حرب الجياع - الحلقة الثلاثون

بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية

العملة الوطنية:

الوضع السياسي بعد تسلم الجبهة الشعبية مهام السلطة.

حرب الجياع 2

إن كل الدلائل تشير في الوقت الحاضر إلى أن ارتريا في ظل الجبهة الشعبية قد فشلت في خلق مناخ ديمقراطي لشعبها، وأيضاً إقليمي بالنسبة لجيرانها. وهو ما يجب أن تبدأ الجبهة الشعبية في عمله فوراً.

كان من المتوقع أن تبني الجبهة الشعبية وطناً يكون فيه الترابط الاجتماعي مكملاً للنضال الثوري. لقد أهملت الجبهة الشعبية بل أسقطت من حسابها كل التنظيمات الوطنية التي قاتلت الاستعمار الحبشي ووضعت الركائز الأساسية لعملية التحرير الوطني. إن التخوف من اشتعال الداخل الارتري وعدم الاستقرار بات ملحوظاً حتى للغائب. لقد اتفقت الشعبيتان على إقامة "تجراي تجرينيا" كل هذه المسميات تصب في مستنقع واحد، لقد انقادت الشعبية الارترية بطريقة غريزية ودراماتيكية نحو شعب واحد وراء نهر "مرب"( ) أي شعب تجراي.

إن هذا الانجذاب الدراماتيكي زاد في العداء للسلطة في أسمرا من قبل الشعب الارتري، إن مجرد التفكير في قيام دولة من الناطقين بالتجرينية يعد إيذاناً بقيام دولة الحبشة القديمة داخل النطاق الاثيوبي، فالمراقب للأحداث الجارية الآن في الشعبيتين يوحي للمرء بمدى عمق الجذور التي كانت قائمة بين التنظيمين ونستطيع أن نطرح سؤالاً محدداً حول علاقة ارتريا الحديثة بالدولة الاثيوبية الحديثة أيضاً، هل هناك أرضية حول الخلل في بناء هذه العلاقة الأقرب إلى العرقية إن لم تكن عرقية؟

إن قيام الحكومة الارترية "بصك" العملة الجديدة "النقفة"( ) يحمل دلالات عديدة أولها وأهمها، من سيحكم هذه الدولة؟!

أفورقي؟! أم زيناوي؟؟!

لو كانت هناك ديمقراطية في كلا البلدين لما فكر شخصان يتكلمان لغة واحدة بقيام دولة "تجراي ارتريا الكبرى" هذا وضع جدير بالتعمق به ودراسته، والمتتبع بشكل دقيق لعرض كتابي هذا يعرف ويدرك معنى قيام دولة تجراي تجرينيا أي قيام كيان مماثل للكيان الصهيوني على أرضنا العربية في فلسطين، هناك يكون إسرائيل إفريقيا وهنا إسرائيل الشرق الأوسط، إلا أن المصالح الأمريكية الإسرائيلية لم تنضج بعد ؟.

الأوضاع الشخصية:

إن انقلاب أوضاع المصلحة الشخصية بين رئيسي اثيوبيا وارتريا بهذا الشكل المفاجئ والمتسارع أمر يدعو للتساؤل. فقد نالت ارتريا استقلالها، وهذا شيء طبيعي ومشروع وشرعيته في عدالته. إلا أن لغة نظامي البلدين وتوجهاتهما السياسية تكاد تكون متطابقة إذا لم تكن واحدة فالرئيسين أفورقي وزيناوي لهما نفس المزايا ويتمتعان بعلاقات أصيلة وطيدة فهما يتكلمان لغة واحدة ورفاق نضال واحد، والنظامان قطعا شوطاً بعيداً في التحالف فيما بينهما، ويوطدان علاقاتهما مع أمريكا وإسرائيل وما حلفهما العسكري الذي وقعه الرئيسان إلا من أجل إيجاد جبهة عسكرية واحدة يتعاونان فيها مع يوغندا موسيفيني لضرب السودان. والنظامان يعيشان حالة سباق دائمة لإقامة علاقة ذات طابع مميز مع إسرائيل، والأمثلة التالية توضح مدى عمق التحالف بين النظامين سابقاً.

