سلسلة حلقات رواية انتحار على أنغام الموسيقى (القصة التاسعة) اغتيال المستعمر

المصدر: عزة برس  تأليف الكاتب والروائي: هاشم محمود

في بداية ثمانينيات القرن الماضي، حينما كانت الساحة الإريترية في مرحلة هدوء تام

رواية الانتحار على انغام الموسيقى

بعد الانسحاب الاستراتيجي للتنظيمات الإريترية تحت الضغط العسكري القوي للعدو الإثيوبي المدعوم من المعسكر الشرقي حينها عدةً وعتادًا؛ فالاتحاد السوفيتي ومن معه أسهم في تقوية أثيوبيا عسكريًا وماديًا مما أجبر الثوار الإريتريين على الانسحاب إلى المناطق الخلفية، واتخاذ دفاعات قوية لحماية ما تبقى لها من عدة وعتاد، وبعد أن كانت الثورة الإريترية ممتدة في طول البلاد وعرضها، والمدن الإريترية تسقط يومًا بعد يوم في أيدي الثوار، وحلم الشعب الإريتري يتجدد بالاستقلال، إلا أن عدم التنسيق بين الثوار كان عاملًا مهمًا لهذا الانسحاب، ونتيجة لهذا الانسحاب الاستراتيجي ظهرت الخلافات بين بعض القادة الإريتريين، وشكَّل هذا عبئًا ثقيلًا على معنويات الجنود الذين يتساءلون كيف ننسحب ونحن على مشارف العاصمة أسمرا؟! فهنالك تنظيميات بقيت بالساحة الإريترية وأخرى انسحبت إلى داخل الأرضي السودانية تاركة الساحة للتنظيمات الأخرى.

إن أي تنازل يبدأ دومًا بخطوة إلى أن تفقد كل المساحة.. ليتهم لم ينسحبوا!

تفرقت الثورة الأم في بقاع الأرض بين من ترك النضال وبين من بحث عن مصالحه الشخصية، وكان من اتخذ قرار الانسحاب كان يريدها هكذا!

فالأحلام تبددت، اليأس دخل نفوس الجنود البواسل.. إنها جرعة الحماسة الزائدة، وبدخول الثورة الإريتريية إلى الأراضي السودانية اتضحت النوايا الحقيقية لأعداء الثورة، فكان هدفهم تفتيتها وإفقادها القدرة على التماسك، وقد حاول كثيرون من قادتها الشرفاء إعادتها ولكن دون جدوى.

بعض القادة لا يمكن أن تحدد دوره ومهامه هل هو عسكري أم سياسي! فقد كان متسلطًا ويعمل على بسط سيطرته وإدخال سياساته الخاصة ومفاهيمه من أجل أهداف شخصية، وآخرون وصلوا إلى أعلى مراتب القيادة بسرعة البرق، ومن دون أي تجارب تذكر وما بين هذا وذاك كانت الثورة ضحية أخطاء فردية وجماعية عسكرية وسياسية.. إن من لم يخطط لمسيرة حياته الشخصية كيف له أن يخطط لإدارة أمة؟!

وانقسمت الثورة بعد ذلك إلى ولاءاتٍ ضيقة، وأصبحت الانشقاقات صفةً ملازمة لها طيلة هذه الفترة، بل إن الهدف الأسمى للثورة أصبح بعيد المنال، ودخلت توازنات أخرى أضرت كثيرًا بالقضية وكوَّنت ترسباتٍ أخلاقيةً واجتماعية سيعاني منها الشعب الإريتري لفترة أخرى وربما لأجيال.
أي عمل غير ممنهج، ويدار من دون مؤسسية إدارية يصبح وبالًا، وإن إدخال العواطف في القضية العامة يعني إدخال نفق الفشل ويصعب تداركها إلا من خلال عمليات بتر قوية لتبعاتها.

عاشت التنظيميات الإريترية، بعد تلك المرحلة، على واقع المناكفات فيما بينها وبث روح الإشاعة والأخبار الكاذبة والهزيمة النفسية في صفوف منتسبيها، وإصدار منشورات تطبع بالليل وتوزع بالنهار تحكي عن معارك وهمية حدثت مع العدو الإثيوبي وآخر ينفي تلك المعركة العسكرية ويؤكد أن قواته كانت على مشارف جبل النعام، وما حدث كان عبارة عن مسرحية هزيلة الإخراج فكان التخوين المتبادل بين للتنظيمات الإريترية، وآخرون يروِّجون لإشاعات تضر العمل العسكري، بل تقدح في بعض الوطنيين من القادة.

