نوراي... رواية من أريتريا

بقلم الكاتب الأستاذ: رمضانْ سليمْ - رئيس اتحاد كتاب ليبيا السابقْ

يصعب على القارئ وهو يلج عالم هذه الرواية المسماة "نوراي" لكاتبها الإرتري أحمد عمر شيخ، أن يتوحد مع تفاصيلها وأجزائها بكل

رواية نورايسهولة ويسر، كما أنه يجد صعوبة بالغة ولا شك في أن يدرك أبعادها للوهلة الأولى ومن خلال قراءة وحيدة.

يصعب على القارئ، ذلك ونحن لا نقصد بقولنا هذا أن نمرر رأيا تقييميا، ولكن من الواضح أن الشكل الفني للرواية بمعناه التقليدي المألوف قد تعرض لمحاولة اهتزاز، بطريقة فنية وباللغة العربية، في وقت بدت فيه الانقسامات العرقية تسير نحو خدمة لغات أخرى، خارج الثقافة العربية، وهي مشكلة تعاني منها الحياة الثقافة في أرتريا بشكل خاص.

من متطلبات القراءة النقدية في التعامل مع النص الروائي، أن تكون مشحونة بشيء من التمرس، والذي لا يتأتى إلا بواسطة ممارسة عملية القراءة نفسها بوعي وبصيرة نافذة ناقدة.

هذه الحالة لابد من استدعائها عند التعامل مع رواية مثل "نوراي" لأن عملية القراءة يفترض فيها أن تكون غير عادية. وهو أمر ربما ينطبق على كتابة هذه الرواية أيضا.

إن رواية "نوراي" ذات الحجم الصغير والتي تقع على 120 صفحة تخفي أكثر مما تظهر، وتوحي بومضاتها أكثر مما تسهب في الشرح، في احتواء لرموز لها دلالة، وبجمل قصيرة متقطعة، تبرز بعض المعاني، في وصف له إيقاع سريع وأحداث مكثفة.

إن زمن الرواية يلهث بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين العودة إلى البلاد - إلى مدينة مصوع - والهجرة إلى الخارج، ولكن الأحداث متقاربة والوقائع متلاحقة في أمكنة متعددة، ومن خلال شخصية وحيدة هي "نوراي". إن هذه الشخصية تعود لتختفي بعد ذلك في تداخل مع الراوي حينا وفي انفصال عنه في أحيان أخرى.

إن أهم ما يلفت انتباهنا في هذه الرواية العربية الأرترية، هو استخدامها للغة العربية بطريقة مشرقة ذات مقاطع متباعدة، أقرب إلى لغة الشعر الحديث، وفي نثر يبدو أحيانا أنه ينفصل عن السرد ليعود بعد ذلك ليتلاحم معه من جديد.

هذه اللغة تستند إلى مرجعيات ثقافية متنوعة تغنى منها، بما تتضمنه من اقتباسات شعرية ودينية، تعكس بشكل أو بآخر توجهات النص ودلالاته المرتبطة برؤية الكاتب وانعكاس معارفه على النص الذي يكتب.

في هذا السياق، لابد من الانتباه إلى التيار الذي يستخدم اللغة العربية باعتبارها وسيلته السياسية للتعبير الأدبي والثقافي في أرتريا، وهو تيار يؤكد اختيارا له مبرراته التاريخية والسياسية والجغرافية المرتبطة بالثقافة العربية الشاملة.

يتضح ذلك من خلال استخدام الكاتب لمقاطع شعرية لكل من فايز خضور ومحمود درويش، في افتتاحيات مفاصل الرواية، بالإضافة إلى ذكر أبيات شعرية ومقاطع من التراث الشعري العربي.

لقد حملت هذه الرواية معها وفي طياتها، بالإضافة إلى اشتباكها ثقافيا مع الموروث الثقافي العربي - اقتباسات من الشاعر المتنبي، واستفادة من الآيات القرآنية الكريمة، وشحذت من الهواجس الفردية والاجتماعية، والتي عبر عنها الواقع المحلي في أرتريا بكل التناقضات التي يحويها، رغم أن هناك نزعة تميل إلى تغليب الاتجاه الواحد الذي يحمل "نوراي" خصوصياته فيما يشبه حالة من الانسجام الكلي البعيد عن الصراعات، لكن "نواري" يحمل في ذاته بذور التناقض الذي ربما يكشف عن وجهه الحقيقي في أي وقت.