أولاً: اثيوبيا تقيم السدود على نهر النيل والغرض من هذه السدود تعطيش الشعبين المصري والسوداني.

ثانياً: ارتريا تقيم القواعد العسكرية لإسرائيل من أجل أن تحكم الدولة العبرية سيطرتها على مداخل البحر الأحمر الجنوبية. فرحلات السيد أفورقي ووزرائه وضباطه المتكررة إلى تل أبيب تعود إلى توطيد التفاهم والتنسيق، هذه الرحلات لم تعد سراً. إن تصرف النظام الارتري ومعاداته للعرب والثقافة العربية أصبحت واضحة تماماً والنظام في ارتريا أراد منافسة الاثيوبيين في التقرب إلى الغرب وإسرائيل إلا أن اثيوبيا لها علاقات قديمة ومميزة. وكما أسلفنا سابقاً فقد صرح السيد أسياس أفورقي أكثر من مرة بأنَّ هم البلاد وهم إسرائيل يعتبر هماً واحداً؟.. فإسرائيل سند لنا ونحن سند لها؟.. إننا حلفاء وأصدقاء إسرائيل المخلصون في القرن الإفريقي بل في إفريقيا كلها.. أما فيما قبل فالإمبراطور هيلاسلاسي إمبراطور اثيوبيا الأسبق كان يستعين منذ نهاية الأربعينات بالخبرة الإسرائيلية وقنابل الدولة العبرية التي كانت تقتل أبناء الشعب الارتري. إن حالة التطابق في الأهداف والمواقف السياسية وكثيراً من الحالات الخاصة لدى الحكومتين الاثيوبية والارترية تجعلنا من الصعوبة أن نصدق بوجود خلاف بينهما.

إن جذور العلاقات بين أشقاء الأمس والتي كانت سابقاً ممنوع الاقتراب أو المس بها أصبحت الآن مفتوحة الأبواب وعلى مصراعيهما وطالما أصبحت الأبواب مشرعة فلندخل قليلاً ونلقي ببعض الضوء على علاقات أشقاء الأمس.

تسلمت السلطة في ارتريا الجبهة الشعبية والتي يرأسها السيد اسياس أفورقي صاحب الأفكار الممركسة سابقاً وصديق الدولة العبرية لاحقاً وقد نتج عن ذلك الأتي:-

أولاً ـ اعتقد النظام أنه يستطيع أن يقوم بدور إسرائيل في القرن الإفريقي، بحيث تبنى توجهاً معادياً للعرب والتوجه العربي.

ثانياً ـ وثق صلته بالولايات المتحدة وإسرائيل ومجلس الكنائس العالمي.

ثالثاً ـ الحدود: إن الحدود المختلف عليها والتي لم يبت في أمرها مع كل من اثيوبيا ـ جيبوتي ـ اليمن. دول الجوار هذه وجدت نفسها عرضة لهجوم إعلامي أعقبه هجوم عسكري.

رابعاً ـ ابتدع النظام الارتري مبرراً وحقوقاً لا تمت للحقيقة والتاريخ بصلة. فالنزاع الذي نشب بين شقيقي الأمس في بداية شهر أيار من عام 1998 وتطور إلى حرب حقيقية شاملة أكلت الأخضر واليابس وحصدت النساء قبل الرجال، فهل كانت تلك الحرب حرباً إثنية أم حرب توسع؟.

إذا أردنا أن نتساءل عن أسباب هذه الحرب ودوافعها، فإلى أين سنصل في هذا لنحاول بداية أن نقرأ جانباً من خفاياها:-

أولاً: لنبدأ بخلاف الحدود الذي أدى إلى سقوط (مائتي ألف قتيل ومليون لاجئ) من الجانبين، فضلاً عن زعزعة الاستقرار في القرن الإفريقي بأكمله.

