ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة الرابعة والثلاثون

بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية

قصة جديدة:

أقف هنا لأترك الكلام عن السجن وأبدأ الكلام بقصة جديدة بعيدة عن الدم والسجن والانقلابات.

ارتريا من الكفاح المسلح الي الاستقلال 2

في بداية شهر آذار من عام 1977 التقيت بالأخ عثمان سبي، أخبرني عثمان بأنه يعدّ للمؤتمر وهو المؤتمر الأول لقوات التحرير الشعبية وسوف يعقد في 22/3/1977 وعليه فأرجو أن تستعد.

قلت لعثمان: إني حاضر.. ودعت عثمان على أن نلتقي في الخرطوم في 1977/3/20 في بهو فندق صحارى الخرطوم كنت ألتقي بالصحفيين والمصورين زملائي وحتى الرسميين من ضيوف مؤتمر قوات التحرير الشعبية.

كانوا يسألونني عن الطريق والحياة والمناضلين في ارتريا وكيفية النوم والطعام والخطر وأنا أعطي كل من يريد صح أو غير صح حسب رغبته، ارتريا أمامنا وسوف يرون أنفسهم. لكنهم محظوظون لم يمشوا على أقدامهم ولم يأكلوا البجبوج الذي هو ألذ من العسل، إني أراهن بحياتي على أن كل الموجودين لا يستطيعون أن يأكلوا لقمة واحدة من هذا الطعام الذي أكلته مع الثوار في رحلاتي السابقة. وأنا على هذه الحال من الحكي والسوالف أطل مذيع التلفزيون السوداني يعلن مقتل القائد كمال جنبلاط في لبنان وساد الصمت والهدوء بهو الفندق فكثيرين من الموجودين يعرفون القائد كمال جنبلاط.

انسحبت من البهو لأدخل غرفتي وأنا أتساءل في نفسي: لماذا يقتل هذا الرجل.. لابد أن تكون إسرائيل وراء مقتله فمتى نتخلص من إسرائيل؟..!

نمت والهموم تملأني والأحلام والكوابيس تلاحقني ،رأيت في حلمي أنني في العراق وأقوم بتصوير إعدام عبدالكريم قاسم وفعلاً كنت قد أوفدت في عام 1963 في أعقاب ثورة الثامن من آذار إلى بغداد ورأس الوفد في ذلك الوقت هيثم بشير.

أخذنا الأخوة العراقيين إلى مبنى الإذاعة حيث تم إعدام عبدالكريم قاسم ادخلونا إلى غرفة الموسيقا وهناك وجدت الجدران مثقوبة وعليها بقع من الدم وشعر من رؤوس القتلى وقال لي مرافقنا هذا هو شعر عبدالكريم قاسم واسم المرافق كان إبراهيم الزبيدي وقد أصبح فيما بعد مديراًللإذاعة العراقية.

صحوت من حلمي أو من كابوس على صوت رنين الهاتف.. ألو... من؟ اسبروم.. صباح الخير يا أسبروم كيف حالك؟ خمس دقائق وأكون عندك؟ من هو اسبروم هذا!

أعرفه منذ عام 1986 حين كان يأتي إلى الإذاعة السورية إلى قسم ركن الجزيرة العربية الذي كان يعده أبو نبيل وهو من اللاجئين السياسيين السعوديين في حينها كان أسبروم هو المعد للبرنامج الموجه لأرتريا هناك تعارفنا عن طريق الأخ أبو نبيل الذي عاد إلى السعودية ويعمل الآن مديراً لإحدى الشركات الحكومية في الظهران.

عثمان صالح سبي كان يعتمد على اسبروم ويعتبره يده اليمنى ولا أعرف من أين أتت هه العلاقة الوثيقة مع بعضهم بعضاً، وتشاء الصدف أن يأتي إلى دمشق كل من المناضلين أسياس أفورقي ويوسف عثمان صايغ ويلتقيان بالسيد اسبروم فيصحبهما هذا الأخير إلى الإذاعة السورية، حيث وجه أسياس أفورقي كلمة إلى الشعب الارتري قال فيها وباللغة التجرينية "يا شعبي الارتري المناضل أتحدث إليكم من سورية العربية سورية الثورة إلى..." بينما يتحدث السيد يوسف عثمان باللغة العربية.

