ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة السادسة
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
زغاريد الحرية: كان الشهيد البطل قد اجتمع بي في منزلي في حي الميدان بدمشق قبل استشهاده بسنة،
ولقائي الثاني به كان في الريف الارتري، حيث رافقته في حصار معسكر كركر الأثيوبي والذي يقع بين الحدود السودانية الارترية، وهو مدخل إلى منطقة ساوا.
كان الوقت بعد منتصف الليل بقليل عندما انضم إلينا عدد من الأخوة المناضلين، وكانوا يرتدون اللباس الوطني، وهذا عبارة عن جاكيت يشبه إلى حد ما المنيتان اللباس العربي القديم في بلدنا، وتحته سروال ولونه أبيض، وتحت الملابس الوطنية هذه، كان اللباس العسكري للمقاتل الارتري، الذي هو عبارة عن قميص وبنطال قصير من اللون الخاكي.
وأصبح عدد المقاتلين أربعين مقاتلاً، وجاء محمود ووزّع المقاتلين في عدة اتجاهات، وكانت نقطة البدء قنبلة هاون من عيار 82 مم، انطلقت على معسكر الجيش الأثيوبي، وكان هذا أقوى سلاح عند الجبهة، وكان متطوراً كثيراً في حينها، واعتقد بأنه موجود منه 4 حبات، كما يقولون وابتدأ الهجوم. كان الوقت حوالي الثانية صباحاً والانتشار والاستدارة حول المعسكر يستغرق ساعتين، كل أربعة مناضلين ذهبوا في اتجاه.
إني أذكر أن التقاء المقاتلين مع محمود كان في منطقة قريبة من فورتو نعم... كانت العملية عملية حدودية، ولكن الانطلاق كان من الأراضي الارترية وليس من الحدود، وكان من عمق منطقة بركة وكنت أنا أمشي مع محمود ومعي ثمانية مناضلين.
كنت أشعر بالبرد، رغم أن الجو كان حاراً إلا أن الخوف من المجهول يبقى مسيطراً على الإنسان أولاً، وبعد تسعة وعشرين عاماً أشعر بلذة الذكريات، ولا شيء أجمل من الذكريات، وخاصة عندما تجتاز الخطر، وتبقى الذكرى وتتحول إلى قصة ترويها وترويها بشغف.
لقد أصبحت في خريف العمر، ولكنني أعيش في الذكرى، أعيش في الشباب، أعيش في الحب والأمل. وبعد ساعة من المشي السريع بين الحجارة الكبيرة، والصغيرة أصبحنا على مسافة قريبة جداً من المعسكر، ولم يشعر بنا أحد من الأعداء. وانتشرنا.. ولازمت محمود رحمه الله، ورفعت آلة التصوير وتساءلت: ماذا أصوّر وما هي الفائدة التي سأقدمها للثورة؟ ألا يعيقهم وجودي؟
غير أنني شعرت بسعادة غامرة، عندما سألني محمود: كيف حالك يا أبو سعدة؟ وهل أنت مرتاح؟ أتريد شيئاً؟
وسألته: هل أنتم مستعدون؟
سوف تسمع الآن زغاريد الحرية.
وكان يحمل في يده الرشاش الخفيف الدكتريوف، وعلى التوقيت الدقيق، شق الهدوء، صوت القنبلة وعلى صوت الزغاريد وجدت نفسي، أزغرد أنا أيضاً بآلة التصوير وليس ببندقية.
استغرقت المعركة حوالي خمس عشرة دقيقة، تحول المعسكر الأثيوبي إلى كتلة من النار، ثم انسحبنا، وهات يا ركض، ووجدت نفسي مع محمود وأحد المقاتلين وصاحب الجمل وقال لي: أعطني عفشك، أي الكاميرا، وأعطيته إياها بسرعة ثم ذهب وتابعنا الركض، وسط الصخور والشوك، وتساءلت لماذا نركض؟ ألا نريد أن نعرف ماذا حدث في هذا المعسكر الأثيوبي؟
أجابني محمود بهدوء: هذا من أجل سلامتك يا أبو سعدة. بقية الأخوة المناضلين هم الذين سيأتوننا بالأخبار.
