قراءة منهجية لرواية رائحة السلاح

بقلم الأستاذ: محمد اسماعيل هنقلا - كاتب إرتري - ملبورن، استراليا  المصدر: فرجت

رائحة السلاح رواية ارترية جديدة من تأليف ابوبكر كهال، المتتبع لأحداثها كرواية يتحكم في مسارها

رواية رائحة السلاحالسرد المتخيل، تذكرنا، بالزمان، المكان، الأحداث من خلال فن الإيهام، وعندما نقرأ النص نعتقد أننا أمام حقائق تاريخية وجغرافية نعرفها. ولكن في الحقيقة إن النص السردي مجرد خيال.

يقول الدكتور حميد الحميداني (1) إن تشخيص المكان يوهم القارىء بواقعية الرواية. هكذا تأتى رواية رائحة السلاح سرد من هذا النوع بامتياز حيث إن الرواية تتكىء على وقائع تاريخية في صياغة النص السردي، ولولا اختلاف المنطق بين الرواية والتاريخ لقلنا عنها (رائحة السلاح) عين التاريخ، لوجود أحداث وشخصيات وأمكنة واقعية، حاضرة في النص بشكل قوى، وهذا الاختلاف بين النص الروائي والتاريخي يتماثل في تكنيك السرد.

فان عالم الرواية هو فن الخيال، أما عالم التاريخ هو تسلسل منطقي مرتبط بالوثائق والأرقام، من حيث القول والمرجع، ويقول أنطوان شماس (2) في مقدمة روايته اربسيك إذا كان معظم الرواية سيرة ذاتية مموهة، فان روايته اربسيك هي مموهة لسيرة ذاتية. وهذا القول ينطبق على رائحة السلاح. إنها سيرة ذاتية مموهة لرواية، إذا لكل رواية غاية. فما هي الغاية في رواية رائحة السلاح؟ الغرض كما هو واضح في النص إلى جانب المعنى الجمالي يتمثل في إظهار نضالات الشعب الاريتري من خلال جنس ادبي، إلى جانب الطابع الاحتفالي للنص برفاق النضال من الرعيل الأول كما يقول الأستاذ معاوية البلال من خلال عرض صورة الأمس في قالب فني. وهذا القالب يكشف صورة الشعب الاريتري ورغبته التحررية في تلك المرحلة وكيف تعرضت هذه الرغبة التحررية من المستعمر إلى القمع والذبح والتشرد بكل وسائل العنف المتاحة. ورغم كل هذه المعاناة لم تضعف إرادة النضال الاريتري حتى تحقق النصر على مستوى النص والواقع فان النص يبدأ سرده بكشف الصورة الأولى للنضال الاريتري ومتاعب هذا النضال من خلال ادم الصغير الذي يحمل عصى (كولي) لعدم وجود ما يكفى من سلاح. إنها كانت مرحلة الاعتماد على الذات وبعد إن مر الحدث بكل قوانين النضال ينغلق النص في النهاية على مغزاه وهو النصر.

بعد هذه المقدمة نحاول التعرف على هيئة الزمن وهيئة النص أى عن كيفية انبناء النص الروائي (رائحة السلاح) لان الكيفية هي الأهم في العمل السردي باعتبار إن قصة واحدة يمكن إن تحكى بأشكال مختلفة وطريق متعددة (3).

نبدأ أولاً بالعنوان. تقول يمنى العيد (4) العنوان يشكل مفتاح مهم. ويرشد إلى الأبواب التي يمكن الدخول منها، وانطلاقا من هذا الفهم نقف أمام عتبة رائحة السلاح لنطل إلى عالم الرواية وهو عالم التشرد والموت والحرب. اذن الشكل محكوم بهذه الرائحة من بداية المدخل إلى آخر النص (سلاح المقاومة وسلاح المستعمر) الأول يبحث عن ذاته والثاني يحاول طمس الآخر ظلما وعدوانا وهكذا يقوم بناء النص على الصراع بين الحق والباطل ويحسم الصراع في النهاية لصالح الحق.

