بركنتيا للكاتب الإريتري أبو بكر حامد كهال
بقلم الأستاذ: محمد الأصفر - كاتب من ليبيا
مشروع لصراعات القرن الافريقي: أبو بكر حامد كهال روائي ارتيري يعيش في ليبيا منذ سنوات ويعمل في رابطة الأدباء
والكتاب الليبيين، نسج علاقات طيبة مع كل من التقاه من الكتاب الليبيين أو من زار الرابطة من الكتاب العرب.... قارئ نهم للأدب ومتابع مثابر لكافة الإصدارات والمناشط الثقافية المختلفة... جاء إلي ليبيا وقد حمل بين جوانحه قضية وطنه ارتيريا الذي عاني الاستعمار الإيطالي قديما والاحتلال الأثيوبي حتي إلي زمن قريب.
ولقراءة روايات الروائي أبو بكر لا بد أن تكون لدينا خلفية ولو بسيطة عن أجواء منطقة القرن الإفريقي وما تزخر به من خيرات زراعية وحيوانية وما عاشته من توترات سياسية وما عانته من استعمار أوروبي قديم خاصة الاستعمار الإيطالي الذي تلوّعت بناره وجرائمه الوحشية العديد من الشعوب الأخري وعلي رأسها الشعب الليبي... منطقة القرن الإفريقي منطقة متعددة الأعراق والديانات و بها لغات ولهجات كثيرة امتزجت فيها العربية ببقية اللغات واللهجات الإفريقية... وتطل علي أحواض مائية مهمة جدا و استراتيجية كالبحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي... منطقة معقدة وبؤرة صراع دائمة محليا ودوليا... منطقة مملوءة بالأساطير والحكايات تتنوع أقاليمها المناخية وتتداخل تضاريس حدودها كما تتداخل قبائلها في بعضها حتي أنك تجد القبيلة الواحدة وقد انتمت إلي عدة دول... منطقة يهطل عليها المطر في الصيف وتحتوي علي الصحاري والغابات والجبال والأنهار والمخزون الهائل من النفط غير المستكشف بعد... تربطنا بأرتريا والحبشة علاقات تاريخية قديمة منها ما هو مؤلم ومنها ما هو سعيد... مرتزقتهم حاربونا في عقر دارنا وفعلنا نحن المثل... ارتكبوا جرائم وحشية في أرضنا خاصة في المعتقلات التي زج بها الطليان أجدادنا... فقتل أولئك المصوعية الكثير من المجاهدين واغتصبوا الكثير من النساء... لقد وجد الأفارقة أنفسهم في معركة اختارها لهم المستعمر الإيطالي عبر تجنيدهم طوعا أو كرها في الجيش والبوليس معتمدا علي ما تعانيه المنطقة من مرض وجهل وتخلف وجوع... التحقوا بجيش الطليان وحاربونا والتحق الليبيون بجيش الطليان وحاربوهم... لعبة أجاد الاستعمار لعبها دائما كي يسيطر ويزرع الحقد بين الشعوب المراد نهبها وسرقتها كما يحدث الآن في العراق مثلا.
منطقة القرن الإفريقي التي بها الصومال وارتيريا و إثيوبيا وجيبوتي وقريب منها اليمن وكينيا والسودان منطقة ثرية إبداعيا مثلها مثل الصحراء الكبري التي لعب فيها الأديب إبراهيم الكوني بالكاد وحده كما أراد... ولعل بروز الروائي الصومالي نور الدين فارح وترشحه في إحدي السنوات لقائمة جائزة نوبل خير دليل علي تميز هذا الفضاء العربي الافريقي حيث أن معظم روايات نور الدين فارح تناولت قضايا وهموم الشعب الصومالي تناولا إبداعيا راقيا استطاع عبر هذا التناول أن يمس قضايا كبري وأن يفتح مسارب جديدة في فن الرواية جديرة بالاهتمام والدراسة وجالبة للمعرفة الطازجة الجديدة التي هي الهدف الرئيسي لكل عمل إبداعي.
