سلسلة حلقات رواية انتحار على أنغام الموسيقى (القصة السابعة) مرحبا مدرستي

المصدر: عزة برس  تأليف الكاتب والروائي: هاشم محمود

منصور طالب يمتاز بالهدوء في مرحلة المتوسطة، ابن المنطقة الغربية لإريتريا،

رواية الانتحار على انغام الموسيقى

أكمل عامه الدراسي الثالث والأخير بهذه المدرسة والمرحلة المتوسطة بين أهله وأصدقائه.

متوسط القامة، نحيل الجسم، أسمر اللون كثيف الشعر، يمشي بخطى هادئة، فليس بالمسرع ولا بالبطيء، مميز بين أبناء جيله من الطلاب، شديد الاحترام، يجبرك على تقديره، يحب الجلوس مع الكبار فهو يحب أن يستفيد من أي معلومة يجودون بها.

يواصل الاستماع إلى الراديو باعتباره الوسيلة الوحيدة التي تربطه بالعالم الخارجي، فضلًا عن قليل من المجلات والصحف التي يأتي بها أحد سكان القرية خلال زيارته لأقرب مدينة، قد يكون مضى وقت على صدورها، ولكنها تعني لمنصور الكثير، فهو يحب الاطلاع.

أكمل منصور الامتحانات وهو يمني نفسه بإحراز درجة تؤهله للالتحاق بإحدى الثانويات العليا، يحلم أن يكون طبيبًا، يمضي إجازته مع أصدقائه وسط قريته.

في موسم الخريف للقرية طعم آخر، إنه موسم الزراعة، والده يملك أرضي زراعية يعمل بها منصور معاونًا لوالده، ويعمل الجميع بجدٍ واجتهاد من أجل إصلاح الأرض وتجهيزها.

ينتظر منصور النتيجة، بعض زملائه وصلوا محطاتهم الأخيرة ولديهم قناعاتهم؛ فمنهم من قرر الدخول في مجال التجارة، ومنهم دخل مباشرة في الحِرف.

قرية منصور بها نجار ماهر يدعى إدريس خمسيني، يحفِّز النجار دومًا الطلاب المتفوقين، تجد أمام مكان عمله مختلف الأجيال يستمعون باهتمامٍ شديدٍ إلى الراديو، ينقل لهم أحداث العالم، إنه منتصف ثمانينيات القرن الماضي الحرب العراقية الإيرانية، البي بي سي أشهر المحطات الإذاعية، مراسلوها يقدمون التقارير، الحضور منقسم بين البلدين عراقي يحب أن يسمع انتصارًا، وإيراني يميل إلى الجمهورية الإسلامية.

إدريس ومن معه مهتمون بنتائج الحرب أين وصلت، مفاوضات سرية وعلنية، لكن يظل منصور مهموم بنتيجة المرحلة المتوسطة، فجأة إدريس يغير الموجة إلى إذاعة أخرى، الجميع يحتج، منصور منزوٍ بإحدي أطراف المجلس غير مبالٍ، ينظر إلى الحضور:

أريد أن أسمع رأي الطالب منصور، هكذا قال إدريس.

الجميع في صمت:

يعيد عليه السؤال:

أي الإذاعات تفضلها يا منصور؟

صوت الجماهير الإريترية.

الكل ضحك.

منصور: ماذا بكم؟

إدريس: يريدون إذاعة خارجية.

منصور: علينا معرفة أحداث بلادنا؟

إدريس: وهو كذلك.

يغير إدريس الراديو إلى صوت الجماهير الإريترية.

إنه صوت الوطن، أغاني وأهازيج، مذيعون يتبادلون النشرات بتسع لغات داخلية، مسلسل طويل، وما بين نشرة ونشرة أغنية حماسية، ينفض المجلس بعد ساعات من الاستماع، وكل شخص يشرح ويسترسل في التفاصيل، وكأنه مذيع، بل أحدهم يعطيك إحساسًا أنه يقدم لك النشرة من داخل الحدث.

ذات يوم بمنتصف أغسطس/آب، في يوم ممطر، يأتي رجل في عقده الخامس ضيفًا لأحد أقاربه ومعه نتيجة المرحلة المتوسطة، بل توزيع الطلاب بالمراحل الثانوية، وجدول يوضح خريطة العام الدراسي الذي سيبدأ في السادس من سبتمبر/أيلول، يقدم الأوراق لإدريس باعتباره موقع عمل في وسط السوق، وهنالك مجموعة كبيرة من الشيب والشباب يجلسون حوله.