هيئة الزمن: إن الزمن السردي هو زمن متخيل وهذا الزمن هو زمن النص لا يطابق زمن الوقائع بالضرورة أى بمفهوم آخر(زمن الإبداع لا يطابق زمن الإيقاع) (5) بل هناك انزياح أو مفارقة على مستوى القول مثال لذلك حكاية سعيدة الشفهية لا تطابق الحكاية المكتوبة. ففي الحكاية الشفهية سعدية كانت جزء من العملية وليس الكل وان كانت الجزء الاساسى، فالنذال لا يموت على يدها كما في الرواية. وهنا تكتمل المفارقة بين القول والمرجع حتى لا يبدو القص شبه أمين.

ا- مفهوم القطع أو القفز* الزمنى وفق مفهوم يمنى العيد. إن الراوي في رائحة السلاح يكتفى باخبارنا إن سنوات واشهر مرت دون إن يحكى عن تفاصيل أو امور وقعت في تلك المدة، ويستخدم الزمن الضمنى وهو الزمن الغير مصرح به وازمنة النص في رواية رائحة السلاح انه زمن ضمنى فلا نعرف زمن المعركة فالنص ضمنى الزمن باستثناء بعض الازمنة وهى المدة التي قضاها مع جدته، كانت ثلاثة سنوات وهنا يجب قول ملاحظة وهى المدة التي قضاها على مستوى القول يساوى صفر، وعلى مستوى الواقع يساو ثلاثة سنوات. وان هذه الطريقة في السرد طريقة القطع أو القفز الزمنى جعلت النص خارج اللباس التقليدى، ذلك اللباس الذي يغرق في التفاصيل من خلال استخدام الزمن البارز والمصرح به.

ب‌- الفضاء النصى: من حيث الفضاء النصى، إن طول النص يتطابق مع طول القول وان كان طول النص لا يساوى الشىء الذي يقص فان عدد صفحات رواية رائحة السلاح 93 صفحة وان مدة الأحداث على مستوى الواقع زمنها يطول ويقصر خلاف لمستوى القول. فالراوى كان سريع الإيقاع في الزمن وهذا ما لحظناه من خلال عدد الصفحات التي تحتلها الكتابة لاحداث جرت في عدة سنوات.

ج- المشهد: على مستوى المشهد كان الحوار مقتضب وقصير بما يناسب سرعة القص ونجد هذا ممثل في حوار الام والاب في (الدوسا) وفى حوار يعقوب واحمد ابن اخيه اثناء المعركة وكذلك في حور سعدية والندل، الرجل والملازم الاثيوبى… الخ. أما على مستوى الوصف الذي كان يتوقف فيه الرواى عن الكلام كان شريط الوصف قصيراً وممثل هذا فى وصف شخصية الاب وهو عائد من الحقل وطريقة نظراته إلى السماء وكذلك في وصف شخصية ازاز الطبيب فالاول يحمل دلالة المجتمع الزراعى والثاني (ازاز) يمثل الجيل الحديث جيل الثورة ووعى التغيير، فالكاتب وظف الوصف كما يجب جماليا ومعرفيا ولا يمكن إن نفصل عن الصورة هذا البعد الجمالى وكان بارعا في تجسيد هذا المعنى، معنى الايحاءات الواسعة في النص. فالوصف كان يأتى في السرد وكأنه من اجل تفسر الحدث القادم، فمثلا عندما يوصف جو المقهى نلاحظ جو التوتر عندما يقول واصفا اللحظة (الصمت اشبه بذلك الذي يعقب الخيبات هبط عليهم فجأة وكبلهم بألجمته القاسية). انتهى الكلام. ومن خلال استراحة اخرى نتعرف على جو المدينة جو التشاؤم ونجد هذا عندما يقول الرواى (ستبيت هذه المدينة على كارثة محزنة وايضا نلاحظ هذا الاسلوب يتكرر اثناء وصفه للمعركة الحاسمة، فينقلنا إلى اجواء المناخ الموازى للمعركة من حيث الكوارث الطبيعية (مطر شديدة الاندفاع، عاصفة من الريح) إلى آخره. وكانت المعركة اشبه بالجو إنها كانت شرسة وحاسمة انتهت بانحسار الطوفان وارتفاع الايادى المستسلمة من وراء السواتر لنجد إن مفوهم الالتحام بين السرد والوصف قد تحقق في فضاء الرواية كما يقول حميد الحميدانى، (عن طريق الالتحام بين السرد والوصف ينشأ الفضاء الروائي) (6).