الحقيقة تختلف عما قدمته البلدان لهذه الحرب، فحكام اسمرا يحمّلون حكام اثيوبيا "التجراي" مسؤولية السعي لضم المناطق التي تصفها الحكومتان بالمناطق المختلف عليها وقد عبر عن موقف الحكومة الارترية القائد العسكري الجنرال قرزهير تسفاماريام بقوله لقواته عندما بدأت هذه القوات تحتل مدينة "بادمي".

علينا أن نحتل المنطقة كلها حتى نصل إلى الخط الحدودي الدولي.

جاء رد الاثيوبيين قاسياً حيث قالوا إن ما أورده النظام الارتري حول الاختلاف على منطقة "بادمي" أو غيرها إنما يعبر عن وقاحة النظام الارتري.
البـــداية:

إن الذي حصل بين اثيوبيا وارتريا تجاه بعضهما في البداية ليس شيئاً استراتيجياً ومن الممكن أن يكون أمراً طبيعياً يحصل بين دول الجوار المتداخلة سياسياً واقتصادياً فيما بينهما. هذا ما صرح به رئيس الوزراء الاثيوبي ملس الزيتاوي لمجلة "أفوتيا" الناطقة بلسان الجبهة الديمقراطية لشعوب اثيوبيا. فعندما استولت الجبهة الشعبية مقاليد الحكم في شهر أيار من عام 1991 كان همها إشاعة الديمقراطية وحق تقرير المصير، فمنحت ارتريا استقلالها ثم بدأت تتخذ خطوات عملية نحو نمو الشعوب الاثيوبية العديدة ومن هذه الخطوات احترام حقوق الإنسان الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 فالدستور الاثيوبي الذي تحكم بموجبه الجبهة الشعبية ملتزم بسياسة حق تقرير المصير للشعب الارتري. ولهذا قبل وتعاون مع النظام الارتري لإجراء الاستفتاء في شهر نيسان عام 1993.

شعر النظام الارتري بأن الديمقراطية بدأت تنبت في اثيوبيا بشكل أو بآخر؟ هنا ظهر نوع من التفاؤل في أوساط قسم من المعارضة الارترية بأن الوضع في اثيوبيا إذا استمر في هذا النهج فسوف يؤثر بشكل إيجابي على الوضع في ارتريا، كيف تُفسر ذلك؟

أيام المحادثات التي جرت في لندن( ) كان من الواضح تماماً أن الجبهة الشعبية لتحرير تجراي لها علاقات وطيدة وحميمية مع أمريكا التي لعبت دوراً كبيراً ومهماً في استيلاء قوات الجبهة الثورية على السلطة، خصوصاً عندما نعرف أن معظم مستشاري الجبهة الثورية كانوا من مشاهير المحللين الأمريكان ومن بينهم المحلل الكبير بول هينز الذي يتبع هيئة راند الأمريكية. وهنا نقف قليلاً لنتعرف على ماهية الأيديولوجية لكل من التنظيمين.

التنظيم الأول وهو الجبهة الشعبية لتحرير تجراي: وهو الأساسي والمهم، وأيضاً هو الذي قاتل بشراسة وأسقط نظام منغستو هيلامريام الماركسي.

كانت الماركسية منهج الجبهة الشعبية التجراوية بشكل معلن أحياناً وبشكل سري أحياناً أخرى؟

التنظيم الثاني: الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية الاثيوبية الشقيق الأصغر للجبهة الشعبية لتحرير تجراي. هذا التنظيم كان يتبنى إلى وقت قريب النهج المتشدد في الماركسية اللينينية والستالينية؟.