قال لي اسبروم بعد أن سلّم عليّ: إن كافة الوفود سوف يغادرون الخرطوم إلى كسلا بالطائرة، ثم اقترب مني وهمس أنت ابق هنا، وغداً سوف تغادر إلى كسلا مع الأخ عثمان فهو يحترمك ويريدك أن تكون معه وفعلاً غادرت الوفود بالطائرة إلى كسلا، لا عربا ولا لواري ولا تراب لقد غادروا بالطائرة يا ليتهم غادروها بالقطار أو عربات النقل وعانوا المعاناة التي عشتها ويعيشها اخواني الارتريون في تنقلاتهم.

في صباح اليوم التالي جاء الأخ محمد علي محمود مندوب قوات التحرير الشعبية في دمشق سابقاً واصطحبني إإلى مطار الخرطوم، وجدت في المطار الأخ عثمان سبي وعمر برج الذي أصبح رئيساً للتنظيم بعد وفاة عثمان سبي وكان أيضاً محمد سعيد ناود والذي أصبح فيما بعد رئيساً لجبهة تحرير ارتريا التنظيم الموحد وطه محمد نور الذي يعيش الآن في أسمرا ويعمل في إحدى مؤسسات الدولة الارترية ومرافق عثمان الخاص والدائم طلول.

ركبنا طائرة صغيرة استؤجرت من إحدى الشركات الأجنبية العاملة في السودان وتسمى التكسي الجوي ،ولا تتسع إلا لستة أشخاص.

في الطائرة قلت مازحاً: لو أن الطيار الغربي هذا ذهب بنا لأسمرا بدلاً من كسلا وخاصة أنك صيد ثمين وهام يا عثمان.

لا تنس أنك سوري، ولا تقل أهمية عني يا أبا سعدة.

نعم كان عثمان يثق بي ويحترمني ويقول لي عندما نلتقي على انفراد.

نرجو أن نلتقي سوية في الحرية.

إلا أن ارادة الله فوق كل شيء، فقد توفي عثمان قبل أن يرى الحرية والاستقلال لبلده.

في مطار كسلا استقبلنا عدد من المناضلين الارتريين وعلى رأسهم عمر سراج رئيس مكتب قوات التحرير الشعبية في العراق، وكان من المقربين إلى عثمان أصطحبنا إلى أحد المنازل في كسلا حيث استرحنا بعض الوقت.

بعد الظهر استقل عثمان سبي اللوري، جلس هو بجانب الباب وجلست أنا بين السائق وعثمان، وبدأ اللوري رحلة العذاب والمعاناة، كنا حوالي عشرة لوريات وكلها محمّلة بالتموين ومحروسة جيداً، وكان المحروس جيداً هو عثمان، لم يستقل هو سيارة صغيرة لندروفر، أعتقد واعتقادي في مكانه، هي مسألة تمويه فليس من المعقول أن يستقل لوري بدلاً من سيارة صغيرة، وهذا من الناحية الأمنية قد يكون صحيحاً.

فلا يخطر على بال أحد أن عثمان موجود في اللوري وأنا معه، نعم لقد كنت من ضمن أدوات التمويه عثمان أخرج كتاباً وأخذ يقرأ وكان يطالع كثيراً جداً. ونمت أنا وهطل المطر بغزارة فأيقظني عثمان وقال: كيف تستطيع النوم في هذه الأحوال؟

إنني يا أخ عثمان في سيارة ولا نمشي بأرجلنا.

ألم تحس أن السيارة يمكن أن تقع. ألم تسمع أنينها؟

ألم تتأثر بالمطر؟

ماذا تريد مني أن أفعل؟

وعدت إلى نومي أريد أن أقطع الساعات الطويلة بالنوم لي هنا ملاحظة لماذا أطالوا الطريق؟ من كسلا إلى حشنيت- بأسوأ الأحوال يستغرق الطريق ثلاث ساعات - أما لماذا هذه الإطالة فعلمها كان عند عثمان واخوانه.

وتناولنا طعام العشاء في اللوري دون أن ننزل وبعد 12 ساعة وصلنا إلى حشنيت مكان المؤتمر، وقد وجدنا خيمة مُعدة لي، وفي الصباح صحوت باكراً وتجولت بين المقاتلين، والتقيت بالمناضل عثمان عجيب وسلّم عليّ وهو أحد الثوار الذين تدربوا في سورية، ثم التقيت بمحمد أبوزرد وكان يمثل حزب البعث العربي الاشتراكي في المؤتمر، ثم كان اللقاء بالأخ المجاهد الارتري إبراهيم سلطان الذي رحّب بي كثيراً وكان قد زارني في منزلي.