هنا عاش اللاجئ الإريتري فترة حرجة يكسوها اليأس من أفعال قادته العسكريين والسياسيين، وأفقدهم السيطرة حتى على تصرفاتهم البسيطة، وأصبحت المسافة شاسعة بينهم وبين مواطنيهم، بل قلة اللقاءات التي كانت تعج بها الساحات في سبعينيات القرن الماضي، فلم يكن هناك جديد يمكن أن يقدموه، وأصبحت مقاهي ومجالس معسكرات اللاجئين الإريتريين تعج بالصراعات بين الموالين للتنظيمات الإريترية.

وفي ظل هذه الظروف الصعبة قدم إلى معسكرات اللاجئين الإريتريين أحد التنظيمات الإريترية قائد مرموق بجبهة التحرير الإريترية، والذي كان ضمن من أخفقوا ودخلوا إلى الأراضي السودانية محتميًا بها من ضربات التنظيمات الأخرى، وقد تم أسره من قبل القادة العسكريين أصحاب الخطوة التصحيحية لإعادة الثورة إلى وضعها الطبيعي، وكان قد التحق بالثورة أو التنظيم الآخر، جاء يقدم تنويرًا عامًا عن الوضع بالميدان وأن الثورة ما تزال بخير.

وفي ختام التنوير انهالت عليه الأسئلة: أين جنودنا في الثورة الأم؟! وأين؟ وأين؟! إلا أنه كان يتهرب من مواجهة الأسئلة ذات الطابع الحقيقي؛ فقد تأثر بسياسة التنظيم الذي التحق به مؤخرًا ألا وهي عدم الخوض في التفاصيل وإعطاء الأجوبة المبهمة التي لا تفيد، وهذه سياسة الأنظمة الدكتاتورية التي دومًا تتهرب من مواجهة شعبها وتعمل على إضعافه بشتى السبل.

المبدأ يظل المبدأ مهما حاولت إخفاءه، ويُكشف في أول مواجهة الحقائق، فلا تعبث بمبادئك التي خرجت من أجلها والتحقت بالثورة دفاعًا عنها؛ فمن تعمل معه الآن لا ولن ينسى لك مواقف تنظيمك السابق تجاه قادته، ولن يعفيك من تلك الأخطاء، إنما هي مرحلة وستنكشف الحقيقة.

مرت الأيام والسنون الطوال بين رفقاء الأمس وتحرر كامل التراب الإريتري الهدف الأسمى لكل الشعب الإريتري بألوان طيفه المختلف، وتقلد القائد عدة مناصب سياسية، وتنقل بين الأقاليم الإريترية المختلفة حاكمًا حتى حانت ساعة الحقيقة وكشف الحساب؛ فكان نصيبه جزءًا من ماضيه وخلفيته التاريخية التي تنكَّر لها يومًا ما، فإلى الإهمال والتناسي أولى مراحل القتل والإعدام السياسي لأي شخصية ومنها إلى مرحلة توجيه التهم له حتى يكون منبوذًا وسط مجتمعه وغير مرحَّبٍ به، فقد بدأ يتذكر كل تلك المواقف السابقة، بل ويتحدث عنها مع المقربين منه.

وفي ذات يوم خريفي ممطر، كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة ظهرًا، إذا بأحد أصدقاء الأمس يقابله في أحد المحلات التجارية التي هرب إليها كلاهما من أجل الاحتماء من المطر، ولم يكن أفضل المتفائلين يعتقد بأن لقاء مثل هذا سيكون له أثر طيب.

ألف مرحب صديقي! ما الذي أتى بك هنا؟

أراجع إحدى الدوائر الحكومية؟

جميل أن نلتقي بالصدفة.

وأنت من أين أتيت؟

لقد كنت في زيارة إلى مدينة مندفرا.

يا سلام! كم لي معها ذكريات في أواخر السبعينيات حينما تحررت على إيدي الثوار الإريتريين.

