا في مكان منعزل، وضعونا تحت الحراسة، كيلا نهرب، وبتنا ليلتنا الأولى، ونحن سجناء أخواننا. كان لأحمد ناصر حقيبة صغيرة فيها بعض الأوراق وبعض الأوراق والوثائق وراديو وحاجيات صغيرة.

قال لهم: اعطوني حقيبتي...

وعندما أحضرت الحقيبة كانت مكسورة يقول لي أحمد ناصر بألم: هل تتصور من كسر الحقيبة إنه صديقك محمود حسب. وأشرقت الشمس من عمق ارتريا على راساي حيث كان المناضلون رفاق الأمس سجناء أخوة السلاح والدم.

أشرقت الشمس ليجدوا أنفسهم سجناء وتحت رحمة زملاؤهم، في الصباح جلس الأسرى وقد صحوا على أصوات المناضلين عبدالله ادريس وصالح اياي ومحمد أحمد عبدو ومحمود اسماعيل قال عبدالله ادريس لأحمد ناصر وإخوانه: إننا نتحفّظ عليكم، وهذا التحفظ سوف يرفع بعد أيام إن شاء الله... وقمنا بهذه الانتفاضة من أجل تثبيت الجبهة.

وردّ أحمد ناصر على عبدالله ادريس وزملاؤه: أريد أن أقول لكم أنني كنت وما زلت أناضل من أجل تثبيت وحدة الجبهة ووجودها، ثم أن أي تجربة تقيّم بنتائجها، والذي يهمني هو وجود الجبهة. فإذا كان هذا الأسلوب الذي اتبعتموه يحقق الوحدة، ويثبت الجبهة فأنتم مخطئون، وسنرى ذلك وأنا أسألكم: من الذي ستحمل نتائج ما فعلتموه هنا؟

رد عبدالله ادريس وصالح اياي قائلين: إن ما حدث قبل اليوم سوف نتحمله سوية. أما قيام الحركة المباركة فنحن نتحمل نتائجها، نحن أصحاب حركة 25 آذار/مارس.

رد عليهم أحمد ناصر: لم يخطر في بالي في يوم من الأيام أن نرفع البنادق في وجوه بعضنا! لم أكن أتصور أن يحدث هذا.

وانتهى الحوار ما بين السجناء والسجّانين.

فمن يتحمل نتائج ما حصل؟
وذهب أحمد ناصر رئيس جبهة تحرير ارتريا إلى السجن بعد أن عزلوه بمفرده، في منطقة نائية ليقضي عشرة أشهر في السجن.

وفي أحد الأيام جاء القادة الأربعة وهم: عبدالله ادريس وصالح اياي وحسين خليفة ومحمود اسماعيل سلموا عليّ وكأن شيئاً لم يحدث. سألني كل من عبدالله ادريس وصالح: هل حصل لك شيء يا أحمد؟

لا.. وماذا سيحصل لي؟

لقد تحفظنا عليك، ونحن لا نحقد عليك، وسوف نعود ونعمل ونلتقي من جديد وأجبتهم وأكدت لهم: إن الذي يهمني هو جبهة التحرير، أما سجني فهذا شيء شخصي. وضعتموني في زريبة وهي أمامكم، فأنا لا أقوم بفعل شيء إذا لم أكن مقتنعاً به، ربما أحاوركم ونصل إلى نتيجة إيجابية، وقد لا نصل، وهذا الحوار يجب أن يكون خارج هذه الزريبة - زريبة الحيوانات..!

هنا انتهى الحوار ما بين السجين والسجانين.

فمن يتحمل نتيجة ما حصل..؟

الى اللقاء... فى الحلقة القادمة

Top
X

Right Click

No Right Click