هيئة القصة:

هي الكيفية التي يروى بها الراوي، وان كاتب رواية رائحة السلاح استخدم في روى الحكاية نوعين من الرواية. الأول يروى بضمير الأنا والثاني بضمير الغائب (هو) ويبدأ النص بالراوى أنا (سأنتظر أبى هنا أمام الدوسا) إلى إن نصل صفحة 11 بعضها يفصح المجال لخطاب (هو) ويكون الكاتب حاضراً وهو الذي يروى بشكل مكشوف بدلا واحد من عناصر الطوف مثال انبطح ادم الصغير بلا بندقية إلى جانب عمه يعقوب خلف الساتر !!!! ثم يعود إلى سرد بضمير (أنا) انفصلت بقطيع النعاج عن بقية اللاجئين وهكذا نلاحظ سير السرد بين الفصل والتمفصل بين الأنا والهو وهذا الأخير (هو) يتستر وراء الشخصيات (سعدية - سعد الله - يعقوب - احمد همد) إلى آخره من الشخصيات الورقية في النص. أما الأحداث لا تتعاقب وفق التاريخ الواضح بل كانت تتدفق وفق عملية التقطيع والتركيب لصورة الأحداث كما يقول الأستاذ معاوية البلال ووفق هذا المنهج شكل الروائي ابوبكر حامد كهال نصه السردي رائحة السلاح.

الإشارات في الرواية:

إن رواية رائحة السلاح مليئة بالدلالات وأعطت هذه الدلالات النص فضاء روائي واسع وقابل للاتساع أكثر كلما تعمق القراءة التأويلية للنص وهذا يؤكد لنا تعدد المعنى الذي يحمله النص في كل صورة من صورة بمعنى آخر إن نص رائحة السلاح قابلة للاتساع من حيث زمن القص وهذه القابلية هي التي جعلت للقارىء حضورا في النص.

فالرواى ومن خلال سمة الدوسا يبرز دلالة البيت الريفي الارتري والعلاقات التي تربط هذه الأسرة من عادات وتقاليد داخل هذه البيئة (الدوسا) وان الأسرة في هذه الدوسا هي امتداد طبيعي للمجتمع الريفي أو نموذج مصغر له. ولهذا ركز الروائي على المظهر الخارجي في وصف الأب وهو عائد من الحقل قائلا (عمامته المبللة بالعرق ومقبض خنجره الذي يبرز من خلال الجلباب وفراغ حذائه الجلدي المليء بتراب.. الخ) وهذه صفة أو عادة لكل الفلاحين في القرية اذن كل السمات التي يوحى بها النص في السرد لها دلالات عميقة تشير وترصد العلاقات الاجتماعية والنضالية للشعب الارتري فان شخصية سعدية والندل سمة الأول تعبر عن حزم المقاومة تجاه الخيانة مهما كلف الأمر وسمة الثاني تعبر عن الخروج من الخط العام خط الإجماع الارتري وهو خط المقاومة إلى جانب ذلك ترمز شخصية سعدية إلى نضالات المرأة الارترية وانخراطها في الثورة الشعبية بشكل مبكر إلى جانب أخيها الرجل أما صورة التضحية والعطاء للأسرة الارترية نقراها من خلال شخصية سعد الله وأم سعدية في النص وتعكس لنا هذه الصورة مدى استعداد الشعب الارتري للتضحية بأغلى ما يملك في سبيل الحرية والكرامة. اذن كما قلنا إن الرواية مليئة بالشفرات تحمل أبعاد اجتماعية وسياسية فعندما يقول (استبدلت الفأس التي وضعها أبى على كتفي بواحدة اصغر (قضب) نفهم من هذا الاستبدال تأكيد الشخصية لشخصيتها في حق الاختيار بما يناسبها وقبل إن نغلق فقرة السيمياء نشير إلى سمة التفاؤل التي أبرزها الرواى من خلال غراميات زهرة الجبل أما عرض قائمة وأسماء المستجدين (عافة أرى، لملم قبري كدان، عمر الدين جامع حواء شوم إلى آخر القائمة، إن المعطى كان عدد من طلاب ارتريا التحقوا بصفوف الثورة، أما الدلالة كانت تشير إلى الخارطة الديموغرافية وهذا يعنى إن المجتمع الارتري بكل فئاته الدينية والعرقية جيش ذاته في سبيل الاستقلال. أما لحظة خروج شعب مدينة كرن لحماية الفدائي كان بعدها الدلالي إن الثورة محمية بأبنائها وهى امتداد طبيعي لرغبة الجماهير العارمة.