للأسف تستكثر عليها اسمها الحقيقي؟

إنها جبهة التحرير الإريترية أم النضال، هل تذكر عندما قلت لك في سمنار بأنك تنازلت عن مبادئك وأصبحت تضحك على زملائك؟ ربما قد فهمتني خطأ.
لا للأسف لا زلت تتنكر لهم؟

كيف؟

حتى جبهة التحرير بدأت تسميها الثورة ألست متنكرًا لها؟

اتركني وحالي فما عاد لي نفس في الرجوع إلى تلك الأيام، ليتني كنت مواطنًا عاديًا أعيش حياتي بكل هدوء.

وبدأ صديق الأمس يحكي له عن حال مندفرا، تلك المدينة الجميلة التي تقع في وسط الضفة الإريترية ذات المناظر الخلابة والطبيعة الساحرة، خاصة في أيامنا هذه موسم الخريف والتي تشتهر بإنتاج العديد من الفواكه وخاصة التين الشوكي بمذاقه الجميل.

وبينما يسرد له حال تلك المدينة وقف له عند إحدى المحطات المهمة، وكان يلبس جلابية بيضاء وعمامة ويمشي في أطراف المدينة، إذا به يمر على رجل ثمانيني العمر، جالس أمام بيته يحتسي الشاي في ذلك الصباح الجميل، وكانت حفيدته تجلس بجواره فلما ألقيت عليهم التحية رد عليَّ باللغة العربية الفصحى وطلب الجلوس إلى جواره، فقلت له: إنني على عجلة من أمري. فسألني عن اسمي؟ قلت: عبدالرحمن، ثم سألني أين أسكن أو من أين أتيت؟

قال لشيء في نفسي سأخبرك به قلت له: إني مواطن إريتري أقيم بالسودان.

فقام الرجل من كرسيه بصعوبة وقد أعنته على ذلك وضمني إليه وهو يرجف ويبكي في آن واحد، ويسألني أين أمي؟ أمي؟ أمي؟!

فقلت له: من هي أمك؟

فقال: جبهة التحرير الإريترية التي غرست فينا قيمًا جميلة، كانت تهتم بالتعليم والصحة، وكانت قد خرجت جبهة التحرير من هنا، والجميع في انتظارها أرجو ألا يطول الانتظار.

وبكى مسؤول الأمس بما ذكره له صديقه:

ليتنا تأملنا كثيرًا في التاريخ الحديث وكنا منصفين لدور الأجداد والآباء ولو بالقدر اليسير. إذا ضيعت أهدافك فحافظ على ذكراها للأجيال حتى لا تنسى وينساك معها الزمان.

مندفرا، إغردات، إنها حاضرة إقليم القاش بركة في ذلك الوقت، إنها أكبر مدن الغرب الإريتري، حيث تتخللها الجبال ويروي أرضها نهر بركة، حيث البساتين التي تشكل جزءًا كبيرًا من المنطقة التي تمتد على طول نهر برك، ولشجر الدوم رونق خاص ومكانة طبيعية حينما تعانق أغردات طبيعتها زراعيًا حيث يعمل معظم سكانها بمختلف أنواع الزراعة وللثروة الحيوانية، إنها مكانة خاصة فيها شهدت أغردات أول حالة تمرد على العدو الإثيوبي، كان ذلك بمحاولة تفجير أحد مصانعها.

عبدالرحمن رجل ستيني العمر وأحد أكبر تجار المدينة، بل من وجهائها، حيث يقوم بإرسال البضائع عن طريق الجمال إلى كل مناطق القاش وبركة في ذلك الوقت.

طويل القامة، فارع الجسد، ذو وجه مدوَّر، يرتدي كعادة أبناء المنطقة، الثياب البيضاء، جلابية، طاقية، سيدرية، يمشي بين أبناء أغردات بتواضع جم مما زاد من شعبيته، وأصبح رمزًا من رموز المدينة، وذو سمعة طيبة مع أبناء الريف الغربي حيث يرجعون إليه في الكثير من الأمور التي تهم المنطقة.