إنه في الحقيقة انسجام شكلي بين الشخصيات، فجميعها قد استسلمت لهذا الرمز الذي يحمل اسمه "نوراي" - من النور - لعل ذلك يكون حافزا لتأسيس وطن مستقر فيه الكثير من الماضي البعيد، ومع وعي بالحاضر، وتطلع إلى المستقبل.

في الرواية تبرز ثقافات متشابكة، يكر عليها "نوراي" وأغلبها هي فضاء يحمل خصوبة الأرض، فالشخصيات النسائية المتعددة الارترية والحبشية والعربية والسودانية والايطالية الأصول، هي محطات يمزجها "نوراي" مع بعضها، من الطفولة إلى الحاضر لتتوحد معه في حلم مستقبلي قادم لا يعرف له وجه حقيقي.

هذه الثقافات المتشابكة و المتداخلة، ومع حضور المسجد والكاتدرائية والأحياء الشعبية القديمة، من عهد العثمانيين إلى السوق الايطالية والأساطير القديمة القادمة من أفريقيا، من الأسماء "التقرية" إلى العربية والايطالية والإفريقية، ومن الألوان والأجناس والقوميات واللغات واللهجات. من كل ذلك يبدو التمازج أمرا صعبا لكنه ليس مستحيلا، بل هو مسؤولية لابد من الوعي بها.

رواية نورايلا يبقى "نوراي" الى اللحظات الأخيرة ليكشف لنا عن نفسه، بل يختفي فجأة، تاركا أوراقه ومذكراته في مهب الريح، وهي نفسها تضيع أيضا، ليصبح "نوراي" شخصية تعيش في الذاكرة، تروي وتحكي قصته من خيال الناس وتطلعاتها وتطلعاتهم وأحلامهم وذكراهم، ومن ماضيهم البعيد القريب.

لقد توحد فضاء الرواية بخصوصية الأمكنة وحضور الشخصيات، ومن هنا اتضحت المحلية ولمعت، نابعة من الفضاء والكلمات والأجواء، التي تحيلك مباشرة إلى ألفة المكان ورائحة الأرض الجنوبية بأصولها العربية المتحركة في التاريخ عمقا وحضارة.

تعبق رواية "نوراي" بأنفاس حارة وشخصيات كثيرة أغلبها عارض ومساند لشخصية "نوراي" الرئيسية، ولا سيما عندما يختص الأمر بالعلاقات الجنسية المتعددة التي يباشرها "نوراي" مع أكثر من امرأة ومن أرومات مختلفة، وذلك ما يعكس أهمية خاصة لأنه رمز للوطن العابر من الماضي إلى الحاضر ومن الحاضر إلى المستقبل، فهو ينقل ثمار الخصوبة والتلاقح والتجدد مع كل عبور وتنقل وترحال، ترتبط عودة "نواري" بعد هجرة طويلة، مع الاستعدادات لتأسيس الوطن المنشود بصورته الجديدة، ومجيئه كان في الموعد، لأن هناك من يرحل، وهناك من يعود، ولا أحد يعلم تماما من من هؤلاء على صواب.

إذا عددنا الأسماء المحلية في الرواية نجد: فاطمة، قنت، ترحاس، أمونة، مسعودة، نصرة، جواهر، مارتا.. وكلها أسماء لشخصيات نسائية، ومن أسماء الأمكنة نجد: أخريا، ماركتو، عداقة، حطملو، قزابرهانو، أكلي قوازي، سراي، امباسويرا، رأس دميرا، راس قيصار، سقالت قطان... وغير ذلك من الأسماء.

وسوف لن نذكر أسماء الأغاني والرقصات والأدوات وأنواع المشروبات وغيرها، حيث نخلص إلى أن الرواية تحضر فيها الأسماء وتختفي الأحداث، لأن الأسماء تعلن عن هوية وطن، عن خصوصية ما. أما الأحداث فهي مجهولة ومعلقة ولا يكشف عنها إلا المستقبل فقط.

تنقسم الرواية إلى عدد من المفاصل وبالعدد 12 مفصلا، يبدأ من المفصل الابتدائي وينتهي بمفصل الراوي. مع إهداء خاص وكلمة خارج النص الروائي. وهذا التقسيم لا يخلو من صنعة مبالغ فيها، لم يكن في صالح النص الروائي.