جلست مع العم إبراهيم وسألته عن بقية زملائي الذين زاروني في منزلي ومنهم الدكتور برخت وتدلا بايرو قال لي: لا أعرف عنهم شيئاً..!

وكأن سؤالي عنهم قد أزعجه، لقد زارني في منزلي في حي المزة في دمشق كل من المناضل ولد آب وولد ماريام والذي التقيت به في كل من دمشق والقاهرة وروما والجنرال ذرء ماريام قائد البوليس الأثيوبي السابق وهو والد يوهنس مسؤول الإعلام في الجبهة والذي حاولوا أن يضعوه بديلاً لحروي تدلا بايرو والدكتور برخت الذي التقيت به في روما مرة ثانية الذي يتكلم العربية بركاكة وكان تدلا بايرو رئيساً للوزراء ومن مؤسسي حزب الوحدة الذي تأسس في 1941/5/5 وكان من أهداف الحزب المطالبة بالوحدة مع أثيوبيا وكان تمويله المادي والروحي من قبل الكنيسة القبطية والحكومة الأثيوبية.

كان لهيلا سيلاسي تأثير كبير من الناحية الدينية وكان يلقب بالمسيح الأسود. ولما تبينت الحقيقة والنوايا الخبيثة لهيلا سيلاسي ترك تدلا بايرو رئاسة الوزراء وعمل في صفوف الحركة الوطنية، وعاش بقية حياته في السويد ومات فيها. وكان ممن زارني أيضاً معهم المعلم محمود سبي الذي قضى 12 عاماً في السجن وهو من المتشدّدين والمتمسكين باللغة العربية والثقافة العربية كأخيه عثمان الذي لم أسمعه في يوم متن الأيام يتكلم بغير اللغة العربية، وهما مثل أحمد ناصر وعبدالله ادريس وجعفر علي أسد والشيخ ادريس محمد وسيد أحمد هاشم.

كان الحديث يدور بيني وبين ولد آب باللغة العربية، أما الجنرال ذرء ماريام فكانت لغته العربية ركيكة جداً، وقال الجنرال بالتجرينية: إن جذورنا عربية، لكن الغرب وإسرائيل حاولا ويحاولان طمس هويتنا، فقد كان يخجل عند ذكر كلمة إسرائيل، كان يصمت واعتقد بأن سبب خجله وصمته لأن الإسرائيليين قد دربّوه عسكرياً.

كل هؤلاء الكبار لم أسمع منهم كلمة واحدة ضدّ الجبهة، بل كانوا مجمعين على أن الجبهة هي الشوكة في عين أثيوبيا، لم أسمع منهم أي رأي أو طرح يشعرني بأنهم غير عرب باستثناء الدكتور برخت الذي كان لا يجيد التعبير باللغة العربية لنا جذورنا العربية لم أسمع منهم أي تناقض مع العروبة والهوية، وعلى فكرة فإن الدكتور برخت يرأس حالياً لجنة الدستور في ارتريا، كما أنه أستاذ محاضر في إحدى الجامعات الأمريكية.

وألف كتاباً عن ارتريا والعرب، لكنه على مايبدو لم يقرأ التاريخ بالشكل الصحيح؟

هؤلاء الوطنيين ذهب منهم من ذهب إلى دار الآخرة ومنهم ما يزال حياً؟

جلست مع المجاهد إبراهيم سلطان وقلت له: أريد أن أسمع منك شيئاً عن تاريخ ارتريا ونضالها، وضحك العم إبراهيم - وكان صاحب نكتة وروحاً مرحة، قال لي وهو يبعد عصاه التي لم تكن تفارقه: هل تريد أن تخمني يا أبو سعدة (أي تمازحني)؟

أنت أصبحت واحداً منا وتعرف كل شيء، ما رأيك أن نزوّجك من عندنا؟

الله ويدك... وعلى شرط يا عم إبراهيم أن تدفع مهر العروس أنت داخل أرتريا.

أنت في عيوننا يا أبا سعدة... كلنا هدية لك، ألست أنت أول أخ عربي صوّر أولادنا، وعمل لهم أفلاماً، وتكلّم عن قضيتنا، وناضلت معنا ورغم الظروف والصعوبات التي واجهتنا، أنت منا ونحن منك، وقلت له: يا عم إبراهيم من الذي يخم الثاني أنت أم أنا؟.

ضحكنا وقال العم المجاهد إبراهيم سلطان: غداً نشرب الجبنة في الخور، ونتكلم على رواق!

إلى الصباح يا عم إبراهيم فالصباح رباح.

بعد الظهر افتتح المؤتمر التنظيمي الأول لقوات التحرير الشعبية وكان في يوم 1977/3/22 واستمر حتى 1977/3/28 لقد كانت مظاهرة لا تختلف عن أية مظاهرة عربية، كنت أسمع هتاف المناضلين وهم يردّدون الشعارات قائلين بالروح بالدم نفديك يا ارتريا، بالروح بالدم نفديك يا عثمان.. وكان عثمان يمشي في الصف الأول ومن خلفه، وحوله يسير المناضلون وهم يرفعون البنادق، وكانت الزغاريد تتصاعد من الأخوات الحاضرات.

وسط هذا كله افتتح المؤتمر وألقيت الكلمات تلو الكلمات من ممثلي الدول العربية وبعض الشخصيات، واختتم الأخ عثمان حفل الأفتتاح بكلمة وطنية عبّر فيها عن تطلع الشعب الارتري للوحدة والاستقلال وعن دور الأمة العربية في دعم الثورة وعن الأصدقاء والوحدة الوطنية ...الخ.

في الصباح الباكر وقبل شروق الشمس صحوت على صوت إبراهيم سلطان وهو يسأل بصوت مرتفع: أين خيمة أبو سعدة؟

وعرفته فوراً لأن صوته مميزاً وخرجت من الخيمة وقلت له: لا تزال الدنيا ظلاماً، يا عم إبراهيم! هل رأيتني في نومك؟ ألم تعد تستطيع الجلوس دوني؟

بعد أن صلّيت الصبح وقرأت القرآن الكريم، أحببت أن نصبح سوية، الله يهديك!..

وذهبنا إلى الخور وعلى صوت النار وتحميص البن ودقة المهباج جلسنا وكان الجنود جالسين بانتظار سيادتي ورأيت الجلسة مرتّبة فقلت للشيخ إبراهيم: لماذا أتعبت نفسك يا عم إبراهيم؟

أنا لم أفعل شيئاً، فهؤلاء المقاتلون هم الذين تعبوا وقاموا بكل الأعمال، أما عن هذا الذي يدق البن، فهو الذي تبرع بالجبنة، وتحدث الأخ إبراهيم سلطان وسألني عن بلدي الحبيب ولا زلت أذكر صوته الذي ما زال يرّن في أذني.

كيف البلد يا أبا سعدة؟ كيف صحة أخينا الكبير، وكان يقصد السيد الرئيس "حافظ الأسد"؟ اسمع يا أبو سعدة... بلدنا هذه سورية، هي أمنا عندما كان يكلمني، كنت أنظر إلى وجهه ذي السمات العربية، وأتفرس في عينيه وأتسأل: "كيف يفكر هذا الرجل عنما يكون وحيداً..؟"

هل الحوار الذي في أعماق نفسه يكون باللغة العربية أم بالتجرينية...؟

واهتزت العصا في يده وقال: بماذا تفكر يا أبا سعدة؟..

الحقيقة يا عم، كنت أتسأل عندما تخلد إلى نفسك وتفكّر كيف تتم هذه العملية بعد هذا النضال، "وكان قدّ تجاوز السبعين من العمر".

ألا تعلم يا أبا سعدة أن عدّداً من أولادنا، ذهب إلى فلسطين عام 1948 واستشهد عدد منهم؟ ألا تعلم أن الوفد الذي ذهب من ارتريا لشرح قضيته أمام اللجنة التأسيسية للجمعية العامة للأمم المتحدة تكلم باللغة العربية؟.

ماذا قلت في كلمتك أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة؟

والله لا أذكر، ولكني أذكر بعض الأشياء التي طُرحت عليّ.

أولا: أنا كنت أمين عام الرابطة الإسلامية، وهذه المنظمة تدافع عن حقوق الارتريون وإن 60% من الارتريين، هم مسلمون، وإن ارتريا لم تكن في يوم من الأيام جزءاً من أثيوبيا، وإن ضم ارتريا إلى أثيوبيا تمّ بالقوة وهو يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة، الذي يضمن حق الشعوب في اختيار حكوماتها، وإن 80% من شعب ارتريا مسلمون ومسيحيون يطالبون بالاستقلال، ونحن نعارض تقسيم ارتريا، وإن المسيحيين الذين رغبوا في الانضمام إلى أثيوبيا هم أقلية، إن حزب أو منظمة الرابطة الإسلامية تطالب بالاستقلال الفوري لأرتريا، ويجب أن ننال استقلالنا، وإني أقول وأكد أن ضم ارتريا لأثيوبيا سوف يؤدي إلى حمّمات من الدم، هذا الكلام قلته باللغة العربية ألا تعرف هذا؟.

