رواية سلالة البؤساء لمولود البكر ومقطع من رحلة الهروب من معسكر ساوا سيء الصيت
تأليف الأستاذ: منصور سعيد حامد - أبو سما
بإحدى ليالي شهر رمضان المبارك من العام ألفين وعشرة ميلادي جلس مصطفى وأصدقائه موسى وعبدالله
لتناول وجبة الإفطار المصنوع من الدقيق سيء السمعة ويطلق عليه اسم (فيتريت) مع قليل من السمن البلدي أحضره عبدالله بآخر زيارة له لوالدته جدة حياة.
بدأوا بتناول الإفطار في حالة صمت رهيب بينهم وهي الفرصة الوحيدة التي يجتمعون فيها بعيداً عن بقية رفاقهم الذين يخدمون معهم بنفس الوحدة باعتبارهم من الديانة المسيحية.
تشجع مصطفى وطرح الفكرة دون مقدمات قائلاً:
كيف نستطيع الهرب من هذا المكان اللعين يا شباب...
انتفض عبدالله وموسى وبدأوا بالالتفات يمنة ويسري في آن واحد وقد تصببا عرقاً فإن الكلام في هذا الأمر يعتبر من المحرمات والحديث عنه بهذه الجراءة تصل عقوبته إلى الإعدام.
وفي ليلة مظلمة كئيبة اتفق الثلاثة على الالتقاء تحت شجرة الجميز الضخمة وكان الاتفاق بأن يقوموا بحفر حفرة بجانب هذه الشجرة لدفن أسلحتهم التي يحملونها والفرار والتسلل ليلاً عبر الغابة للوصول إلى إحدى القرى المتناثرة على الشريط الحدودي فإن قدر لهم النجاة بعبور هذه الغابة كتبت لهم حياة جديدة...
بشهر سبتمبر عيد الثورة وفي ليلة باردة تخللها الكثير من الهرج والمرج وقبل أن يرسل الصبح ضوءه معلناً ببداية يوم جديد انطلق موسى ومصطفى إلى الغابة في حين تردد عبد الله خال حياة وعاد إلى مكان خدمته لإحساسه بفقدان الأمل بالنجاة.
بظهيرة اليوم التالي بدأ البحث عنهم والسؤال وسط الجنود وأثناء السؤال والتقصي قال أحد الجنود بأنه شاهدهم بالقرب من إحدى الأشجار مساء أمس...
خضع عبدالله للتحقيق بناء على هذه المعلومة عن كيفية هروب زملاءه في البداية أنكر معرفته بالأمر ولكن بممارسة التعذيب عليه وهو تعذيب قاسٍ لا يحتمله بشر اعترف بالتفاصيل وأرشد عن مكان دفن الاسلحة...
وجهت لعبدالله تهمة المساعدة في هروب موسى ومصطفى وحكم عليه بالسجن وهو عبارة عن زنزانة تحت الأرض أرضيتها من التراب، أما الغرف مبنية بالحجارة ومغطاة بجذوع من أشجار الصنوبر والتراب - مساحتها ضيقة ومحفورة بعمق تحت الأرض...
ليعيش عبدالله أسوء أيام عمره في غرفة مظلمة كئيبة أبوابها مغلقة ومحرومة من الهواء والضوء، وقد امتلأت بأجساد المساجين وأنفاسهم تم تكديسهم بداخلها.. ولكنها الأرواح لا تكبل بالأصفاد...
وفي إحدى الليالي حاول الهرب من هذا السجن المميت ليتم الإمساك به ويحكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص أمام زملاءه ليكون عبرة لغيره ولمن تحدثه نفسه بالفرار او الهروب.. ومات عبد الله في مشهد تقشعر له الأبدان.
وصل مصطفى وزميله موسى بعد رحلة قاسية استمرت ثلاثة أيام متواصلة كانوا يسيرون فيها ليلاً والاختباء نهاراً تحت الأشجار الكثيفة بالغابة إلى قرية صغيرة وهم في حالة يرثى لها...
وبرغم التعب والمعاناة كانت فرحتهم كبيرة أشبه بفرحة ذلكم الرجل الذي أضاع ناقته بارض فلاة (صحراء) وبها زاده وماءه وعند استسلامه للموت فإذا به يشاهد ناقته فوق رأسه ومن شدة الفرحة أخطأ بقوله (الحمد الله يا رب أنت عبدي وأنا ربك)، إنها الفرحة التي تنسيك كل المعاناة والألم والمشاق..
إنها القرية التي تبدو لك حين تشاهد طرقها المهترئة قطعة بالية اعتراها الإهمال وسكنها البؤس ولكنها البرية الساحرة بجلالها وجمالها وإشراقها وضيائها وخضرتها ومائها.. إنها مأمأة الخروف وثغاء الماعز ومواء القطة ونباح الكلب وخرير الماء وأنين الربابة لتتناغم مع بعضها لتنشد أنشودة الحياة متحدية إهمال البشر وجبروت الحكومات المتصارعة بحضارتها الزائفة وقيودها القاتلة...
هناك صبي لم يبلغ العاشرة وبيده عصا يهش بها على غنيماته يتقدمهم وقد أسرع الخطى إلى أمه الجالسة بذلك الكوخ من القصب وهي تنفخ على موقدها لإشعال النار لتصنع الطعام وهو يقول: جنديان خلفي يا أمي.. لتنهض أمه وهي تردد قائلة:
مرحباً بكم يا أولادي وقد عرفتهم من هيئتهم المتعبة بأنهم هاربان وقد بدت عليهم ملامح الجوع والعطش.
ليرد عليها مصطفى: نحن يا أمي نحتاج لبعض الماء لنتابع طريقنا...
قاطعته تلك المرأة الطيبة وهي تقول: ادخلا يا أولادي حمد الله على سلامتكم فقبل أسبوع قتل جنود بأيد جنود آخرين أخوتهم وهم يحاولون الهروب بالقرب من قريتنا...
وبعد استراحة لمدة يومين عند أهل هذه القرية وتزويدهم بما يحتاجونه في رحلة هروبهم بعد أن قاموا بنزع ملابسهم العسكرية واستبدالها بلبس سروال وجلابية وهي الملابس المعتادة التي يلبسها أهل القرية دخلوا إحدى المدن للدولة المجاورة متسللين عبر الحدود كما هو معتاد فلا تستطيع التمييز بين أهل هذه القرى وسكان هذه المدينة فهو امتزاج بين شعبين ضارب في القدم من العسير تقنينه أو وضع المتاريس بينهم فهم يحفظون دروب تواصلهم كما يحفظون أسماء أبنائهم.