تيتانيكات إفريقية - الحلقة الأولى

بقلم الأستاذ: سريب - كاتب وصحفي ليبي  نشر في باب: سالم العوكلي

أبو بكر حامد كهال: روائي اريتري مقيم في ليبيا، كان عضوا في جبهة تحرير أريتريا لسنوات عديدة

وشارك في معارك التحرير ضد لاحتلال الأثيوبي، له روايتان رائحة السلاح و بركنتيا أرض المرأة الحكيمة تيتانيكات إفريقية روايته الثالثة.

مفتتح:

عندما صدرت هذه الرواية، احتلت واجهات المكتبات وحققت انتشارا في أكثر من بلد، وكمثل أي عمل متميز وقعت بين يدي قرصان من قراصنة النشر في سوريا، فلم يتردد في طباعتها ونشرها دون إذن من كاتبها أو من دار النشر التي نشرتها وهي دار الساقي، وعندما علم المؤلف بهذه القرصنة اتصل بالساقي باعتبارها المسئولة بالدفاع عن حقوقه، إلا أنها نصحته بالتفاهم مع الناشر القرصان، والذي اشترط على المؤلف نظير سحبها من الأسواق أن يقوم بشراء النسخ المطبوعة وعددها ألف نسخة، ولم يكن أمام المؤلف من خيار إلا أن يوافق على شرط القرصان ويشتري النسخ المطبوعة، المؤلف خضع لهذا الشرط رغم تشديد أصدقائه عليه بعدم قبوله، وهو يعلم أن القرصان قد يفعلها مرة أخرى وربما أكثر وقد يفعلها غيره وفي أكثر من بلد، الغريب أن ناشرا إسرائيليا قرأ الرواية وطلب موافقة المؤلف على ترجمتها إلا أن المؤلف رفض.

الرواية:

لا مجال فيها لأية نظريات نقدية، شخصياتها ترفض أية مرجعية تاريخية غير تاريخيتها هي، فهي تجسد نظريتها في صيرورتها وتكتب تاريخها من حياة شخصياتها، تنتقل من الجحيم الأصغر إلى الجحيم الأكبر رغم توقعها بفردوس في مكان ما، فهي تغادر وجوها تراها لتبحث عن وجوه لا تراها، وعن سماء لا تعرف من أين تشرق شمسها، تخرج من زمن لتبحث عن زمن لا يقاس بوحداته المعروفة، فهي تعلم أن المسافة من الساحل إلى الساحل ليست كما تبدو على الخرائط، وفي ظني أنها لا تبحث وفي حقيقتها عن أوربا كفردوس منتظر حتى وإن بدا في ظاهره أنه كذلك، هي تبحث عن حلم مستحيل وهي تعلم أنه مستحيل لكنها تواصل رحلتها في صحراء بلا أفق وفي بحر بلا ضفاف، وما بين الصحراء والبحر دماء وأشلاء ورصاص وجوع وعذاب، خفر السواحل ومطاردات واختفاء، سياج يعقبه سياج ورعب يعقبه رعب وظلام يعقبه ظلام وبوابات الحراسة وكلاب، لكنها تواصل المسير بإصرار الباحث عن المستحيل الممكن، مراكب تقذف بساكنيها في أعماق اللجة السوداء ثم تتلوها مراكب، قوافل تغيب تحت بحر الرمال أو تتغذى بلحمها الكواسر ثم تعقبها قوافل ولا أحد يعلم متى يتوقف مسير القوافل والمراكب لا أحد، لكن وعلى وجه اليقين إنها لن تتوقف، فمنذ أمد بعيد مجهول اليوم والتاريخ بدأ بما يعرف الآن بالمهاجرين غير الشرعيين إلى بلدان أوربا، لا جوازات سفر، لا أوراق تفصح عن هوياتهم، لا شيء سوى كينونتهم، تيتانيكات إفريقية، غنها ليست واحدة بل أكثر ولا أحد يعرف عددها، هكذا اختصروا بالاسم كل سؤال عن قوافلهم في البحر والبر لأن وجهتها واحدة وهي الاصطدام بما خفي من جبل الجليد، كل قافلة هي تيتانيك أخرى لا مفر لها من أقدارها، ولم يكن للمؤلف إلا أن يجعل من الاسم عنوانا لروايته أي روايتهم، شخصيات تكتب هي روايتها، بل هي تكتب تاريخ قارة بأكملها، وهي تستفزنا لاستحضار تاريخها عندما كانت سفن القراصنة وتجار البشر تأخذ المئات والآلاف من أبنائها عبيدا، تيتانيك بدأت رحلتها الأولى في ذلك الزمان ثم تناسخت عبر السنين، وفي ظني أنها ستتناسخ إلى أجل غير معلوم.

رواية تعيد سؤال المخيلة في العمل الإبداعي، لا خيال لا صور جمالية أو لغة تنحت المعنى، ولم يكن المؤلف في حاجة إلى كل هذا، فاللغة عارية عن بهرجها فهي صادمة وجارحة لمن تعود على مناجاة القمر وترقب ظهور الحبيب المنتظر... تبلل فمه ببصاقها... دلقت في فمه مقدار جرعة كبيرة من البول... كان وجهه مطبوخا... الرمل الفائر يوزع علينا لظاه... أخرج احدهم مسدسا من جرابه وأفرغه في رأس من كان يبادله النقاش... كان تبادل الرصاص يسمع بوضوح... ملابس داخلية متسخة... انتفض جسده كرة أخرى وطار إلى الباب... ويبدو أن القبعة والحذاء كانا قد صنعا من جلود آدمية... إذا ثار الرمل فإنه يصير مثل يوم القيامة... قبل غرق المركب بأربعة أيام بدأ العطش والجوع يحصد الضحايا، سقط منذ نهار الأمس عشرون شخصا ظلوا يصارعون للبقاء لكن مع شروق الشمس لفظوا أنفاسهم تباعا.

الرواية برؤية أخرى وبصفحاتها التي تزيد على المئة بقليل، تعيد إلى الذاكرة أعمالا أخرى ودون أن يعني ذلك المقارنة بينها، الشيخ والبحر، و صمت البحر و مصير إنسان و ما تبقى لكم، على سبيل المثال فقط، هذه الأعمال وكذلك تيتانيك لا تنتهي بانتهاء أحداثها لأن البداية هي النهاية ولأن النهاية هي البداية لأن صراع الإنسان لتحقيق وجوده لا ينتهي براية بيضاء والشخصيات فيها تختزل اسما واحدا وفعلا واحدا ومصيرا واحدا، كل منها هو رمز لهذا الصراع الأبدي ورمز لمئات الملايين ممن سيشتبكون مع مصيرهم في معركة لن تنتهي، وهي بهذا المعنى ليست راوية لأحداث رأتها بل هي فاعلة في هذه الأحداث، لذلك هي تكتب رواية ما بعد الرواية، لأنك لن تكون على الحياد بعد قراءتها، ستجد نفسك مشتبكا معها في فعلها ومعاناتها وطموحها فهي تدعوك للمسير على خطاها لأنك أحد رموزها، هذا الفعل يتمثل في أن المؤلفين كتبوا عن فعل شاركوا فيه دون توقع الكتابة عنه، والملفت هنا أنهم جميعا كانوا ثوارا ومقاومين، همنجواي في المقاومة الإسبانية، أبو بكر حامد في المقاومة الإرترية، غسان كنفاني في المقاومة الفلسطينية، فيركور في المقاومة الفرنسية، شولوخوف في المقاومة الروسية، ولست بهذه الأمثلة أحدد شروط انتماء الرواية، إذ أن هناك روايات أخرى غيرها لم يرفع كتابها سلاحا في وجه محتل لأرضها، فهي لا تعدو كونها قراءة لرواية متميزة في المكتبة العربية وقد أقول أنها ليست مسبوقة فيما قرأت من جنسها، أثارت عندي تداعيات لأعمال أخرى تماثلت معها في جملة من الأسئلة، لعل منها ما هو متعلق بتعريف الرواية وخروجها عنه في شكلها وفي مضمونها، فأما ما هو متعلق بالشكل فهو ما يقول به بعض النقاد من أن الحجم يحدد التعريف، فرواية مثل هذه أو الروايات التي أشرت إليها ولا يتجاوز عدد صفحاتها المئة هي في تعريفهم قصة طويلة، وهذا ما لا أتفق فيه معهم، إذ أن الزمن الروائي ليس هو الزمن الجغرافي، كما أن المكان ليس هو المكان الجغرافي، لأن الأفق الروائي ليس هو الأفق الجغرافي وبكل إحداثياته، ولو استعرنا تعريفا من الفيزياء لقلنا بالبعد الرابع الذي تقول به نظرية النسبية، وهذا في ظني ما يجب أن تحققه الرواية دون التعويل على كم صفحاتها وشخصياتها وأحداثها أو تباعد أزمانها، فالحرب والسلام رواية مثلما الشيخ والبحر رواية، وقس على ذلك موبي ديك ودون كيخوته والبؤساء، وصمت البحر وتايتانيكات إفريقية ومصير إنسان وما تبقى لكم، ويمكن القول ودون مقارنة بين رواية وأخرى وبقليل من التردد أن هذه الأعمال ومثيلاتها توحدت في هذا البعد، فهي وإن عاشت في زمانها المادي إلا أنها تنادي أزمانا أخرى وبشرا آخرين لأن الصراع ضد الشر أو الصراع ضد أية قوة مهيمنة له وجه واحد، كل ما في الأمر أنه يختلف في الوسيلة وينتقل من زمن إلى آخر أو من مكان إلى آخر، ومن هنا يمكن فرز رواية عن رواية، فكثيرة هي الروايات التي استغرقت مئات الصفحات والأحداث إلا أنها ماتت في زمن واحد ولم تعد صالحة كمرجعية تاريخية أو أدبية، ولعل المكتبة العربية تزخر بالكثير منها رغم الصخب الذي كثيرا ما رافق نشرها.