إدريس يوقف الراديو

يعلن بيانًا مهمًا: أنا إدريس صاحب منجرة سمهر، اسمعوا جيدًا، كل طلاب القرية رسوب.

يكبر أحدهم.

يرد إدريس: لا تقاطعوا البيان، الطالب منصور ثاني الطلاب على المركز.

الجميع يصفق، ينظرون فلا يجدون منصور.

أين الطالب النجيب؟

إنه بالمزرعة مع والده.

ويكمل إدريس بيانه: أما بالنسبة للطالبات جميعهن إلى العرس فليس بينهن من نجحت..

انتهى البيان.

الجميع يتحرك إلى منزل عبد الله والد منصور يقدمون التهاني، منصور إلى الثانوية العليا، لا يصدق منصور ما يسمعه، رغم قناعته بأنه يستحق هذا النجاح نتيجة ما بذله من مجهود، منصور العصامي يبني مجدًا للقرية، الأصدقاء يجهزون كل شيء لمنصور، ملابس، أحذية، حقائب، دفاتر، منصور يستعد لمرحلة جديدة الثانوية.

يتم قبوله بالمدرسة الثانوية بكسلا على بعد 50 كيلو من قريته، إنها الثانوية النموذجية التي تقع على يمين الثانوية بنات يفصل بينهما سكن المعلمات.

ترك منصور قريته والتحق بالثانوية الداخلية وحيدًا ممثلا لقريته، ممتلىء الذاكرة بالأهل والأحباب الأصدقاء، مجالس القرية، إدريس ومؤتمره، إنها الأقدار.

يذهب صباحًا إلى المدرسة، وفي المساء يعمل بأحد الأفران البلدية عسى يجد مالًا قليلًا يشتري به هدايا لإخوانه، وحتى يساعد والده في نفقات دراسته.

يكمل منصور عامه الأول محرزًا الدرجات، كثيرون لا يعرفونه جيدًا، يدهشون من النتيجة التي للمرة الثانية لم يحضرها بسفره إلى قريته، لم يزر قريته طيلة العام الدراسي الأول، إخوته يستقبلونه بكل فرح وسرور، والده يضمه إليه فرحًا بابنه، والدته يتهلل وجهها.

يأتي منصور ومعه هداياه لإخوته وبعض أصدقاء الأمس، القرية تحتفل به، لا يمشي أمتارا معدودة إلا ويوقفه شخص من أجل التحية، زملاؤه يتبادلون معه أطراف الحديث عن المرحلة الدراسية الجديدة، منصور يشرح ويقدم لهم تفاصيل يومه الدراسي، إدريس يرحب به ويقدم له كرسي:

اجلس هنا أيها النابغة.

وكعادة أهل القرية يجدهم أمام برنامجهم الثابت راديو إدريس.

يذهب لمساعدة والده بالزراعة صباحًا وفي المساء يتنقل مع أصدقائه بالقرية، ويقضي إجازته، ثم يعود إلى مدرسته في رحلة شاقة جدًا لانعدام المواصلات والموسم موسم خريف، حيث كثرة الأمطار، ومناظر الوديان مكسوة بالخضرة على جانبيها، والماء يجري بين جنباتها حيث الخرير يسمع من مسافات.

يتنقل منصور مستخدمًا التراكتورات الزراعية من منطقة لأخرى في رحلة شاقة جدا، وبينما هو بأطراف المدينة يقابله أحد زملائه بالمدرسة.

مرحبًا منصور، الجميع يسأل عنك لأنك أحرزت أعلى الدرجات.

يبتسم منصور، فيسأله زميله:

أين تسكن أنت يا منصور؟

بالداخلية.

إذًا ستنزل عندي ضيفًا وأعرفك على أهلي.

لا مانع.

ولكن نذهب إلى الداخلية أولًا، وأسجل حضورى حتى أضمن ترتيبات السكن وأكمل الإجراءات.

يذهبان إلى الداخلية، وينهي منصور كل إجراءاته بسهولة ويسر، ويجد معاملة ممتازة لأن الجميع قد عرفه، بل ظل الأساتذة يتحدثون عن أن هذا الطالب سوف ينافس باسم المدرسة على مستوى المركز في امتحانات الثانوية العليا.

يذهب مع صديقه إلى بيته ويمضي معه يومًا، بينما في الصباح يخرجان معًا إلى المدرسة، وإذا هم بالمحطة في انتظار المواصلات، إذا لمياء طالبة بالصف الأول الثانوي جارة صديقه تلقي التحية عليهم، ويتبادلون أطراف الحديث ويعرفها على منصور باعتباره طالبًا مميزًا وقائد الدفعة.