أبو بكر حامد عبر روايته الأولي رائحة السلاح والتي تتحدث عن كفاح الشعب الارتيري عبر جبهة تحريره وتقدم لنا فضاء ارتيريا خالصا مركزا علي المكان وما به من أناس ومدن وقري وجبال وما دارت عليه من معارك ضد الجيش الإثيوبي الذي يحتل ارتيريا... نراه في روايته الجديدة (بركنتيا) قد بقي في نفس المكان وتوسع قليلا بأن نقل المعركة والأحداث لتدور معظمها علي تراب هذه المدينة والتي تسمي عربيا أرض المرأة الحكيمة... ولعل كلمة بركنتيا قريبة أو مشتقة من كلمة بركة وكلمة بركة قريبة من كلمة حكمة... فكل حكمة بالضرورة تكون مباركة من قوي الخير.
هناك تطور كبير في كتابة الرواية لمسته في رواية (بركنتيا) وهي من وجهة نظري أفضل من روايته الأولي رائحة السلاح التي بدأت جيدا ثم بعد المنتصف استعجل في إكمالها معتمدا علي دفع الأحداث التي بناها إلي ذروتها قبل أن تنضج و تتنامي بصورة طبيعية... في هذه الرواية نري الروائي الذي يسرد عبر ذاكرة طفل تاريخ مدينته الاجتماعي والسياسي معتمدا علي أحداث تاريخية معروفة وعلي أمكنة عاش فيها أجاد وصفها جغرافيا جيدا... اعتمد كثيرا علي أساطير المنطقة فأدرج عددا منها في السرد... أيضا استخدم اللهجات واللغات المتداولة في المنطقة في برقشة بعض الجمل والصور... كتب هذه الرواية بصدق مبتعدا عن الحياد في عرض القضية أو الحرب بين ارتيريا وأثيوبيا فانحاز انحيازا كاملا لبلاده ارتيريا فأظهر الجيش الأثيوبي وقيادته العسكرية والسياسية في صور منفرة وبشعة وقذرة ولا أخلاقية... فزوجة الأمبراطور الأثيوبي تمارس الخيانة في بيوت البغاء وابنه الأول ولد سفاحا... والجيش الأثيوبي يقتل الأطفال والنساء ويتراهن علي بقر بطون الحوامل... وأعتقد أن هذه المشاهد وهذا الانحياز من الممكن جدا أن يسرق العمل الفني ويحوله إلي درس تعبوي يدرس في جامعات ومدارس ارتيريا... لم يفعل هذا التهويل والتبشيع لجيش وسلطة الاحتلال الأثيوبي للخونة الأرتريين المنشقين عن جبهة تحرير ارتيريا والذين باعوا سلاح الجبهة التي ضحت الجبهة بعرقها ودمها وشرف بناتها من أجل شرائه للقبائل اليمنية... الرواية سياسية بالدرجة الأولي وتمجد جبهة التحرير الارتيرية ولا توافق علي إنشاء فصائل أخري منبثقة من هذه الجبهة وهنا تكرس الرأي الشمولي وتصادر لغة الحوار والاختلاف... وكون معظم القراء لا يعرفون ما هي الخلفيات المتعلقة بالحرب بين الجارتين ارتيريا واثيوبيا فلا يمكن ها هنا التعاطف مع بطل الرواية الذي صور مأساته من طرف واحد من دون أن يعرض وجهة نظر الآخر... يقول أن الأثيوبيين ليس لديهم بحر ويريدون احتلال ارتيريا ليكون لديهم ميناء مثل مصوع... ولا أعتقد أن الصراع كله بسبب البحر... فأكيد هناك مشاكل مزمنة أخري تحتاج إلي اطلاع تاريخي كبير من أجل فهمها فالقرن الافريقي بالنسبة لي متداخل في بعضه واعتبره دولة واحدة.