وتابعنا الركض. وتساءلت: ماذا صوّرت؟ وماذا سأرى على شريط الفيلم؟ آه.. ثم آه.. لقد تذكرت كيف صوّرت قصف المجنزرة الإسرائيلية، مع طاقمها في غور الأردن، وقد قصف المجنزرة أحد الفدائيين الفلسطينيين، بواسطة سلاح الـ آربج، وسقط من الفدائيين شهيدان ودُمرت المجنزرة، وكانت إصابتنا دقيقة، حيث قصفت من منطقة قريبة جداً، أي لا تبعد سوى أمتار قليلة، وهذا منتهى الخطورة والشجاعة، والذي ساعدني في حينها في التصوير، الإضاءة البروجكتور الموجود على ظهر المجنزرة الإسرائيلية، والذي يدور يميناً ويساراً، وعندما سدّد الفدائي سلاحه نحو مجنزرة العدو الصهيوني، كانت الإضاءة كافية، وخاصة بعد أن لامس الصاروح المجنزرة التي أصبحت بعد ثوان قليلة، كتلة من النار واللهب وتناثرت الشظايا وبدأ الرصاص الملون والقذائف الصاروخية تنهمر علينا شمالاً ويميناً وأذكر تماماً أن رأسي كان في التراب، ولم أرفع رأسي إلا بعد أن هدأت الحالة، وقد استشهد اثنان من المقاتلين رحمهما الله، أما المجنزرة وعناصرها ومن خلال رؤيتي بآلة التصوير، شاهدت المجنزرة وعناصرها أصبحوا كتلة من النار، ولن أنس الومضة التي لمعت عندما لامس الصاروخ الفدائي الشهيد المجنزرة، واستغرقت العملية ثوان، ولكنني تابعت التصوير وأنا جاثٍ على ركبتيّ، لقد نسيت الخوف وكل التطابقات، كانت تدور في رأسي بوقت واحد.
1. لقد دمرنا وقتلنا أعداءنا.
2. حصلت على أعنف وأصدق لقطة سينمائية حية.
3. صوّرتها بشريط سينمائي عريض، أي أنني حققّت التقنية والمضمون على حساب حياتي، وللعلم أن الكاميرا ومخزن الفيلم الكبير والبطارية يزيد وزنها على 16 كغ، هكذا كان: فقد أراد الله تعالى لي الحياة وأراد بعض الزملاء أن يموت الفيلم النادر.
كان هذا في بداية عام 1969 والآن نحن في عام 1998 فعندما رجعت، من الشونة الشمالية لغور الأردن كنت سعيداً وقد وصلت ظهراً إلى دمشق. وذهبت فوراً إلى معمل التحميض التايع لمؤسسة السينما، أعطيتهم الفيلم وكدت أن أقبّل أياديهم ليهتموا به، وقلت لهم سأعود بعد قليل، ويكون الفيلم قد انتهى، من العملية الفنية.
كنت فرحاً كطفل صغير، وكيف لا أفرح وما أجمل أن يرى الإنسان نتائج عمله خاصة وإن لهذا العمل روحاً ونكهة عزيزة، وذات مغزى لقلبي، وقلب كل عربي فالمقاومة كانت أمل كل عربي وإنها الدواء الذي سيشفي كل الجروح التي حرقتنا وأذالتنا.
عدت إلى المعمل بسرعة.
أين الفيلم يا شباب؟
أعطوني النيكاتيف.. ولم يجبني أحد.. وكررّت السؤال، ومرّت لحظات صعبة وقاسية وأتت لحظة تمنيّت فيها أن أطلق الرصاص.. ولكن...على من أطلق؟
لى آلة التحميض أم على...؟!
سمعتهم يقولون آسفين لقد انقطع الفيلم في آلة التحميض وتلف، هكذا وبكل بساطة؟؟!!
اليوم زغرد رشاش الثورة الارترية ولم أرَ منه سوى هذا الوميض المتواصل الموصول على العدو الأثيوبي، وكتل النار المتصاعدة من المعسكر الأثيوبي.
وتساءلت في نفسي وأنا أركض كالغزال أين ذهب الجمل وآلة التصوير وبقية العفش؟ والله لا أعلم.. كما لا أعرف المسافة التي قطعناها وسط الشوك والحجارة! لذيذة الذكريات.
وأفيق من ذكرياتي وأنا أستظل بظل شجرة التاوي الكبيرة، حيث أمضينا يومنا الطويل في انتظار وترقب حدة الشمس أن تخف حتى نتوكل ونتابع السير، وأزفت الساعة وابتدأنا السير، وكانت الساعة حوالي الثانية بعد الظهر، وبدأ العرق يتصبّب من جبيني، وأنا أرفع قدميّ بقوة ونشاط، وكان صاحبنا سليمان يتقدمنا بحوالي عشرين متراً، وتساءلت ما هذه الأرض وما هذه التضاريس..؟ إنها الصحراء بذاتها.
وبدأ الهواء وحبات الرمل الناعمة تضرب وجوهنا إلا أن شدة الحر خفت نسبياً، و غابت الشمس وظهر القمر والنجوم، وأخذت أراقب البرق من بعيد، لقد كنا على مقربة من الساحل والآن وقت الأمطار هنا، ونظرت إلى القمر وتساءلت في نفسي: إنه الآن في بلدي يشع كما يشع نوره هنا، ما اجمل الحرية، إن الفارق بين بلدي وبين هذه البلاد كبير جداً، إن أجدادنا وآباءنا أعطونا الحرية كاملة، الأرض والأنهار والجبال، أعطونا إياها سليمة معافاة، يرفرف عليها علم الحرية وعلم الاستقلال، رحم الله شهداءنا.
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة