قراءة نقدية في رواية ٩ مارس للروائي محمود الشامي ١-٣
بقلم الأستاذ: مصطفى نصر - صحفي وكاتب سوداني
لم يكن اختيار الكاتب والشاعر محمود الشامي لعنوان روايته (٩ مارس) عبثاً، فالتاسع من مارس
هو نقطة فارقة في تاريخ دولة إرتيريا، والنضال المسلح لجبهة التحرير الإريترية ضد المستعمر الإثيوبي، إذ أنه في ذلك التاريخ المجيد وفي العام ١٩٧٩ تحديداً، ومن إقليم (دنكاليا) ومن مدينة (البرعوصلي) التي تبعد ١٢٠ كيلومتراً شمال مدينة (عصب) عاصمة إقليم دنكاليا، انطلق أول عمل نضالي مسلح ضد القوات الإثيوبية، واستطاع الأشاوس من ثوار جبهة التحرير الإريترية الاستيلاء على المدينة، وطرد القوات الإثيوبية منها، وغنموا في ذلك اليوم الكثير من الأسلحة والذخائر، بالإضافة إلى دفعة قوية وروح معنوية تبلغ أعنان السماء، وقد شكل هذا الانتصارأول الغيث في عدتهم وعتادهم لنضالهم المثابر والطويل من أجل التحرير، ولعب أبناء هذه المدينة أدواراً مهمة لترجيح الكفة وقلب الموازين في بعض المعارك وتنفيذ عمليات نوعية وسريعة، وذلك بطبيعة الحال لمعرفتهم الجيدة بالبحر ودروبه الوعرة.
سوى أن رمزية (الزمكان) التي أصبحت من محمولات الكاتب تخليداً لذكرى هذا اليوم العظيم وتلك المنطقة الباسلة، سيصبح فيما بعد في الحبكة الروائية التي بين يدينا منطلقاً لإضاءة تاريخية زمكانية أخرى لحياة بطلة الرواية (رحمة) ابنة إرتيريا، التي مثل لها هذا اليوم نقطة فارقة في تاريخها الوطني على المستوى الجمعي، وفي تاريخها الأسري الخاص أيضاً، لتبدأ رحلة تيهها في ثنايا أحداث الرواية، ابتداءً من رحيلها هي وأسرتها من أصقاع إقليم (دنكاليا) ومدينة (البرعوصلي) إلى موطن جديد، منحهاهي ووالديها وشقيقها إدريس المأوى والمأمن والجنسية كمواطنين مقيمين، هو العاصمة جيبوتي، في الدولة الجارة جيبوتي.
ولعل من المفارقات أن البطلة (رحمة) لم تكد تعرف لهاموطناً غير جيبوتي، في قلب عاصمتها بالحي الرابع Q4 (كاتخ كات) لولا حكايات أبيها التي لا تنقطع عن موطنه الأصلي إريتريا، التي لم تحمل لها أي ذكرى لصغر سنها في وقت الرحيل، بعد أن فرت الأسرة لموطن جديد اتقاءً لنيران طائرات إثيوبيا التي بدأت حملة تأديبية لهذه المنطقة التي خرجت عن طوعها، ولم تفرق صواريخها الآثمة بين حجر أو مدر أو بشر، فقتلت من قتلت ودمرت ما دمرت، ظناً منهم بأنه مجرد تمرد محدود يمكن إخماده بعدد من الطلعات الجوية، تصيب بحممها بدقة من اسمتهم بحسب قراءة أولية للحدث بـ(المتمردين)، لإخماد الفتنة والتمرد في مهده، ولم يدر بخلد المخابرات الإثيوبية حينها أنهم ليسوا في مواجهة تمرد محدود، بل هم في مواجهة ترجمة قلبية صادقة لرغبة وإرادة شعب حر أبي يرسم اللبنات الأولى لأحلامه - التي أصبحت حقيقة لاحقاً- بعد رحلة طويلة من البذل والعطاء والعرق والدماء الغالية التي أريقت رخيصةً في سبيل التحرر والاستقلال.
