سلسلة حلقات رواية انتحار على أنغام الموسيقى (القصة الثامنة) زفاف على قبر ميت
المصدر: عزة برس تأليف الكاتب والروائي: هاشم محمود
تستعد زهراء لإتمام زواجها والخروج من منزلها في عرس كبير منَّت نفسها به منذ عدة سنوات،
كغيرها من باقي فتيات القرية اللاتي أنهين تعليمهن، لينتظر أخواتها مثلها هذا العرس حتى يجنين حصاد وتبعات خروجها من المنزل لتقسيم مقتنياتها القديمة والمستعملة بينهن:-
– لا أريد شيئا سوى ملابسك.
– وأنا تعجبني أحذيتك أحذيتك.
– أنا لا أريد هذا ولا ذاك، من اليوم هذا الفراش لي، أخيرًا أصبح لي فراش بمفردي أنام عليه دون مشاركة.. شكرًا يا رب.
تنظر زهراء إليهم مبتسمة على التركة التي قسمت بينهم دون أدنى اعتبار لموافقتها من عدمها:-
– هل ورثتموني حية؟
– ورثة الأحياء رضا ومحبة بينما ورثة الموتى حزن ووحدة، إلهي يطيل عمرك يا أختى، هكذا قالت الأخت الصغرى فاطمة.
– توقفي عن الفلسفة يا فاطمة، لا أحد سيأخذ شيئا حتى أرى ما ينقصني، فلا أريد أن أحمل الوالد أعباءً أكثر، واطمئني سأعيش مائة عام على قلوبكم.
– العروس لا تتزوج سوى بالجديد، مالك والملابس المستعملة والأحذية المتهالكة.
– متهالكة! هذا الحذاء اشتريته منذ ثلاثة أشهر، كيف صار متهالكًا؟
– لا علاقة لي.. سآخذه.
هدى: الحمد لله لا أريد ملابس ولا أريد حذاء، فقط أريد الفراش، أريد أن أملك هذا الفراش وحدي، فطالما كنا شركاء فيه منذ ولدت، أخيرًا ستذهبين وأنام مستلقية عليه دون عتاب على طريقة نومي.
– أشعر وكأنكم تودعونني بلا عودة، أنا سأتزوج في القرية، لا تنسوا ذلك، كل الأمر بضعة كيلوات.
– لم يعد لكِ مكان يا حبيبتي.
– منزل المرأة هو منزل زوجها.
أيام تمر كأنها سنوات، زهراء لا تنام، أحلام مزعجة تراودها خوفًا من عدم إتمام الزواج، وتلك مشاعر طبيعية تجتاح الشباب والفتيات في فترة ما قبل الزواج بأيام قليلة، كل يخاف من مجهول، وكأن المصائب لن تأتي سوى على أقدام الفرح.
هذه طبيعة النفس البشرية كلما شعرت بالسعادة الشديدة وقرب الفوز بها، شعرت بالخوف الشديد من فقدان هذا الشيء الذي يمثل لها كل السعادة على ما تظن ذلك، فمن يدري ربما تبدو الأمور جيدة في العلن لكنها قد تحمل شرًا خلفها.
والد البنات يشعر ببعض الألم المعتاد لنوبات الكلى، فكثيرًا ما يستيقظ أهل المنزل على صرخاته المتكررة، لكن تلك الآلام وهذه الصرخات لم تكن أبدًا مانعًا عن أيّ شيء.
الأب والأم كعادة أهل القرية يشترون كل ما تحتاجه العروس استعدادًا لتجهيز منزلها حتى ولو كان ذلك بالدين، المهم ألا ينقصها شيء، فلا تكون أقل من زميلاتها، ومن هم في نفس عمرها من الأهل والأقارب.
رغم أن الأشياء مكلفة جدًا، إلا أن مجرد الشراء كان يضفي نوعًا من السعادة على تلك الأسرة المتوسطة الحال، فتلك هي الفتاة الكبرى وأول فرحة للعائلة.
تسير الأمور في خطواتها المعتادة، تُعلَّق الزينات، يأتي الجيران والأهل يباركون ويقدمون الهدايا لأهل العروس، الأوراق جميعها مكتملة لكتب الكتاب، من اليوم الذي يسبقه لم يبقَ سوى إمضاء العروس في ذلك العرس المتوسط، وإشهار الزواج على أنغام الموسيقى الشعبية والغناء المتوارث.
– لا تخبري أحدًا، اذهبي وأكملي المهمة؟
ببكاء حار: كيف تستكمل بدونك! لا فرح اليوم، يؤجل حتى تتم الشفاء.