في شهر أيار من عام 1991، ادعت الجبهة الثورية أنها ملتزمة التزاماً كاملاً بالديمقراطية، فالحب والتآخي الذي ظهر بين الولايات المتحدة والجبهة الثورية كان حباً محرماً يصل إلى حد الشذوذ. والانتقال السريع إلى السلطة كان من تدبير الولايات المتحدة، فأمريكا لعبت دور متفرج وبطرق عديدة لإخراج الرئيس منغستو هيلامريام من أديس أبابا إلى زنبابوي لاجئاً، فالرئيس الأمريكي "بوش" لعب دوراً متميزاً في التآمر على رئيس اثيوبيا منغستو هيلامريام كما أن مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية قد أنار الضوء الأخضر لقواعد الجبهة الشعبية الثورية لدخول العاصمة أديس أبابا، وإدارة المدينة والبدء في تكوين حكومة انتقالية بغرض إصلاح القانون والنظام.

اجتاحت قوات تجراي ترافقها قوات الشعبية الارترية العاصمة أديس أبابا عسكرياً في 1991/5/28 أي بعد أسبوع واحد من خداع الولايات المتحدة لرئيس اثيوبيا وخروجه منفياً إلى هراري.

الماركسيون المتشددون:

إن الجبهة الثورية الاثيوبية تعتمد الخط الماركسي شأنها شأن أكثرية الحركات السياسية الإفريقية، لكنها عندما تصل إلى السلطة تتغير؟

ونستطيع أن نشبه الجبهة الشعبية لتحرير تجراي بالجبهة الشعبية لتحرير ارتريا، فقد كانت الجبهتان المذكورتان تعملان وفق المفاهيم والتعاليم الماركسية والنظام الاثيوبي الحاكم أيضاً نظام ماركسي فما هو الخلاف بينهما إذن؟!.

1. الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا تريد الانفصال عن اثيوبيا.

2. الجبهة الشعبية لتحرير تجراي، تريد الوصول إلى الحكم وتسلمه بالقوة كقومية تجرية من قومية الأمهرا المتسلطة منذ قرون عديدة على السلطة؟

3. النظام الحاكم الماركسي، خلع الإمبراطور هيلا سلاسي وحول اثيوبيا إلى جمهورية وتبنى النظام الماركسي.

إذن الثلاثة ماركسيون والقتال دائر بينهما ولا يمكن حل الخلافات بالحوار وقد اختار الثلاثة البندقية للحسم بينهما.

ملاحظــات:

إن الجبهة الشعبية لتحرير تجراي ليست ماركسية الجوهر، إنما تركيبها الأيدلوجي مبني على أساس عرقي. والتأكيد على ذلك يتمثل في هجومها السياسي والمسلح على المنظمات اليسارية المتعددة الأعراق ومن بين هذه التنظيمات "حزب الشعب الثوري الاثيوبي" و"النظام الجمهوري الماركسي" الذي يرأسه منغستو هيلامريام.

ولهذا نطرح السؤال التالي:-

لماذا يعادي ويقاتل هذين التنظيمين الماركسيين، نظاماً ماركسياً قلب نظام حكم رجعي موغل في الرجعية والإقطاعية؟.

الجواب: مما لاشك فيه أن هناك عناصر ماركسية في تنظيمي شعبية تجراي وشعبية ارتريا، لكن هذه العناصر غير منظمة ومن الممكن مقارنتها بالمنظمات السياسية التي يقدمها التقدميون الأمريكيون على أنها ماركسية. وفي حقيقة الأمر إن مثل هذه المنظمات تعمل في إطار أهداف الولايات المتحدة.

إن بعض الاثيوبيين يعتقدون أن الجبهات الثلاث، شعبية تجراي والشعبية الديمقراطية الاثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير ارتريا، جبهات ماركسية تخلت عن اتجاهاتها تبعاً للارتباط المبكر لبعض قادتها الكبار المهيمنين على توجيه أيديولوجياتها. فالنفاق الأيديولوجي لهذه التنظيمات خطر ولا يمكن الوثوق به من قبل الحركات الماركسية الأخرى في كل من اثيوبيا ـ ارتريا، لأنها في الأصل ملغومة قيادياً وهي في واقع الأمر العون الأكبر لسياسة أمريكا في المنطقة كلها.

الى اللقاء... فى الحلقة القادمة

Top
X

Right Click

No Right Click