كانت رحمة التي مثلت دور البطولة المطلقة، نموذجاً واضحاً للحكم دونما تردد بامتلاك الكاتب لناصية أدواته الروائية، ولعل أول تأكيد لبراعة الكاتب في امتلاك ناصية أدواته الفنية، أنه قدم نموذجاً رائعاً لبناء شخصياته القصصية - الأساسية والفرعية - بصورة فائقة الدقة والواقعية، من جهة أنه يمكن مقابلة أشباه لهم كنماذج حية في أي مجتمع عربي أو أفريقي محافظ، يتوزع في قيمه الخاصة بين تابوهات العيب والحرام، في منظومة الأعراف والتقاليد والدين والقيم الذكورية المسيطرة، التي لا فكاك منها في كل ما يحملونه من ملامح شخصية ونفسية، كأشخاص طبيعيين في الواقع المعيش، الذي ينقسم بين أشرار وأخيار.
ففي مقابل ملائكية وبراءة ونقاء (رحمة) و(ناصر) و(فردوسة) وشلة الأنس المحبة للحياة وللطرب وللفنان الجيبوتي عبد الله لي بشكل أساسي، كما كانوا يتأثرون بأنغام وردي وسيد خليفة وزيدان إبراهيم، وغيرها من الأنغام الإثيوبية والإرتيرية والغربية، فليس غريباً بأي حال من الأحوال أن تكون من بين الأغنيات التي ودع بها ناصر صديقته المقربة (رحمة) وهي في حفل وداعها وهي متوجهة للإقامة في لندن:-
في الليلة ديك
في الليلة ديك
لا هان علي أرضى وأسامحك
ولا هان عليَّ أعتب عليك.
والى جانب براءة هذه الشلة نصطدم أيضاً وفي نفس الوقت بأنانية وصفاقة وخبث (أمان) الذي لا يعطي ضحاياه ذرة من (أمان) نقيضاً لاسمه، حيث أنه لا يقيم وزناً للمشاعر الإنسانية، بل يتخذها مطية لنزواته الحيوانية الشهوانية، التي لا تعرف السكينة والهدوء إلا في رؤية ضحاياه الكثر وهم يدفعون أثماناً باهظة لمعاناتهم كضحيته الأخيرة (رحمة) التي لم يعاملها رغم تضحياتها الجسام، ووقوفها الصلب في وجه أسرتها التي رفضته لتكون معه، لم يعاملها ولو بذرة صغيرة من الرحمة والوفاء، حتى وصفها الأصدقاء بأنها (لفها الغموض وصارت انطوائية، لم يكن طبعها التقليدي والمعهود هكذا، وعلى العكس كانت مرحة واجتماعية، لربما تعرضت لتجربة قاسية، هزة قوية، وإعصار عنيف ومدمر، غير مجرى حياتها ليحصل ما حصل)، فهي فعلاً آخر ضحاياه الذين توغل في لحمهم الحي فصارت كما قالت عدة مرات: (مات كل شيء بداخلي، وشلت جميع حركاتي وسكناتي، أعيش جسداً بلا روح، أو بالأحرى: لا أعيش)كانت البراءة في مواجهة غير متكافئة مع الخبث، حيث يشهد كل من قرأ الرواية بأن أمان (غدر برحمة، وبمن أخلصت له وضحت لأجله وأحبته، ووقفت في وجه أسرتها للإرتباط به عبر المحكمة، تنصل من كل عهوده دون اكتراث لعواقب تصرفاته، ولا لمصير بنتيه، وضارباً جميع وعوده لهن عرض الحائط).
وهو يحمل كل أدوات الغدر، حيث (كان وسيماً وزير نساء متمرس يجيد فنون الاصطياد والعزف على الأوتار، وتصنُّع الرومانسية والعاطفة، وما كان يميزه كذلك هو الهدوء والرزانة والغموض، وتركه الفرصة للآخر كي يبدأ الضربة الأولى، ويختار هو لنفسه المكان والزمان المناسبين للرد).
وهو لبراعته في خلق شخصياته الروائية لم يستطع أن يشفع لأمان، ولم ينجح مطلقاً في تخفيف غلواء كرهنا له بمحاولة تبرير سلوكه العدواني المستهتر بربطه بقسوة المجتمع في التعامل معه، حيث كان البعض ينادونه بـ(ابن الحبشية) على مسمع منه، حيث لم يقنعنا هذا مطلقاً في التعاطف معه، فإذا كان (بعض) المجتمع يقسو عليه، فإن (نفس) هذا المجتمع الجيبوتي قد أتاح لـ(ابن الحبشية) هذا أباً بالتبني من قلب المجتمع هو أبوه (حمدو) الذي تزوج أمه، ورعاه كابن من صلبه، ولم يفرق بينه وبيت بنته من صلبه وشقيقته من أمه (فافي) ومنع كل أقاربه من أي تمييز بينه وبين بنته من صلبه، ومنحهالعطف والحنان، وهيأ له سبل الدراسة والتحصيل حتى وصل إلى منتهاها بالدراسة الجامعية، كما أن نفس هذا المجتمع الجيبوتي الذي ناداه بعض أفراده بـ(ابن الحبشية) أتاح له منحة جامعية لفرنسا، لم يفرق بينه وبين أي مواطن أصلي، حيث نال درجة علمية في الاقتصاد والمحاسبة، بل إن نفس هذا المجتمع الجيبوتي قد أتاح له منصباً قيادياً رفيعاً بين صفوف الحزب الحاكم على رأس الهرم بحيه السكني، فنال محمود الشامي ببراعته في دقة رسم شخوصة، فشلاً ذريعاً وهو يدفعنا للتعاطف مع بطله (أمان) الذي لم يرتبط في عقولنا سوى بـ(الغدر) وعدم الوفاء، فلم يبدو أي أسف في نفوسنا من الطريقة البشعة التي أنهى به حياته منتحراً.
ولا يفرق الكاتب في دقة البناء الشخصي والنفسي بين أي شخص من شخوصه أساسياً كان أو فرعياً، فشخوصه على حد سواء تعرفهم جيداً بالرسم الدقيق بما يشبه فن البورترية لملامح وجوههم، كما تلمس أدق التفاصيل في خصائصهم الوجدانيةوالنفسية، ولعل اتساع المجال في الرواية بما يسمح بالإسهاب في الوصف وصولاً لأدق التفاصيل التي ربما تعد هامشية لا خطر لها، كخاصية من خصائص العمل الروائي مقارنة بالقصة التي لا يسمح مداها الذي يجب أن يكون متوسط الاتساع، والإقصوصة منعدمة الاتساع سواءً في أحداثها أو في بعديها الزماني والمكاني، أو في محدودية شخوصها لقيام الأقصوصة أو (القصة القصيرة) على التركيز كمبدأ أساسي.
ومن مظاهر براعته في امتلاك أدوات عمله الروائي، تحميل عنصري الزمان والمكان طابعاً تأريخياً للإيغال بإسهاب في التأريخ الجيوساسي لإرتريا وجيبوتي والقرن الأفريقي عموماً، والتأريخ التليد لأجداده العفريين في تاجورا ولبسالتهم وبطولتهم، والتداخل اللغوي للمنطقة عموماً بكل ما تضج به من لغات تواصل يقع على رأسها الصومالية والتغريتية والعربية فضلاً عن الفرنسية والإنجليزية، وصولاً لخارطة النشاط في الجغرافيا البشرية لأهل المنطقة في الصيد البحري وحياة البحارة في سعيهم وراء الأسماك والأحجار الكريمة واللؤلووالعنبري، دون أن تخل المادة التاريخية الفلكلورية أولاً بتصنيف الرواية كنص سردي عاطفي لم يخل بعذوبته جفاف المادة التأريخية، ودون أن يخل ثانياً بالسرد الروائي المنساب رقراقاً بأدوات الرواية الفنية التي مكنته من التسلسل المنطقي للأحداث دون إخلال على تركيز القاريء على الحدث الأساسي، والحدوتات المتعددة المنسابة في داخل نفس النص لتصل إلى نهايات عفوية تصب كأفرع متعددة للنهر في جانب تدعيم الحدث الأساسي، دون أن يخل تنقله بين قارات العالم القديم المختلفة أفريقياآسيا وأوربا وأمريكا في الإخلال بأي مفردة في النوتة الموسيقية الناظمة للتسلسل المنطقي والمنظم لأحداث متناقضة تتباعد تارة وتتقارب تارة، لكنها لا تتهم أبداً بتشتيت ذهن القاريء، وهذه هي القمة لما عنتيه بإمتلاك الكاتب لأدواته الفنية، وسبره لأغوار توظيفها كيف وأين ومتى ما شاء.
وللحديث بقية إن شاء الله... في الجزء القادم