الرواية من جهة أخرى تثير سؤال التجربة وإلى أي مدى يمكن للتجربة أن تكتب رواية حقيقية جديرة بالبقاء، بالقطع يصعب تبني هذا الشرط، فلكي تعرف أن النار محرقة ليس عليك أن تضع يدك في لهيبها، لكن من المؤكد أن التجربة إذا رافقتها شروط إبداعية أخرى كتب لها الخلود، إذن..كيف نفسر خلود أعمال روائية لم تكن نتاج تجربة مباشرة لكاتبها...؟ السبب هو أن التجربة معايشة وليست ممارسة شخصية، معايشة عقلية ووجدانية وليست ممارسة جسدية خالصة، ولو كان هذا صحيحا لكان أي جندي حارب وأي سجين عذب قادرا على كتابة عمل روائي متميز، هي أولا معايشة منتمية لتجارب الآخرين، منتمية لكل ما في المنظومة الاجتماعية من تغيرات وتقلبات، منها ما هو سلمي ومنها ما هو دموي، منتمية بأسئلتها ومعاناتها، فهي تبكي لبكائهم وتفرح لفرحهم وتثور لثورتهم، لا ترى نفسها إلا بهم وفيهم، ومن هنا تتجسد فيها تجارب الآخرين وتذوب فيها حتى تصبح هي تجربتها الخاصة ولعل الكثير من الأعمال الخالدة تشهد على صحة هذا القول، وهذا ما قد يعيد السؤال القديم الجديد عن غاية الأدب، ولسنا هنا في وارد تكرار ما اختلف عليه الكثيرون حول هذه الغاية، لكننا نكتفي بالقول أن الأدب لا يغير الواقع كما يرى البعض ولم يكن هذا من غاياته على مر عصوره، هو ينير العقول كي تتغير ومن ثم يصبح بإمكانها أن تغير الواقع، ومن هنا تأتي أهمية هذه الرواية، لأنها أولا مكتوبة عن تجربة شخصية لمؤلفها، ولأنها ثانيا تجاوزت تجربتها الشخصية وجسدت تجربة إنسانية قد تكون أنت وقد أكون أنا أو أي قادم مجهول من شخصياتها، تجربة إنسانية تفرز أسئلة كثيرة عن الحرية والعبودية ورأس المال والشركات العابرة للقارات وتجارة العبيد ومناجم الذهب وعن قارة هي أم العالم لكن الشمال الغني والذي راكم ثرواته من دمها صنع لها تيتانيكات لتغرق تحت أمواج الرمال أو تحت أمواج البحار.

هامش:

في لقاءاتنا الثنائية أيام كانت رابطة الأدباء والكتاب على قيد الحياة، كثيرا ما سألت بوبكر عن تجربته في معارك التحرير في بلاده إرتريا وعن خروجه منها وهجراته، كان يقول... ما في شي يا عم يوسف... أخيرا يستجيب بعد إلحاح... يحكي كأنه يحكي عن نزهة في ليل مدينة صاخبة، يحكي بكل الخجل والتردد، وها هو الآن يكتب رواية عن بعض ما حكا ويا لها من رواية.

تـابـعـونـا... فـي الـحـلـقـة الـقـادمـة

Top
X

Right Click

No Right Click