قراءة و ملاحظات قارئ محظوظ في رواية عطر البارود

بقلم الأستاذآدم محمد إدريس

عندما نكتب رواية او نقوم بسرد مشهدٍ حكائي متخيل او واقعي انما نقوم بخلق هؤلاء الشخوص الخياليين ،

عطر البارود

نركِّب لهم من بنات افكارنا و من مخيلتنا امزِجة و انماطاً محددةً و طباعاً و سلوكيات معينة ، نُنشئهم في بيئة تناسب ثقافتهم و الدور الذي سيؤدونه في رحلة الرواية ، لحظة بلحظة نرصد سوياً نحن الكاتب و القارئ البناء المتدرج للشخصية المعيَّنة، هامشيةً كانت ام اساسية ، و الحال كذلك لا يمكن أن يظهر ضمن احداث الرواية أن يقوم القروي الذي كان يحّلِب اغنامه و يهشها بعصاه فجاءة في مشهد آخر و هو يستحث حماره مستعجلاً الذهابَ الى معرض فنٍ تشكيلي او ندوة عن الفلسفة و الفكر ، فذلك نسقٌ لا يليق بمنطقية البناء المتدرج للشخص الذي وضعناه في قالبٍ معين و دور محدد يلعبه و يغادر على إثره مسرح الاحداث. و فلكل بيئة نسقٌ متوقع و القارئ سَتنفِره الغرائبيّة هذه ان لم نَضبِط ايقاع الاحداث بحِرفيّة تحترم خلفية القارئ الثقافية و المعرفية.

بعنوانٍ لافِت و غلاف جميل استعرض الكاتب و الروائي هاشم محمود بروايته الاخيرة ( عطر البارود ) في اكثر من مئتين صفحة احداث الثورة الارترية في نصفها الاخيرة الذي انتهى باندِحار الاستعمار الاثيوبي ، ساناقش بعض الملاحظات التي استوقفتني دون ترتيب و خارج اطار السياق الاكاديمي او الأدبي المحترف، بل كقارئ محظوظ جاءته نسخته من الرواية تسعى ساخنة و مغرية من بين اسنان و ترُوس المطبعة مباشرةً.

بعض شُخوص الرواية الاساسيين ، محمد وابراهيم و عافيت اطارهم الطبيعي الذي تبنَّاه الكاتب انهم مناضلون ، عاشوا حالة اللجوء حيّناً و اكتوو بنار البُعد عن الوطن ثم عادوا يسبقهم الحنين و تستحثهم روح التضحية و الفداء ليكونوا قادة الثورة و صُنَّاع التحرير و هذه صفات كافية لتصنع منهم ابطال يُنْظر اليهم باعتزاز و فخر ، لكن فجاءة قام الكاتب باقحامهم بملكات الكتابة و الشاعرية و الغناء و الرسم اقحاماً غير ضروري و لا تخدم النص بشيء و مضفية شيء من عدم المصداقية على شخوص الرواية ، فقد كانوا كمناضلين اقرب الى روح النص و تقبل القارئ و المنطق السردي ، بزيادة غير لازمة و لا تخدم السرد و بملكات تبدو غير متسقة و متكلفة ، كما و انه و لم يمهد لها التمهيد الكافي و لم يستصحبها معه من بواكير النص خطوة بخطوة حتى يصل اليها لِتبدو و كأنها محشورة عنوة.

- ثم و بعد أن كان تؤدي السيدة العجوز دورها الطبيعي ، ظهرت أم ابراهيم فجاءة كناقدة محترفة للرسم و تقرأ اللوحات السيريالية و تسْتَنطِقها و تستخرج عميق معانيها بما لا يتناسب و مقام هذه السيدة العجوز التي يتبادر بتلقائية الى ذهن القارئ انها من النساء الأميات المتفانات في تربية ابناءهن و التضحية في سبيل حمايتهم بغريزة الامومة و نقاء القرويّة و بَسَاطة الوالدة و سيدة المنزل التقليدية ، ما كان يليق بها غير هذا الدور ولا يمكن ان تتقبله سلاسة السرد ولا منطقة الواقع ، ام ابراهيم لا علاقة لها بالفن و الرسم الا ما كان من دندنات ببعض اشعار الاجداد او قصائد الملاحم التي تتردد في مواطن الفخر و الاعتزاز.