لا يمكن أن يؤجل، لم يبقَ وقت، المأذون على وشك الحضور، هيا لا وقت، أسرعي.
لا يمكنني، سأبقى بجوارك، كيف لي أن أتركك، لن أذهب!
لأول مرة يا أم زهراء ترفضين لي طلبًا.
يحترق قلبها على كلمة تخرج من فمه، فكيف لها أن تكمل فرح ابنتها دون حضوره، فلا تعرف كيف تجيبه.
لا وقت اذهبي.
سأذهب، وأنهي الأمر سريعًا ثم أعود إليك.
دعي البنت تفرح، لا تستعجلي شيئًا، سنتلقي مهما حدث.
تحتضنه الزوجة وتقبل رأسه ويده، ثم تبادر لإحدى الممرضات بإعطائها بعض من النقود لتتم واجبها في رعايته على أكمل وجه حتى عودتها بعد ساعتين على الأكثر.
يلاحظ أحد الأطباء ما يدور حوله، فينادي عليها: يا امرأة! وقت الزيارة قد قرب على الإنتهاء، فلا داعي لعودتك مرة أخرى.
لا يمكن ألا أعود، أنا لن أزوره بل سأبقى معه.
كيف لك بالبقاء في غرفة الرجال؟ اذهبي الآن، ويمكنك العودة في الصباح.
لا تكترت الزوجة لما تسمع من الطبيب: سأذهب وأعود بعد ساعتين.
تذهب المرأة مسرعة إلى المنزل، لتعلم بذهاب ابنتها إلى مركز التجميل للاستعداد للفرح.
تعود مسرعة إلى المشفى والتي توجد على بعد 10 كيلومترات من القرية، تركض إلى غرفة زوجها، الفراش خالٍ تمامًا، لا أحد على فراشه، تسأل عنه، يساق إليها خبر وفاته، تصرخ المرأة ليملأ صوتها أركان المكان، لا أحد يمكن له أن يوقفها أو يمنعها.
لم يحرِّك الأطباء ساكنًا، اعتادوا على ذلك الأمر، المرضى في فراشهم، فقط أقاربهم يخرجون من غرفهم لمعرفة الأمر، إنها حالة وفاة.
إنا لله وإنا إليه راجعون، عظَّم الله أجرك.
تسرع إليها إحدى النساء التى تقيم في المستشفى برفقة ابنتها لتأخذها بين ذراعيها لتبث فيها السلام والسكينة، تربت عليها، تقرأ عليها: (وبشِّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون).
ليأتي آخر يقترب منها: ”إنك ميت وإنهم ميتون“، ”وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن الله“، ”كل نفس ذائقة الموت“، ”أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيدة“.
أما هناك كان أحد المشايخ يبارك العرس ويتلو بعض من آيات الذكر الحكيم: ”ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمةً إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون“، ”هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن“، ”وعاشروهن بالمعروف“.
يتبادل الأقارب التهنئة، بينما في المشفى يتبادل المرضى العزاء، يشرغ المغسل في تغسيل الزوج، ومصفف الشعر يبدأ في غسل شعر العروس ”زهراء“، يهيئها للعرس، بينما والدها هناك في المشفى يهيأ للدفن.
ترتدي الفتاة الفستان الأبيض، بينما والدها يرتدي الكفن الأبيض، المرأة توقع على تسلم الجثمان، والطبيب يوقِّع على تصريح الدفن، بينما العروس توقِّع على عقد الزواج وعمها يوقِّع شاهدًا.
يرقص الأهل فرحًا، والزوجة تتمايل قهرًا وحزنًا، هنا في العرس تقبل التهاني والمباركات، وهناك في المشفى يقبل العزاء.
الفتاة تبحث عن أبيها، والمرأة تنعى زوجها، عين الفتاة لا تغادر باب دخول المعازيم، بينما عين الأم معلقة على باب المشرحة.
عرف العم بما حدث، أخبره أحد العاملين بالمستشفى بأمر الوفاة، ولم يرد أن يخبر أحدًا، أراد أن يكمل الزفاف رغم وفاة أخيه، هو يعلم جيدًا أن تلك وصية أخيه الأخيرة، ففي العشر دقائق التي تركت فيهم الزوجة المستشفى كان الأخ يودع أخاه، ليأمنه قبل موته على بناته ويستحلفه بالشهادة على عقد زواج ابنته دون أن يخطرها بشيء، وإن سألته فليخبرها بأنه علم بمرض جدك فذهب مسرعًا إليه فربما تكون تلك ساعته الأخيرة.
عند خروج العم من المستشفى أوقفه أحد العاملين بها؛ فهو صديقه منذ الطفولة، ليستفسر منه عن سبب قدومه إلى هنا، فيخبره عن أمر أخيه، فيطلب منه الذهاب لإتمام الفرح على أن يتابع معه أمر أخيه عبر الهاتف.
تلقى الخبر فور وصوله العرس، وقبل مجيء العروس، فكتم حزنه في قلبه، مبتسمًا للمدعوين رافضًا البوح بما حدث نزولًا على رغبة أخيه.
تأتي المرة مسرعةً إلى ابنتها تحتضنها وتباركها، فتسألها الفتاة عن سر اختفائها: أبدًا! كنت أعد الطعام لك وذهبت فأودعته في منزل الزوجية.
تبتسم الفتاة: الله لا يحرمني منكِ ولا من أبي يا أمي.
تبكي المرأة وهي تمسك بيد ابنتها، وكأنها تتحدث بيدها لا بلسانها.
لماذا البكاء يا أمي؟
دموع الفرح يا ابنتي.
أنتم دائمًا هكذا لا شيء يفرحكم، هكذا قالت فاطمة عندما رأت دموع والدتها، فهي قد اعتادت بكاء الأمهات عند زواج أبنائهم.
أين أبي؟
هناك بالخارج يستقبل الرجال.
لكنني لم أره منذ بداية الفرح، كما لم يوقع على عقد زواج زهراء.
لا تتوقفي عن الحديث أبدًا! هيا اذهبي وأعدي ما تبقى لأختك حتى تذهبا معها لمنزلها.
وأنتِ؟
كيف لي أن أترك الحضور يا ابنتي؟
حسنًا يا أمي، وأبي هل يأتي معي؟
نعم سيصل معك، لكن في سيارة أخرى.
تستعد العروس لمغادرة الفرح برفقة عريسها، تسير السيارة ببطء برفقة بعض السيارات محدثة الأصوات لإعلان الأفراح، وتخرج سيارة دفن الموتى من المستشفى تسير ببطء نتيجة الزحام الذي أحدثته سيارات الأفراح.
افسحوا الطريق، الميت له حرمته.
يتخذ العروسان جانبًا من الطريق لتمر سيارة الموتى بجانب سيارة الزفاف، فتلقي الفتاة نظرة عليها: اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين.
تصمت الفتاة قليلًا تدعو لوالدها بطول العمر.
هذا ليس وقت الحزن.. اليوم فرحنا يا زهراء حياتي.
تصل سيارة دفن الموتى إلى المقابر، وتصل سيارة الزفاف إلى بيت الزوجية، يخلع الزوجان نعليهما لدخول المنزل، والرجال يخلعون نعالهم أمام مقبرة الرجل لإتمام عملية الدفن.
يصلي الرجال عليه قبل الدفن، فلم يكن هناك متسع من الوقت للصلاة عليه؛ فقد انتهت صلاة العشاء وأغلقت المساجد، ولم يكن هناك مكان سوى المقابر، تبدأ صلاة الجنازة، ويستأذن العريس عروسه لصلاة ركعتي الزواج: ”اللهم إني أسالك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه“.
وهناك أمام القبر: ”اللهم ارحم غربته وارحم شيبته وانزل نورًا من نورك عليه، وأبدله دارًا خيرًا من داره وأهلًا خيرًا من أهله“.
كل يدعي على ليلاه، دعاء النهاية ودعاء البداية، فكل يسكن منزلًا جديدًا، والدها يسكن التراب وهي تسكن الزواج.
ينزل رجلان المقبرة، يرفعان الكفن عن جسد المتوفى، بينما يخلع الزوج الرداء عن زوجته، يوجه الرجلان رأس الميت في اتجاه القبلة، بينما يوجه العريس عروسه في اتجاه الفراش.
يبدأ المشيعون يُهيلون التراب عليه، يبعثرون التراب على جسده، ويبعثر الزوج قبلاته على جسد زوجته، يمسك أحدهم بفأس ليدق على آخر حجر يوضع على المقبرة لتأمينها، بين يدق الرجل غشاء زوجته فيخترقه لتسيل الدماء بين فخذيها، وتسيل الدموع على وجه الأم لوداع زوجها الحبيب ”أبو البنات“، ليبدأ كل منهما رحلة جديدة مع عالم ينتظرهما.
تعود المرأة إلى منزلها تخبر فتياتها بكل ما حدث، الفرح تحوَّل إلى مأتم، السعادة تحولت إلى حزن شديد، الجميع علم بأمر الوفاة كما علم بأمر الفرح، وحدها العروس لم تعلم بأمر وفاة أبيها.