لمياء تنظر إليه بتعجب، كل يذهب إلى مدرسته، لمياء إلى الثانوية بنات ومنصور وصديقه إلى الثانوية بنين.

الأساتذة يرحبون بمنصور ويطالبونه بمزيد من الاجتهاد من أجل تحصيل أعلى الدرجات العلمية، لمياء تفكر من النظرة الأولى، وتستحي أن تسأل جارها عن صديقه، تحرص مساء كل خميس على زيارة جارها عسى ولعل يكون منصور ضيفًا، تصفه لزميلاتها بأنه كذا وكذا، وكأنها تعرفه من سنين طويلة، بينما منصور لا يعرف عنها شيئًا سوى أنها طالبة بالصف الأول جارة زميله.

لمياء تحاول أن تخفي حبها ولكن دون جدوى، ففي يوم من الأيام طلبت من جارها عبدالصمد دفتر الرياضيات الخاص به للصف الأول، حيث إنها تعانى ضعفًا في هذه المادة، جارها يرد عليها:

للأسف ليس لدى أيّ دفتر.

إذن هل باستطاعتك أن تراجع معي الرياضيات؟

علاقتي بالرياضيات ضعيفة.

طيب هل بإمكان صديقك أن يساعدني؟

إذًا سأحاول أن أبحث عن أحدهم.

يقنع عبدالصمد أحد أصدقائه بضرورة تقديم المساعدة لها، يقع اختياره على ابن الحي إبراهيم، يذهبان إلى لمياء من أجل المراجعة.

لمياء تتذمر وتجلس على مضض، يفتح صديقه كتاب الرياضيات، تتدخل لمياء:

لا فأنا مشكلتي باللغة الإنجليزية فقط.

عبدالصمد: ألم تقل لي الرياضيات؟

ربما أخطأت.

كيف تخطئ وقد كررتَ لي هذا السؤال أكثر من مرة؟

لمياء ترتبك.

عبدالصمد أمامنا حل واحد ألا وهو منصور.

يعتذر لصديقه ويعدها بأنه سيأتي غدًا ومعه منصور.

خوفي أن تكون غدًا مشكلتك في الفيزياء.

أبشر أخي إنجليزي فقط.

يخبر صديقه منصور:

أنا محتاج منك مساعدة حيث هنالك بنت جارتنا لديها مشكلة في اللغة الإنجليزية.

منصور: حاضر.

يتفقان في المساء، منصور سيضحي بعمله اليوم من أجل صديقه، ويبلغ صاحب الفرن ويعتذر له.

عبدالصمد ومنصور في طريقهما لمنزل لمياء، يشرح له أنها بنت غاية في الجمال، أبوها رجل أعمال:

أعتقد أنك قابلتها معي قبل فترة.

منصور: لم أنتبه.

يطرقان الباب.. والد لمياء:

تفضلا!

يدخلان إلى المجلس، يقدم له الضيافة بنفسه، يسأل عبدالصمد عن أخبار والده، وأنه لم يتمكن من زيارته خلال الفترة الماضية لارتباطاته العملية، ويسأل عن صديقه من أين؟

فيجيبه عبدالصمد: منصور طالب إريتري معنا بالمدرسة.

ما شاء الله! موفَّق يا ابني.

كلنا إخوة، فليست الحدود إلا رسم مستعمر.

منصور: هذه حقيقة ولكن ماذا بنا؟

يدخل منصور ويقابل لمياء الفتاة الوحيدة لوالديها شديدة الجمال، وهي ترحب به بينما عبدالصمد ووالدها يجلسان هنالك.

بدأت تتقرب من منصور وتتودد منه، وتذكره باللقاء الذي جمع بينهما، ومنصور لم يتذكر ولن يتذكر شيئا، بل ظل شارد الذهن، وهي تقدم له كل خطوات العشق دون جدوى.

والدها هناك يسأل عبدالصمد: لقد رأيت هذا الطالب ولكن لست أدري.

عبدالصمد: سأستفسر منه.

لمياء تحتفل بمن أحبت ومنصور يدخل أجواء الغرام خطوة بخطوة، يكمل معها الجلسة وأمامهما دفتر ليس به شيء سوى موعد للقاء آخر.

أعطته خيوطًا أحبها وبدأ ينسجها في خياله.

الجمعة القادمة نلتقي بكافتريا توتيل.

موعد لا مجال لنسيانه.

تودِّعه.

يذهب إلى حيث صديقه ووالدها المجلس.