ياسين ابن الناظر هو الآخر طيب المعشر، أكتسبه شهرته من خلال عمله بسوق المواشي ضمانًا في عمليات البيع والشراء التي تتم؛ لما تمثله القبيلة من مكانة بين الناس، ولكل قبيلة لها علامة مميزة تجدها في بهائمهم من خلال النظرة الأولى للأبقار أو الأغنام، بل حتى الإبل تعرفها بأنها تتبع لقبيلة بعينها.

ياسين من خلال جلساته مع أبيه العمدة مع أشهر قبائل المنطقة اكتسب العديد من الصفات، وعرف العديد من الميزات التي يستطيع من خلالها الفصل بين أبناء ومكونات تلك المدينة.

ياسين قصير القامة عريض المنكبين، كثيف الشعر، ذو بشرة سوداء، رجل تعلو وجهه علامة السجود جهوري الصوت رغم قصر قامته، محب للناس ويطلق عليه شيخ المساكين، حيث إنه في كل يوم جمعة بالمسجد الكبير يثخرِجُ مبلغًا من جيبه ويمر بالصفوف مرددًا: هيا نخرج لمساعدة المساكين، يسلِّم المبلغ لإمام المسجد الذي بدوره يوزعه للمستحقين من فقراء المدينة.

في مساء كل يوم يلتقي عبدالرحمن التاجر مع ياسين شيخ المساكين بمقهى محمد حامد، المقهى الذي يتوسط سوق أغردات حيث يتبادلون الحديث عن أمور الدين والدنيا وحالة البلد وأخبار الثوار الإريتريين الذين يجوبون طول البلاد وعرضها في عمليات كر وفر مع العدو الأثيوبي الغاشم.

كان ذلك في بداية سبعينيات القرن الماضي، وفي فصل الصيف تجد المدينة شبه خالية من السكان؛ لأن درجة الحرارة فيها لا تطاق، ولأن الحياة بدائية فيها فتجد معظم سكانها يحتمون بالبساتين التي تمثل المأوى والملاذ الآمن.

في هذا الفصل، وفي الفترة المسائية تجد منابر اجتماعية بالأحياء، مجموعة تجلس هنا في إحدى الطرقات يتحدثون عن أمورهم وأخرى هنالك، فما أجمل الأمسيات بمدينة أغردات تحت ضوء القمر الذي يعطيها بعدًا آخر، ويشكل لها لوحات جمالية، الكل مبتهج في يومه وليلته.

بساطة الناس تعكس لك روعة الحياة، في صباح كل يوم تجد الزيارات المتبادلة بين كبار السن، وما أجمل مجالسهم حينما يجتمعون أمام المسجد الكبير بعد كل صلاة هذا يتفقد ذلك.

أين فلان؟ أحدهم يسأل.

ربما مريض.

يجيب آخر: هيا بنا نزوره ونتفقده.

يخرجون في منظر جميل ثلاثةً أو أربعةً بل خمسة ربما أكثر يتجاذبون أطراف الحديث في زيارة غير مرتبة أو محددة مسبقًا يطرقون باب المنزل؟ تفتح الباب زوجته:

مرحبًا بكم.

وتختفي خلف الباب وتغطي وجهها بما تبقى لها من طرحتها، إنها العفة.

سيدتي أم إبراهيم.. أين أبو إبراهيم؟

تتوجه لهم بالإجابة:

أبو إبراهيم موجود بالمحل.

يدخلون على رفيقهم ويلقون عليه التحية ويردها لهم:

كنت اليومين الماضيين بالبستان فلا بأس أخوتي.

فقدناك بالمسجد فقررنا زيارتك.

شكرًا لكم أحبتي وأهلي الكرام.

هكذا يتبادلون أطراف الحديث.

هيلي ضابط إثيوبي برتبة مقدم، طويل القامة، نحيل الجسم، أعرج في مشيته، أبيض الشعر، خمسيني من العمر، غليظ الطباع يحمل حقدًا على الثورة الإريترية؛ فهو من الذين جرحوا في معركة تقوربا قبل عقد من الزمان حينما كان ضابطًا حديث التخرج من الكلية الحربية للإمبراطورية الإثيوبية، تم تعينه مديرًا للمدينة بمثابة الحاكم المطلق لها.

جاء بكل هذه الخلفية، فأول ما قام به هو فرض حالة الطوارئ في المدينة من السادسة مساءً إلى السادسة صباحًا، وألغى بذلك صلاة العشاء في تحدٍ سافرٍ للسكان، بدأ يجنِّد أبناء المدينة كي يجمع معلومات عن الثورة، ولكنه قوبل بالرفض التام، أوقف سوق المواشي كليًا في إطار سياسته الاحتقارية للمدينة، بدأ يطارد الشباب في السوق ويتوجه بسؤاله المعهود أين تسكن؟

اذهب إلى دارك الآن.

جمع تجار المدينة ففرض عليهم إبلاغه بكل حركة للإبل من أين وإلى أين وتقديم تقرير كامل لما تحمله من بضائع.

فكان الصدام بين عبدالرحمن التاجر وياسين مسؤول السوق.

كان عبدالرحمن التاجر يدعو للثورة من حين لآخر مستفيدًا من حرية حركته، وياسين يجمع المال من الموثوق بهم من أبناء المدينة وأصحاب المراكز والنفوذ، وكانت الثورة الإريترية تتلقى هذا الدعم النوعي والمعنوي، بل كانت مجالس السمر المسائية لأبناء المدينة عبارة عن منتدى يتفكرون فيه في كيفية دعم الثورة.

انتهى كل شيء بالمدينة، بل كادت أن تنتهي ملامحها، فلا سوق يعمل كما كان ولا مزارع يتحرك كيفما يشاء، وحتى زيارات الأهل والأصدقاء قد خفت، وأصبح الناس يعيشون في حالة عزلة تامة، وكثرة الأحاديث التي تحمل طابع العمل الدعائي ضد الثورة؛ فتسمع تارة اغتيال شخص بسبب أنه مشتبه به لخدمته للثورة، وآخر أعتقل، وثالث سجن، وكلها في إطار الحرب النفسية التي يزرعها هيلي ومجموعته من الجنود الإثيوبيين.

كان هيلي يجمع سكان المدينة أو من يوجد بالسوق في صباح كل أحد، ويلقي عليهم محاضراته التي تتسم بالوعيد والتهديد والتقليل من شان الثورة، وكان يصف الثوار بأنهم مجرد مرتزقة يعملون لمصلحة دول أخرى ويختم حديثه: من هنا عليكم أن تحذروا التعامل معهم وتقديم الدعم، وأنني، أي هيلي، لدي من يخبرني بكل صغيرة وكبيرة عن أحوال المدينة وسكانها.

سجن هيلي التاجر المعروف عبدالرحمن دون سبب ودون توجيه تهمه له، بل في كل اجتماع يعقده لأبناء المدينة كان يقدم لهم معلومات مضللة على أن عبدالرحمن اعترف بدعمه للثورة وقدم قائمة بأسماء المتعاونين معه، وأننا سوف نعفو عنه ونقدّم الباقين للمحاكمات العسكرية.

وفي يوم من أيام شتاء أغردات القارس، وبعد منتصف الليل تتحرك مجموعة من السيارات العسكرية والجنود صوب منزل ياسين الشخصية البارزة بسوق المواشي ويطرقون الباب، ويخرج لهم ياسين:

من أنت؟

أنا ياسين!

هيا معنا؟

إلى أين؟

حكومتك تريدك؟

أنتم لستم حكومتي.

كيف لك أن تقول هذا؟!

الموت مرة واحدة وأنا لا أهابه.

يقتادونه إلى السجن والمدينة نائمة.

كانت زوجته تقول:

استودعتك الله فإن ودائع الله لا تضيع.

يجمع القدر بين زملاء الأمس عبدالرحمن وياسين في السجن بعد أن كانا يجتمعان في مجالس السمر ورحابة الحرية:

السلام عليكم أخي عبدالرحمن!

وعليكم السلام شيخنا ياسين.

يتبادلان أطراف الحديث عن المدينة، ويقدم ياسين الشرح الوافي لعبدالرحمن، ويؤكد له أن هيلي دومًا يقدم معلوماتٍ مضللةً عن جميع المعتقلين بهدف زعزعة صمود الشعب.

وتمضي بهم الأيام سجناء دون توجيه أي تهم لهم، يقضون يومهم في التفكير في هموم الوطن.

