مفرح سرحان يكتب "كولونيا الجديدة".. الفجر الذي بشر به هاشم محمود
بقلم الأستاذ: مفرح سرحان - كاتب صحافي وروائي وشاعر ونائب رئس تحرير الأهرام المسائي
لم نكد نستفيق من سكرة رائعته السردية "فجر أيلول"، حتى باغتنا بدرة أخرى من أعماقه السردية
التي لا تنضب دررها، ليخرج علينا بـ "كولونيا الجديدة".
ستحار في سرد الروائي الإريتري هاشم محمود، هذا الأديب القادم من الشرق الإفريقي، كيف يشكل شخص هادئ حد الصمت، رزين حد الانزواء، عالما معقدا متشابكا زخما من حكاياته في نصوص ثرية كقصيدة نثرية تتشح بعباءة الرواية، ولو لم أعرفه عن قرب لقلت إنه شاعر يجرب حظه في الرواية، لكنه أثبت في الرواية أنه شاعر يجيد غزل الحكايات ويلبسها جمال الشعر في صور تخييلية يزدان بها سرده الواقعي على الرغم من مأساوية حكاياته التي تنقب عن الأمل في مناجم إفريقيا وجبالها وشواطئها ومعاناتها التاريخية في سعيها نحو التحرر من الاستعمار (استعمار الذات/استعمار الآخر).
عندما قرأت روايته الملهمة "فجر أيلول"، وكتبت عنها كغيري من عشرات الأقلام التي تناولت ذلك العمل، طاردتني بين سطور الأحداث، نكهة الطيب الصالح في "موسم الهجرة إلى الشمال"، وعندما استسلمت لتلك النكهة الصالحية، أعادتني أحداث فجر أيلول مجددا إلى عالم هاشم محمود الروائي، وكأنها تقول لي: لقد تعجلت في الحكم، فإن كل روائي طريقته، حتى وإن كان هناك ثم تشابه، فإنه في الخطوط العامة، لكن تبقى مكنونات السرد تبوح بعوالم مختلفة.
في عالم فجر أيلول، جمع هاشم محمود الكثير من الشتات في بوتقة واحدة، ونفخ فيها من الإبداع ما أوجد بينها تناغما أوكله - كالمايسترو - إلى بطله "إدريس" منذ خرج من إمباسيرا الإريترية إلى لندن الأوروبية، حتى العودة إلى الوطن (إريتريا)، وفي هذه الرحلة على اختلاف دروبها وشخوصها ومدها وجزرها، بقي هاشم محمود محافظا على نغمة إبداعه فلم تنشز ولم تفتر، لدرجة اعتقدت أن الرواية نص شعري محكم الصياغة والمدلول، رمزه مغرق في الواقعية، وواقعيته ذائبة في الرمزية.
سقطت في سكرة "فجر أيلول" الرواية التاريخية الاجتماعية الرومانتيكية الفانتازية، دون أن أفقد شغفي إلى القراءة والتشويق حتى الكلمة الأخيرة، التي ما إن وصلت إليها، حتى أدركت أن الأحداث لم تنته بعد، وأنه لا يمكن لهذه السيمفونية السردية البديعة أن تبقى وحيدة بلا شقيقة تؤنس وحدة أبطالها، وتدثر برد أطرافها الباحثة عن الأمل والحرية في حر إفريقيا وصقيع أوروبا.. ثم كان ما توقعته ولم يخلفه هاشم محمود.
قبل أيام، تحصلت على نسخة إلكترونية من رواية تحمل اسم "كولونيا الجديدة" ممهورة بتوقيع هاشم محمود ذاته، الذي لم يشأ أن يتركنا نسبر أغوار عالم "فجر أيلول"، حتى قذف بنا في أعماق عالم "كولونيا الجديدة"، التي ما إن طالعت عنوانها حتى أيقنت أنها جزء ثان لفجر أيلول، فالعنوانان بينهما رابط متين من النور الذي تستشعره من لفظتي "فجر" و"الجديدة" في كلا العنوانين، كلمة الفجر ابتدأ بها الرواية الأولى، وكلمة الجديدة كانت منتهى عنوان الرواية الثانية، كأنهما انتظما في عنوان واحد ينبئ عن الحرية التي هي النور والفجر والأمل الوليد الذي يقوم عليه مشروع هاشم محمود الروائي، بل إن الرجل كان كريما في البوح عن ذلك المشروع، عندما أفصح لرهط من معارفه أن لديه من ذلك المشروع ثلاث روايات، نظم منها روايتين، ويستعد الآن لحبك خاتمة الثلاثية.
حملت رواية "كولونيا الجديدة" البطل "إدريس" ورفيقته "ليزا" وحلم الحرية القلق الذي لم يفارق البطل طوال رحلته في "فجر أيلول"، إلى منحى آخر من الصيرورة الحياتية التي حتما تنتهي بحصاد أيام الشقاء والنضال والسير على نهج الأسلاف الذين رسموا طريق الحرية لأخلافهم من أبناء المرتفعات الإريترية، من دون أن يرحم هاشم محمود شيطان الاستعمار (الذاتي/الآخر) من سوط السرد، فداوم على تعذيبه في "كولونيا" مثلما عذبه بإرادة الحرية في "فجر أيلول".
لكن ثمة فارق بين الشيطان في كلا العملين، ففي الجزء الثاني من ثلاثيته التي وسمها بـ "ثلاثية العشق والثورة"، تنتصر الحرية على شيطان الديكتاتورية، وينجح مشروع هاشم محمود الروائي في خلخلة مفاصل الديكتاتورية العجوز بسواعد الحرية الشابة التي وزع أدوارها جيدا على شخصيات عمله الروائي في ميلودراما محكمة وحاكمة، انتهت إلى الفجر الذي بشرت به "فجر أيلول".
إن "كولونيا الجديدة" التي حملت غلافا معبرا عن دررها المكنونة بين دفتيها بريشة الفنان المصري الموهوب حسين جبيل، تحتاج مثلما احتاجت "فجر أيلول" إلى قراءة ثانية وثالثة وعاشرة لسبر أغوارها وقراءة ما بين سطورها، وأخشى أن يباغتنا هاشم محمود بالجزء الأخير من ثلاثيته قبل أن نستفيق من السكرتين الفائتتين: سكرة الفجر وسكرة كولونيا.. وإنا لمنتظرون.