عبدالصمد يسأل صديقه:

عم أحمد يسال أين يكون قد التقاك؟

يضحك منصور:

أنا أعمل بأحد أفرانك في الفترة المسائية وأسلمك في بعض الأحيان الخبز حينما تأتي متاخرًا.

يا سلام أنت هذا؟!

يهز عبدالصمد رأسه:

صديقي مجتهد جدًا يذاكر دروسه ويعمل كل ما استطاع رغم إرهاقه الشديد، عمومًا هذه الحياة فلا بدَّ فيها من الكفاح.

عم أحمد يبلغ وكيل الفرن:

أوقف منصور عن العمل وأعطه يوميًا أجر عامل.

يذهب منصور إلى الفرن فيبلغه الوكيل:

أخي أنت ارتاح قليلًا فلك خياران لا ثالث لهما، إما أن تأخذ راتبك يوميًا أو شهريًا، فصاحب العمل أي المالك أصدر هذا القرار.

كيف لي أن آخذ راتبًا وأنا لا أعمل؟!

تمضي الأيام ومنصور مهموم بلقاء لمياء، وهي الأخرى تفكر ألف مرة في اليومَ وتبحث عن الحيل للقائه.

يأتي اليوم الموعود.

يذهب منصور إلى كافتيريا توتيل يجلس في انتظارها، تأتي لمياء متأخرة وتعتذر، يجلس الطالبان وهما في بداية العمر والمراهقة، يبوحان بأسرار الأسبوع من اللقاء الأول، تشرح كيف استخدمت الحيل حتى تلتقي به.. ويبلغها:

إنني كنت أعمل في المساء بأحد أفران والدك والآن أوقفوني وسيعطونني راتب عامل.

يا للصدفة!

يودعان بعضهما البعض على أمل اللقاء في الأسبوع القادم.

تسأل والدها عن منصور العامل، يشرح لها أنه مكافح، ويستحق أن تقف معه وهذا واجبنا الإنساني تجاه جيراننا.

نعم جيراننا.. تردد لمياء.

والده منصور من إريتريا وبلده في حالة ثورة.

لمياء تتعجب حيث إنها لا تعرف هذه الفروقات.

وكل مرة على أمل اللقاء.

ينتهي العام الدراسي، يدخل منصور عامه الثالث فهو مقدر، وعليه آمال قرية كاملة ووطن.

لمياء ترسم ملامح المرحلة القادمة لحياتها، وتمضي بهم السنون، منصور يأتي نهاية كل شهر يتسلم راتبه، وعم أحمد يقدم له الدعوة من فترة لأخرى بمنزله، بل يعامله كأحد أبنائه، ويتجهز لامتحان الشهادة، القسم العلمي تخصص أحياء، وفي الإجازة كعادته يذهب إلى قريته حيث الحياة ومتعتها، إدريس ورفاقه يتابعون الراديو، قريبًا ستعلن نتائج امتحانات الشهادة.

الله! الله!

منصور ضمن المتفوقين كعادته، القرية تبتهج، تقيم احتفالات، أحد أبنائها في المقدمة على مستوى السودان.

العم أحمد يتحرك إلى قرية منصور ومعه بعض أعيان المدينة، المحافظ مدير التعليم.

القرية أصبحت مزارًا، الكل يأتي ويبارك.

عم أحمد يتبني منصور، يجلس منصور بجوار رجل الأعمال مستفسرًا عن أصدقائه بالعمل ورفاق الأمس.

لمياء مع والدها وكذلك عبدالصمد ووالدتها ومعهم شاب اسمه النور، يباركون لمنصور هذا التفوق العلمي.

في المساء يودعون منصور عائدين إلى كسلا، يحاول أن يستفسر عن أحوال لمياء ولكنه يستحي، وهي تحاول الخلوة به ولو لدقائق، فهي تريد أن تبلغه بأن هذا الشباب ضاغط على والدها من أجل زواجها وهو ابن عم لها قادم من أمريكا ولكنها ترفضه بشدة، إلا أنها ليس لديها سبب مقنع لذلك، وأن والدها يريد تزويجها له، كما أن مشوار منصور طويل، هي لا تريد أن تعطله، وعاشت على أمل أن تجد مخرجًا لنفسها، علمًا أن منصور لو تقدَّم لها فإن والدها أول من يرحب.

تركت خطابا لصديقه عبدالصمد توضح فيه لمنصور ما يجري له، وتطلب منه ضرورة الإسراع لإنقاذها، إلا أن عبدالصمد أضاع الخطاب.

Top
X

Right Click

No Right Click