الفتنة

بقلم الروائي والقاص الإرتري: هاشم محمود

أعلى تلكم القرية الصغيرة المستكينة في الناحية الغربية للطريق العام يقطن حامد مع أخويه حسن، وإبراهيم،

وبعض أخواتهم؛ فقد كان والدهم الشيخ الأمين مزواجا.

وفي التلة المقابلة لهم يسكن أبناء عميهم رمضان وجابر.

الشيخ الأمين الورع العابد المحبوب بين أقرانه، الرجل الذي توفيت زوجته الثالثة وهو ابن الأربعين عاما يحتار في ترتيب أموره؛ إذ تزوجت كبرى بناته، وأبناؤه عَلى مشارف الزواج، وفقد البيت إدارته، وعمته الفوضى.

كانت حياة الشيخ هادئة، يشكل المرح الجزء الأهم فيها. ضحكاتهم المجلجلة تُسمع من بعيد المسافات، إذ يسري الشيخ ليلًا إلى أبناء عمومته، يقضي معهم بعض الوقت فيحدث فراغا كبيرا بالتلة هنا.

ذات مساء بينما هو في طريق عودته من سوق المدنية التي يقصدها بغرض بيع بعض منتجات مزرعته من مثل البصل والفول السوداني، وغيرها، ساحبا وراءه بعيره المميز، ذا اللون الأبيض مع بقعة سوداء بالجانب الأيسر، علامة تميزه كصاحبه الأنيق.

وجد الشيخ صديقة آدم واقفًا بالطريق العام، محملا ببعض الأغراض، فأناخ بعيره، وسلم عليه وحمل له الأغراض، وبدآ سيرهما مشيا أمام البعير، الي تلكم التلة.

أراد آدم حمل صاحبه على الحديث، فتحدث عن الزواج، وأنه سنة نبي الله، ومتعة الحياة وبهجتها.

فرد الشيخ الورع: من تقبل بي بعد هذا العمر؟

كل النساء يتمنينك، فقط مُر يا صديقي.

فضحك ضحكته المجلجلة، وهو يردد:

عجب عجب!

التفت إليه آدم متسائلا، بينما البعير يتباطأ ملتهما بعضا من أغصان النيم بالطريق:

من مقولتك يا صديقي.

الشيخ: وكلتك على أن تختار لي زوجة توافق بوضعي.

ابشر، أنا لها.

يصلان التلة يحمل آدم أغراضه وينصرفان كل إلى سبيله.

أبناؤه ينتظرونه كعادتهم في حلقة القهوة المسائية. يتبادلون ضحكات السمر، ثم يعرض عليهم ما دار بينه وبين صديقه، فيرحبون بالفكرة ومنهم من يستعجلها. تأتي أخته فتطلق ثلاث زغاريد شهادة موافقة وفرح.

يتواثب إليهم أهل التلة، مستبشرين خيرا، ويأتي صديقه آدم مهرولا، يتردد صدى الزغاريد بالتلة المقابلة، لتدغدغ بهجة آذانهم، معتقدين قدوم مولود، حفيدا، أو حفيدة إنها أصوات التفاؤل، والأفراح.

بُعيد أسبوع من تلكم الزغاريد، أتاه صديقه بالبشرى، أستبشر الجميع، ثم انطلق التهليل والتكبير، وحضر الدعوة سكان القري المجاورة، ابتهجوا. رقص الشباب بالسيوف والعصي، وضربت البنات والنساء على الدفوف، يسرعن بالضرب، فتتحرك أقدام الشباب سريعة منتظمة، يعلو الغبار الجميع، راسما هالة من البهجة والطرب، وتبطئ البنات الضرب على الدفوف، فتهدأ أصوات الأقدام منضبطة بالإيقاع الهادئ.

انفض سامر الرقص والطرب، ودخل الشيخ الورع بزوجته، الخامسة ترتيبا، وسط استهجان من البعض، فإنها ابنة تلك المرأة دون أية تفاصيل. سرعان ما احتوت العروس الشيخ الورع، وضبطت إيقاع البيت. الشيخ من بيته إلى الحقل، والعكس توقف عن زيارة تلك التلة، أبناء عمومته.

يأتون لزيارته، ليجدوا كل شيء مختلفا، فال قهقهاته مجلجلة، ولا جلسات سمرهم هي التي ألفوا.

عقب صلاة العشاء، يدخل شيخنا محرابا آخر.

تزوج الأبناء والبنات وبقت سيدة البيت، تلكم العروس. أنجبت له ثلاث بنات دفعة واحدة في ظاهرة لم تحدث بتلك التلة ولا بالقرى المجاورة. شيخنا يداعب بناته مع أحفاده. سيطرت المرأة على كل القرارات، فلا موارد توزع إلا بعلمها ولا زكاة تؤدى إلا لأهلها.

أخذت تقرب نساء أبنائه منها حسب درجة الطاعة التي تجدها والولاء.

ثم أنجبت له ابنا، فاحتفل به سكان التلة وقالوا سند أخواته، واحتفل به إخوته أكثر من احتفالهم بأبنائهم.

وكلما مر الزمان، تعجب الجميع من أمر الشيخ، وتغير وضعه، علما بأن التغير سنة الحياة، لكن المدهش أن يتغير بهذا السوء.

مرض أحد أبناء عمومته مرضا شديدا بتلك التلة، فقرر الشيخ زيارته ومعه إحدى التوائم.

سبعة عشر عام مضين، ولم تطأ قدمه تلكم التلة.

استقبل الشيخ الأهل والأصدقاء والأحباب، ونالت ابنته إعجاب أحد أبناء عمها، طلب من أهل أن يتقدموا له بطلب يدها، رفض طلبه، فأمها قد منعت زيارة عمه لتلتهم مذ قدمت إلى التلة المقابلة.

بلغ الخبر لزوجة الشيخ التي استفزها النبأ استفزازا شديدًا، إلا أنها كتمت غيظها، وسعت من أجل تحقيق رغبة أبنتها.

تريج زوجة الشيخ توفير حماية لأبنائها من إخوتهم بوساطة أبناء عمومتهم، إنها تسعى إلى خلق شرخٍ بين العائلة من أجل تحقيق طموحها!

ومع إصرار الابن تم الزواج، رغم تحفظ كبار العائلة، فهي أول زيجة داخلية تتم بينهم تمنوها أن تتم بخير.

تمددت نفوذ زوجة الشيخ إلى أطراف العائلة، بل ظلت تلح علي زوجها أن يمنح ابنه الصغير ميزات علي بقية إخوته من الماشية أو أن يخصص له أرضا زراعية، ويلتزم بالشيخ بالرفض التام للفكرة بحجة عدم التميز بين أبنائه، وأنه لا يريد شق صفهم.

توفي الشيخ، وأقامت الزوجة التحالفات يوم تقسيم الورثة، فوقف أبناء عمومته مع أخيهم الصغير، إرضاء لزوجة أخيهم وأمها.

وأقامت التحالفات يوم تقسيم الورثة فوقف أبناء عمومته مع أخيهم الصغير إرضاءً لزوجة أخيهم وأمها.

هتفت كبرى بناته: ألم أقل لكم إنها مشروع فتنة؟

Top
X

Right Click

No Right Click