والله لا أعرف ذلك قبلاً يا عم إبراهيم.

اشرب جبنة وسخن يا أبا سعدة.

هل تريد أن نضيف مزيداً من الزنجبيل؟

يكفي هذا يا عم إبراهيم.

هل تعلم أن في أرتريا 292 عشيرة، ونحن كمسلمين نعيش مع إخواننا المسيحيين في سلام ووئام، ثم إن كثيراً من زوجات أبناءنا اليوم من المسيحيات أليسوا هم أهل كتاب؟

قلت لك إننا 292 عشيرة تعرف أن قبيلة البلين والتي تسكن في كرن نصفها مسلم ونصفها مسيحي، أليس صاحبك أبو اياي من البلين؟.

ويقصد صالح اياي، اسأله إذا كنت تشك في كلامي.

طبعاً العم سلطان كان يمزح عندما قال: (تشك بمعلوماتي فمن يشك بمعلوماته يكون فاقداً العقل أو حاقداً).

هل صحيح يا عم إبراهيم أنك اشتغلت مع الطليان؟.

وهل أنا جاسوس؟

لا... إنما سؤال فقط.

نعم عملت مع الطليان ولكن بماذا؟ عملت مترجماً لهم وسألني: كم عمرك يا أبا سعدة؟

سبعة وثلاثون عاماً.

عملت مترجماً قبل أن تخلق بخمسة أعوام، أي في عام 1935.

أنت تتحدث الايطالية إذاً...

إنني أعرف الكثير من اللغات ومن اللهجات ويمكن بقد عمرك.. اسمع هذه الحكاية اسمع: أنت صغير وسوف تتكلم في المستقبل، اسكت واتركني أحكي أنا... في يوم من الأيام ناداني المسؤول الايطالي الكبير الذي كنت أترجم له، وطلب مني ترجمة الخبر الذي يقول: "إن القوات الايطالية قد دخلت إلى أثيوبيا الموحدة "، أتعلم كيف ترجمت هذا الخبر؟

هل كنت معكم حتى أعرف؟

ترجمته على الشكل التالي: "احتل الفاشست آخر معتقل مستقل، لقد استعمرنا استعمار آخر جديد لقد أصبحنا مُ ستعمرين للفاشست".

أنا بلدي محرّر والحمد لله، ألم تخف يا عم إبراهيم؟

إننا نحن الارتريين لا يمكن أن تُنتزع من قلوبنا الوطنية وحب الاستقلال، وخاصة أن شعباً كشعبنا له خصائصه الثقافية العربية الإسلامية، وجذوره العميقة.

ومن هنا تعلمت وأحسست بحقيقة واحدة، وهي أن الوطنية هي الأم لأي شعب من شعوب العالم قاطبة، بماذا سرحت يا أبا سعدة؟.

كان ذكياً شديد الملاحظة رغم تقدمه في السن قلت له: كنت أفكر بكلامك!.

على العرب أن يعملوا من أجلنا، نحن أشقائهم، أنت تعرف كل الساحل والهضبة، ونحن كأرتريين لا نريد أن يكون الساحل الارتري نافذة لأثيوبيا المعادية للعرب تاريخياً، والمرتبطة بإسرائيل في كل الأوقات. إن إسرائيل وأثيوبيا في حلف واحد ضد العرب، نريد أن يكون البحر الأحمر بحراً عربياً نظيفاً من جنوبه إلى شماله، وجانبيه الشرقي والغربي، و نريد أن تكون ارتريا لأهلها بعد الاستقلال؟.

هذا ما سمعته من إبراهيم سلطان عام 1977 ونحن اليوم عام 1999 أي مضى عليه 22 عاماً بعد هذه الأعوام كانت رؤية إبراهيم سلطان واضحة، أصبح لإسرائيل أصدقاء جدّد في المنطقة ومن الممكن أن تستعمل الموانئ الأرترية ضد العرب، صحيح أننا نعمل من أجل السلام ولكن عدو الأمس واليوم لن يكون صديق الغد!.

ثم إن للمستقبل أوضاعه وتقلباته فحروب الفرنجة الصليبية استمرت 169 سنة وفي النهاية كان الحق وانتصر العرب.