وفى ختام هذا الحوار أو القراءة مع رواية رائحة السلاح للأستاذ ابوبكر حامد نتوصل إلى التالي: إن هذه الرواية تمثل ولادة متكاملة للسرد الارتري بامتياز وتؤسس خصوصية ارترية في هذا النوع من الجنس الادبي لم يسبقها إليه أى عمل ارتري اخر فهي نمط سردي يحمل ملامح وتقاطيع أوجه الثقافة الارترية إلى جانب هذا تأكد لنا الرواية مقدرات الكاتب من حيث الثقافة وتكنيك الكتابة السردية وكذلك نلاحظ مخزون الذاكرة، ذاكرة تنتمي إلى الواقع الجغرافي والتاريخي وعندما نقرأ النص نقرأ ذاكرة الوعي الجمعي الارتري، أحداث، أمكنة، شخوص، لغة لها صلة بالواقع وهذا لا يعنى إن السرد كان صورة فوتوغرافية امينة، لا بل كان الشغل نص سردي متخيل يتكئ على فنون السرد الحديث من خلال فن الإيهام ويذكرنا هذا الإيهام بالزمان - المكان، الأشخاص الخ. فلن يكون هذا الواقع إلا في عالم الرواية ومن خلال هذا الفن نسج ابوبكر حامد روايته رائحة السلاح ويقول مهدى عامل (7) (إن تكون الرواية عربية يجب إن اشم فيها رائحة الغبار لشارع غير مزفت، وارى الفلاح واشم رائحة الزعتر) .. الخ ونحن نشم في رواية رائحة السلاح العامور والحيساس ونشاهد الدوسا. والحمرة ونتجول عبر عالم الرواية من قرية إلى قرية (عنسبا - بركة - ساحل - حلحل، غارسغر، بيان الخ. وكل هذه الدلالات تحيل إلى البيئة الارترية وتعطى نكهة خاصة تنتمي إلى ثقافة وتراث الشعب الارتري بامتياز وهكذا إن الرواية تؤرخ لنا مرحلة تاريخية ارترية بقالب فنى فكان بذلك ابوبكر حامد بلزاك على الطريقة الارترية. فشكرا على هذه اللوحة السردية التي تعبر عن ملحمة تاريخية للنضال الارتري المسكوت عنه إلا في ثقافة المشافهة.

المراجع:
1 الدكتور حميد الحمدانى - بنية النص السردي ص 65
2 يمنى العيد تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوى
3 المرجع السابق نفسه الدكتور حميد الحمدانى ص 45
4 المرجع السابق نفسه - يمنى العيد ص 123
5 دراسة الدكتور عبد الرحمن ياغى في الرواية الاردنية ص 95
6 المرجع السابق الدكتور حميد حميد الحمدانى ص 80
7 الطريق العدد ¾ 1981 ص 256
* معاوية البلال كاتب وناقد سودانى.

Top
X

Right Click

No Right Click