تقديم ديواني طوينا صفحة الليل
بقلم الأستاذ: حامد الناظر - كاتب والروائي
حالة من الإحباط طويلة، خلقتْ تلك المسافة الماثلة بيننا وبين الشعر، كأنه منا على الضفة الأخرى،
ثم تباعدتْ "الضفتان المعقودتان إلى بعضهما بخيوطٍ من حرير" هل كان الشعر أوهى من أن يجعل مجرى الماء يضيق؟ قلةٌ قيلةٌ مطَّت شفاهها يائسةً، وأشارت بأيديها في الهواء إشارات مبهمةً "أنْ ربما!" أمَّا كثيرون فقالوا نعم، منهم من قال أنَّ هيبة الشعر راحتْ، ومنهم من قال أن هُوَّة الألم أوسع من أن يجسِّرها الشعراء، ومنهم من قال إن على الشعراء أن يتحسسوا كل مرتفع من الأرض بعد أن غُمرت الأرجاء من حولهم بطوفان هائلٍ من النثر، ومنهم من وجد الجرأة ليقول: إن الشعرَ ذاته غادر مواقعه القديمة، وغادر الشعراء من مُتردم!.
يبات علي فايد، وقلة أخرى تقدموا بثقة، سبحوا إلى الضفة الأخرى، ثم لوَّحوا من هناك أنْ ثمَّة أمل، يخبوا بريق الشعر بعض الوقت لكنه لا يموت، وهكذا أعادوا إلينا ثقتنا في الشعر وفي قدرته على التحليق من جديد.
لا زلت أذكر أول مرة التقيته فيها، في أيام دراستنا في الخرطوم أواسط التسعينيات، شاب حنطيٌّ نحيل، هادئ، واضح القسمات، وواضح الصوت خفيضه، مال نحوي أحد الأصدقاء ثم قدمه بأنه شاعر، ضحكت في نفسي وقلت: أما يزال للشعر سدنة بعد كل ما جرى؟ وحسبت من غروري أيضا أن الشعر لا ينبغي لراطن مثله، مخدَّد الوجه، خجول، ثم لم يمضِ وقتٌ طويل حتى سمعته في مناسبات كثيرة يتلو شعراً، رصيناً، حلو الموسيقى، غزير الأخيلة، وجميل المفردات، خجلت لنفسي وقلت: ما أحمقني وما أشعره!، ومرة بعد مرة كان يتفوق على نفسه، ويفتح أمام جيله آفاقاً رحبةً، ويثأر للشعر من مشيِّعيه، ويجعلنا قادرين على احترام الشعراء.
أما ديوانه هذا "طوينا صفحة الليل" إنما هو الوجع الإرتري الذي لا دواء له، لكنه وجع مكثف معجون بالأمل، وإن شئتم حلم يربو في أرض شاسعة من الإحباط والألم، هكذا قدمه لنا في قصائده:
"وظنِّي يقينٌ بأنْ..
سوف تهتزُّ هزَّا
وتخسفُ كلَّ الطُّغاةِ بلادي
وتربو وتُنبِتُ عِزَّا
وظنِّي يقينٌ بأنْ..
جُفاءً سيذهبُ ذاك الغثاءْ"
ولعمر هذا هو دور الشاعر، أن يقف على الربوة ليقول إني أرى الفجر قريبا، لكن دون أن ينسى أن العتمة لا تغادر طالما أن الخيبات باقية، إنها سحابة ممتدة من الداخل إلى الخارج وليس العكس.
" قال لي ثائرٌ
بالفنادقْ
وهْوَ فيما يقولُ مُحِقٌّ
وصادقْ
قال لي وهو يُحكم قبضتَه..
ثم يضربُ في كفِّ أخرى:
"حاصرونا وما تركوا من وسيلَهْ
لم يعد للأشاوسِ مدَّخلاً..
جنَّدوا ضدَّ ثورتنا كلَّ عصفورةٍ..
أقنعوا بالَّذي خطَّطوه القرودْ
إنَّهمْ واليهودْ..
"هكذا"
وأشارَ يُحاذي بسبَّابَتَيْهْ
والذَّكاءُ يُشِعُّ على مقلَتَيْهْ".
هذا الديوان ذو القصائد الصغيرة المكثفة، ضمَّ بين ضفتيه كل أوجاع إرتريا، وأحلامها كذلك، الكلمات القليلة التي كونت قصائده وصفتْ ببراعة حالة الخيبة التي لازمت مشروع الدولة الوطنية نصف قرنٍ أو يزيد. إن إرتريا التي لم تحدُث أخبرنا يبات أين يمكن أن نجدها، وكيف يمكن أن نجتاز الوحل الذي يفصلنا عنها. إن قصائده هذه تجعلنا ننظر إلى الأمام والخلف في آنٍ معاً، إنها تعيد تنظيم خطواتنا في الاتجاه الصحيح، وتعيد تموضع الشعر في معركة الإرتريين الطويلة من أجل الحرية والكرامة.
"عِثْ فساداً وعاقِبْ
بظَنْ
يا كريهاً يقبِّح وجـ
هَ الحسَنْ
أنا مستيقنٌ..
أنَّ صبحاً سيأتي إذا الـ
ليـلُ جَنْ
أنا لست أخوِّفُكمْ عاقبا
ت الزَّمنْ
ها هو الشَّعبُ يُجمعُ ألا خيا
رَ سوى..
أن يَخِيـطَ الـكفَنْ
سوف تمضي ذليلاً ويبقى انتصا
رُ الْـوطنْ".
أضع بين أيديكم هذا الديوان الصغير الكبير، إنَّه يصف لنا بدقة تفاصيل الأشياء في بيتنا الذي تركناه خلفنا، ولم يبق منه في أيدينا سوى مفتاح.. صدئ.