قلت لإبراهيم سلطان: أريد أن تحكي لي عن الرابطة الإسلامية.

إن الرابطة الإسلامية كانت منبراً للحق والحقيقة فأسسنا الرابطة في 1946/12/24 برئاسة عثمان باكير الميرغني وأصبحت أنا عمك الشيخ إبراهيم سلطان علي سكرتيراً عاماً للرابطة. وكان مقّرناً في مدينة كرن ومن أهم أهدافنا الدعوة إلى استقلال أرتريا الفوري ووحدة ترابها.

لماذا كنتم تقبلون بمبدأ الوصاية البريطانية عليكم؟.

ماذا تريدنا أن نفعل؟ نركض هنا وهناك ولا أحد يسمعنا؟ لكننا تنازلنا عن هذا الكلام بعدها.

تنازلتم لأن الانكليز تذبذبوا كعادتهم.

نادينا بوصاية الأمم المتحدة حتى نُمنح الاستقلال، لو كنت مكاننا ماذا تفعل؟ نحن نشتغل بالسياسة وهذه تحتاج إلى لعب ومن لا يلعب يحترق! كان جميع أعضاء الرابطة من المسلمين وكان نشاطنا في كل من مدن كرن، مصوع، اغردات، عصب تسنى وفي العاصمة أسمرا.

إن حديثك ممتع فأرجو أن تزيدني من معلوماتك القيمة هذه.

ثم سألته: متى تكوّن أول تجمّع وطني ضم المسلمين والمسيحيين؟.

ارتاح العم إبراهيم وركّز جلسته وقال للشاب الجالس أمامه: إعطنا فنجان قهوة، وأضف الزنجبيل وأريده ساخناً لأسخّن نفسي فلربما أبو سعدة هو ساخن بما فيه الكفاية.

قال: في سنة 1938 تكوّن أول تجمع وطني من مسلمين ومسيحيين بشكلٍ متساوٍ، كل طرف ضم 12 عضواً، ماذا سمي هذا التنظيم؟.

حب الوطن "محبر فقري هقر" قالها بعظمة: (حب الوطن). تطورت هذه الجمعية وألغت الفوارق بين المسلمين والمسيحيين إلى حد ما ،ثم فرضت وجودها كحركة سياسية واجتماعية، ونادت باستقلال البلاد، وألغت قانون التمييز العنصري الذي فرضه الطليان علينا، هذا كان عام 1943 لكن الأصابع الخفية المجرمة لعبت في الظلام، فقام كل من اسفها ولد ميكائيل ولورتر وتازاز بالألاعيب السياسية وأعمال انفصالية، وتحت الإغراء والدفع تفتت هذه الجمعية، والمكان الذي حدث فيه هذا التجمع والذي دمرّ هذه الجمعية هو بيت جرجس في أسمرا، ونادى بعض قياديي الجمعية بالوحدة مع أثيوبيا. قبحّ الله وجوههم.

فقمت أنا وزملائي من أمثال حقوس إبرها وعبدالقادر الكبيري وتصدينا لهما وأبطلنا ما استطعنا إبطاله من تآمر هذين العميلين.

ألا يكفي هذا اليوم يا أبا سعدة؟.

صحيح يا عم إبراهيم أصبحت عجوزاً وتكبر بسرعة. أين فناجين القهوة والزنجبيل والتسخين هل تعبت بسرعة؟.

أردت أن أثيره لكنه فهم قصدي وما أرمي إليه، ثم قال لي: خليك أنت شباب، واليوم كفاية لكني أريد أن أقول لك شيئاً يا أبا سعدة... أنا خايف من هؤلاء الشباب!

تقصد من؟

أصحابك.. أصحاب حزب العمل.

أليسوا هم أولادك يا عم إبراهيم؟.

ألست أنت عضوا في حزب العمل؟.

ورفع عصاه وقال: معاذ الله... وكفى اليوم.

ولم ألتق بالمجاهد إبراهيم سلطان بعدها، فقد اختاره الله إلى جواره.

ولكن تخوفه كان في مكانه، لقد انهارت ودُمرت جبهة التحرير الارترية بيد أبنائها، ورحل إبراهيم سلطان ولم تكتحل عيناه برؤية علم أرتريا يخفق في سماء أسمرا.

ولم أر في أسمرا شارعاً يحمل اسم إبراهيم سلطان، لم أعرف مدى حبي له إلا بعد أن فارقنا.

الى اللقاء... فى الحلقة القادمة

Top
X

Right Click

No Right Click