جاء في الافتتاحية: "يقال في "التقري" - لغة أكثر سكان أرتريا - إن الأم هي التي تطلق علي وليدها هذا الاسم "نواري" وهو مشتق من النور، وينتشر في المنخفضات الارترية على الرغم من ارتباط الشخصية في النص بالبحر كدلالة رمزية للعبور... العبور إلى الوطن ومحاولة القبض على تفاصيل الصورة... يظل الارتباط ومحاولة الالتحام بالمرأة - السعي المحموم للوصول إلى نقطة التلاقي ولو بشكل متوتر - متحفظ - نافر".

في نفس الافتتاحية "خارج النص" إشارة إلى شخصية "نواري" الذي يتوجه إلى الماضي وليس الحاضر، وهو إرث من الماضي، ظهرت عليه بوادر الاحتفاء، لسبب غير واضح، ولكن استمرار ظله في الحياة يتحول الى حركة تتجدد مع مطلع كل يوم جديد.

إن شخصية "نوراي" فيها شيء من الخرافة والأسطورة والحضور والغياب، إنه وكما يقول النص الروائي "واحد منا، هو نحن، أو هو لا أحد".

وفي الحقيقة إن "نوراي" هو جميع الشخصيات المذكورة، فهم الشعاع الذي يسري في الأجساد الانثوية، فتتخطى أنواره الربوع، ثم يباشر في الاختفاء بعد ذلك.
من هنا تتضح أبعاد الشخصية الخرافية الحقيقية، بكل ما فيها من أصالة وتراث، وأسطورة لتبقى جزءا منها وفي صميم الحياة الاجتماعية الموغلة في الماضي والحاضر، باعتبارها معنى وليست جسدا، فقط اليوم وغدا.

إن المؤلف يستخدم ضمير المتكلم ليسرد حالاته المتعددة، لكننا لا نقول بأن ما كتبه هو جزء من سيرة ذاتية، أو هي مقاطع منفصلة كليا عنها، لأنه مع استخدام ضمير المتكلم في السرد يبدو التداتخل واضحا بين كل من يسرد وهم: الكاتب المختبئ في ركن من الأركان، والذي يلجم نفسه بعدم الظهور أولا، ثم الروائي المتمثل في "نوراي" ثانيا والأخير هو الذي يسرد علينا زياراته لأمكنة مألوفة لديه ووجوه كان يعرفها جيدا، قبل أن يهاجر من موطنه للعمل في الخارج مثله مثل غيره.

ثالثا الراوي الحقيقي للأحداث، الذي يتضح لنا بأنه يصيغ رواية "نوراي" حسبما التقطه من معلومات، جمعها من هنا وهناك، بعد ضياع كل المذكرات الخاصة بهذه الضخصية. والراوي هو في الحقيقة مجرد صحفي له علاقة بالمناهج التعليمية ومهنة التأليف والكتابة.

وفي المفصل الأخير للرواية، محاولة للخروج بالرواية من الدائرة الصغيرة التي ألجمت نفسها حولها، وهي دائرة التنقل بين ربوع الوطن وإعادة سرد الذكريات، ونحن نتحسس التراب من خلال أجساد النساء اللاتي ينتظرن هذا الفارس ولا ينتظرن غيره، مع الأخذ بعين الاعتبار تقديم معلومات خارجية عن أرتريا الوطن والجغرافيا والحياة الاجتماعية والسكانية.

ولولا هذا المفصل الأخير والذي عنوانه "الراوي" لكان لهذا النص الروائي شأن أقل ودلالة شكلية لا تكاد تلفت الانتباه.
لا نريد أن نضع ملفات الرواية في بوتقة واحدة تم التفاضل بينها، لأن الرواية تتمسك بالشعر، وتهمس بالتفاصيل دون صخب، وهي تسري بهدوء ينسجم مع الإفصاح وعدم الافصاح عن أشياء معينة تبقى طي الكتمان. لقد ارتبط اختفاء ضخصية "نوراي" بإعلان الاستقلال السياسي، كما تم توضيح ذلك في مفصل "اليوميات" الخارج عن الأحداث، وذلك فيما يشبه عملية دفن للماضي، والبدء من جديد مع تغيير الاحوال والأوضاع.

لكن يمكن القول بأن هذا الاختفاء المعلن لشخصية "نوراي" يمكنه أن يخفي ولعا جديدا بهجرة أخرى نحو الخارج، تحمل في معانيها الكثير من الاحتمالات المفتوحة.

Top
X

Right Click

No Right Click