نجح الروائي أبوبكر كهال في وضعنا في مكان الحدث وجعلنا نراه ونعيشه بحواسنا ونتخيله صوتا وصورة وعرض مشكلته الوطنية أو قضيته بصورة واضحة لغويا... لكن كإبداع إنساني عرضها لنا من وجهة نظر واحدة... منح كل شيء للأرتريين ليعبروا وأهمل الشخصيات الأثيوبية التي أدرجها في الرواية لتعبر عن آمالها وطموحاتها وعن قضيتها التي جعلتها تحارب ارتيريا... ومن هنا استطيع أن أقول أن الروائي متحيز ووضع نفسه علي كرسي الحاكم ليلجم عفوية السرد والحكاية ويوجهها بسياط حروفه إلي الأمكنة التي يريدها هو... والتي سألخصها في عرض مشكلة الشعب الأرتري من وجهة نظر واحدة وهي أن ارتيريا علي حق وحربها شرعية... وهذه الرواية سيحتفي بها الشعب الارتيري وهذا أكيد خاصة إن كان خطاب جبهة التحرير الارتيرية القديمة مقبولا سياسيا الآن ومروّجاً له جيدا... لكن ستظل نقطة التحيز غير مقبولة لكثير من النقاد والقراء غير الارتيريين... لأن القارئ محايد... و الاكليشيهات الجاهزة التي تصور بشاعة المستعمر لا تؤثر فيه إبداعيا... بل هي في كثير من الأحيان مستهجنة ومستهلكة... فوصف المعارك وسفك الدماء وغيرها غير ضروري... تكفي أن تكتب كلمة قتل أو تمت تصفيته... والبحث سيكون دائما عن تصوير الدوافع والأسباب وعن طرح رؤية لعلاج المشكلة... في هذه الرواية كل ارتيري بطل... فريق الكرة بطل... أعضاء الجبهة أبطال... الراعي بطل... الطفل بطل... البنت بطلة... الحمار بطل... التراب بطل... ولا توجد أي ذرة بطولة للطرف الآخر وهذا بالطبع غير معقول... فحتي اثيوبيا لها تاريخ عظيم ويكفي أن ملكها القديم هو النجاشي الذي لا يظلم عنده أحد.
سأعتبر ما كتبه أبو بكر حامد من روايات سابقة وأيضا هذه الرواية بداية مشروع روائي كبير يغطي ما يوجد علي منطقة القرن الافريقي من حضارة وتاريخ... فهو يمتلك ما يمتلكه الكوني من معرفة بلغة الطوارق والصحراء وأساطيرهم... فأيضا أبو بكر يعرف لهجات ولغات القرن الافريقي والتي وضع منها الكثير في هذه البركنتيا الجميلة... لكن هناك عدة ملاحظات عليه أن ينتبه لها حتي لا يفسد مجهوده باستدراجة سهلة لسياق مطلوب إعلاميا و قيميا... فلينسَ أرتريا ولينسَ حكاية البطولة والحرية لأن الجبهات والثورات والحركات السياسية لم تجلب الحرية إلا إلي نفسها ولأن الأدب هو دعوة تسامح ومحبة وسلام وإبراز لإبداعات الجميع ولو كنا نختلف معهم أو نعاديهم...في هذه الرواية المتكئة علي الواقع يوجد بعض اللجوء للفنتازيا وهو غير مناسب هنا وجاء بطريقة مفتعلة... مثل رمية الطفلة لأعلي ووضع الحربة لتنشك فيها بينما هي تطعن بخنجرها جبهة القائد العسكري الأثيوبي ليتحول الجرح إلي جرح مزمن... أجمل ما في الرواية هو وصف الأشجار والوديان والجبال وكذلك مشهد الغوص الذي حفن فيه البطل الرمل الأبيض من القاع... لكن اقتسام هذا الرمل كتذكار بين الأصدقاء غير جيد... يكفي تصفيقة منهم أو إشادة سريعة. الرواية تحتاج إلي قراءة نقدية موسعة ومقالتي عنها هي بمثابة عرض لها وتنويه لبعض الملاحظات والانطباعات التي راودتني بعد الانتهاء من قراءتها... ورأيي في الصديق الروائي بوبكر حامد كهال أنه يمتلك مادة خاماً لكتابة رواية جيدة تتحول إلي مشروع كبير كمشروع إبراهيم الكوني ونجيب محفوظ وحنا مينا لكن عليه أن لا يصنع الأحداث ويفبركها وليجرب أن يترك الأحداث تكتب نفسها من دون أن يتدخل فيها أو يحاول تجويدها وتثقيفها وتأديبها... أي أن يكتب بعفوية أكثر وأن ينسي نفسه أنه كاتب وشاعر وأديب ويفهم في الأدب والنقد والأحابيل الإبداعية... قد يجد صعوبة في ذلك في بادئ الأمر... وقد لا يستطيع الكتابة كثيرا... لكن كل ما سيكتبه بهذه الطريقة سيأتي خاليا من: هذا من صنع أبو بكر وسيأتي مترنما: بهذا هو أبوبكر... وإن ترنم العمل الإبداعي فحتما سيسمع وسيلتف حوله العشاق والمحبون ليحتفوا به علي طريقتهم الخالدة.