يستعمل هيلي أسوأ أنواع العقوبات، سهر، إزعاج بغرف السجن، أعمال شاقة، وفي كل لقاء بهما يطلب منهما تقديم اعتذار للشعب، فيرفضون جملةً وتفصيلًا، يهددهم بالقتل؛ فيرددون:

ما أجمل الموت من أجل هدف، فلن نغيِّر قناعتنا، أنت مجرد مستعمر ومتغصب.

كانت الثورة تتابع ما يجري لشعوبها في تلك المدينة الثورية، والتي أصبحت مدينة أشباح بفضل هذا الضابط، وبدأت بأول الخطوات إلا وهي إرسال رسائل إلى هذا الضابط تارة بوضعها أمامه في شكل ملصقات بباب مقره، ومرة أخرى بإرسال أحد الأسرى من الجنود الإثيوبيين لدى الثورة، ولكن دون جدوى.
فكان الضابط المغرور، يبلغ المواطنين ويعكس لهم تلك الرسائل باعتبارها مناشدة واستغاثة من الثوار، وأن مبدأ الإمبراطور الإثيوبي يرفض كل تلك الأشياء، بل يؤمن بوحدة إثيوبيا، ويكرر دومًا:

قريبًا سيعود أبناؤكم إلى دياركم خاسرين صاغرين، مهزومين.

قررت الثورة الإريترية التخلص من هذا الكابوس الذي لا يؤمن إلا بلغة القوة؛ فكانت تدرِّب جنودها على تنفيذ عملية فدائية ذات خسائر قليلة بين المواطنين، تستفيد من المنبر الأسبوعي لهذا الضابط، وقد تحمس كل الجنود لنيل هذا الشرف، ألا وهو تنفيذ عملية قتل هذا المجرم.

وبعد عدة عمليات تدريبية وتخطيط تم اختيار كل من محمد علي وسليمان نور، وكلاهما من الجنود الذين التحقوا بالثورة في بواكير أيامها ومن أبناء أغردات.

في يوم خريفي ممطر، وفي منتصف شهر أغسطس حيث المدينة تكسوها الخضرة، دخلا مساء السبت خفية تحت جنح الظلام مستغلين معرفتهم بتفاصيل المنطقة، فقد أمضيا يومين ببستان الشيخ عثمان المعروف بكثرة أشجاره والقريب من المدينة، وحددا الوقت المناسب لدخول المدينة، فكللت عملية التسلسل بنجاح تام.

وفي صبيحة يوم الأحد اليوم المعروف بمؤتمر الضابط إذا بهما يسجلان حضورًا مشرِّفًا، متخذين مواقع تتيح لهم عملية الاغتيال؛ فكان محمد علي بالجهة اليمنى للحضور، وسليمان نور بالجهة اليسرى، وبدأ الضابط يكيل الشتم للثورة كعادته، ويقدم أدلة كاذبة على نجاح جيش الدولة، وبينما الهدوء يلف الحضور، وبدأت الأمطار تهطل في زخات بسيطة، والجو جميل، أطلق محمد علي ثلاث رصاصات صوب الضابط فسقط قتيلًا، وسط ذهول الجميع، وتقدم حارسه بإطلاق نار صوب محمد علي، فإذا سليمان يطلق عليه رصاصتين كانتا كفيلتين بإنهاء حياته إلى الأبد، وبذلك تخلصت الثورة من أكبر أعدائها، وصاحبَ العمليةَ هرجٌ ومرجً بين الحضور.

خرج الفدائيان بسلامٍ إلى أحد البساتين ومنها إلى الثورة فأبلغا قادتهما وقدما لهما الشرح الوافي عن العملية التي أذهلت إثيوبيا.

عين الأمبراطور ضابطًا آخر لإدارة المدينة، إنه محاري، فقام برفع حالة الطوارئ من المدينة وخفف من التجمعات، وظل يجمع الناس كعادة سلفه هيلي، ولكن من أجل حماية المدينة، بل كان يقول:

أعرف أنكم تكرهونني وأطلب من مناديب الغابة الموجودين بيننا أن ينقلوا حديثي كما هو حينما يذهبون..

لكن يبدو أنه لم يتعلم الدرس جيدًا مما حدث مع سابقيه؛ ففكر الثوار في طريقة للخلاص منه.

Top
X

Right Click

No Right Click