ثم بدى لي أن الكاتب قد مهَّد للعلاقة العاطفية الوحيدة في الرواية منذ البداية و قام بِبناءها بحنكة و تدَرج و عشنا معه معاناة محمد في الميدان و هو يكتب القصائد متغزلا و متلهفاً شوقا الى عافيت التي تركها خلفه في السودان و هو لا يدري هل سيلتقيها مرة اخرى أم هذه ستكون الاخيرة ، غادرت عافيت بدورها الى لندن و عاش هو بين نيران الذخائر و حرائق الشوق التي تكويّ دواخله يكتب رسائل الحب و التوَلهِ الى المجهول يسلي بها نفسه و يخفف بها غلواء الشوق و الفراق ..

كل هذا المقدمات المُشجِية ترسم في مخيلة القارئ ان لقاء عافيت و محمد سيكون مشحوناً بزخم هذه المعاناة المتطاولة و الخيال الجامح و الشوق المكَثَّف و النفس التوَّاقة للقاء الحبيب ، هذا اللقاء الذي انتظره المحبان سنين متطاولة بعمر النضال ، و هما يُمَنِيان نفسيهما بهذه اللحظة الرومانسية الجارفة حرارة اللقاء و دفئ الاحصان و أن تتكحل الاعين برؤية حبيب طال انتظاره و تمدد على المدى غيابه.

يأتي الكاتب بلقاء باهِت و حوار فاتر. بعد أن شهق محمد لما رأى عافيت و هو يقول:

• حمدلله على سلامتك. متى وصلت ؟
أهلا و سهلاً ، لم يخبرك احمد و صلت منذ ثلاثة ايام.

• ابدا و الله لم يخبرني ثم يسال: واين أم ابراهيم ؟
- ذهبت الى القرية.

انتهى اللقاء !!

بدى لي الحوار كأنه لشخص خرج الى السوق ليشتري خضاراً و توابل و عندما عاد لم يجد أم ابراهيم - أم عافيت ايضاً - في فأخذ يستفسر عنها ثم انصرف الى مشاغله دون اكتراث !!

عندما تتصرف شخصية قمنا بِبناءها في نسق ثقافي وحياتي معين يُفترض بها ان تتحرك في اطار نفس النسق الثقافي و النفسي الذي بنيناها لها منذ بداية التكوين الشخصي لها ! فالمشاعر التي سكبها محمد عند ام عافيت و هو يطلب يد حبيبته اللندنية! و هو ابن الثورة الارترية التي شهدت تلاحم المرأة مع الرجل جمبا الى جم ما كان يليق به ان يذهب الى ام عافيت قبل أن يُفاتِح عافيت بما يخالج نفسه او يحكي لها لوعته و يفضفض لها عن حبه ، المشهد غير مقنع و لا يتناسب مع ثائر عرف المرأة في الميدان عن قرب كيف يعجز و يستحي أن يصارح حبيبته ؟ الفتاة اللندنية المنفتحة و المتحررة و علاوة على كل ذلك هي فنانة تجيد الرسم و تعشق الفن و الجمال و تقدر الحب و المشاعر و بالتأكيد يستهويها أن تسمع منه مباشرة و يستفزها أن يخاطب امها قبل أن يفاتحها بمكنون مشاعره ، و لا يناسب البناء الثقافي لشخصية عافيت و محمد أن يترك محمد حبيبته في اسمرا ليبحث عنها مع امها في قريتها البعيدة و هو الذي تركها خلفه في اسمرا.

الرواية في عمومها ماتِعة و تتنقل بين احداث مأساوية و مؤلمة و يختمها هاشم بفرحة النصر و بهجة التحرير و لقاء الاحبة و عرس الوطن.

Top
X

Right Click

No Right Click