حفل تدشين رواية حكاية أب مهاجر للسيد مهند آدم
بقلم المناضل الأستاذ: حامد ضرار - رئيس سابق لحزب الشعب الديمقراطى الارتري - برمنغهام، المملكة المتحدة
بدعوة كريمة من المركز الثقافي الإرتري حضرنا مساء اليوم الأحد 14 سبتمبر ضمن جمع غفير توافد إلى تلك المدينة
من مدن نوتنغهام ومانشستر وبرمنغهام ولندن وغيرها للمشاركة في حفل تدشين رواية "حكاية أب مهاجر" للسيد مهند آدم.
• أعطى السيد صابر رباط "أبو فيصل" في البداية فكرة عن المركز الثقافي الإرتري والأهداف المرجوة من إقامته والتي أجملها في ضرورة تثبيت دعائم الثقافة الإرترية وبلورة الشخصية الوطنية بالتوازي مع عملية الاندماج في المجتمع المحلي أسوة ببقية الجاليات الأخرى.
• بعد ذلك استهل مناسبة التدشين بأبيات من قصيدة "فجر أيلول" للشاعر أحمد الحاج موسى:-
عفوك أيلول أن فاضت مآقينا
واستبدلت وصفك الزاهي قوافينا
أيلولنا الطلقة التي صدحت
رغم المواجع بالأفراح تأتينا.
• جاء بعد ذلك دور الإستاذ حسين صالح سكرتير المركز والتي تضمنت بعد التحية والترحيب بالحاضرين على دعوة للشباب بضرورة الاهتمام بالقراءة والتحصيل الممنهج والواعي للمعرفة وحث الجميع على ضرورة التوجه نحو اكتساب كل ما يفيد عبر الاحتكاك والتواصل مع كل ماله صلة بالتميز والنجاح. وقال أن في الحياة مساران إحداهما يوصل للنجاح الذي يسلكه المجتهدون ومسار آخر يقود للتعثر والفشل فالأول يسير عليه من امتلك في حياته رؤية وهدف واضحين.
وانطلاقاً من تجربة المركز وملاحظاته الشخصية قدم السيد سكرتير المركز وصفة لتحقيق النجاح اشتملت على:-
1. ضرورة تحديد الهدف بوضوح؛
2. وضع خطة توصل للغاية المرجوة؛
3. العمل بإخلاص وتفان لجعل النجاح جسراً يفتح آفاقاً جديدة لتبني أهدافاً أخرى تضمن مزيداً من النجاحات التي ستنعكس آثارها الإيجابية ليس على الفرد، بل تتجاوزه لتصل المجتمع المحلي والأهل في الوطن الأم.
وفي مجمل كلامه نصح الاستاذ الشباب بضرورة عدم خلط ترتيب الأولويات لكونه إذا حدث سيكون عامل إحباط وإعاقة ليس فقط للذات بل وللغير وشدد على أن المضي إلى الأمام صوب النجاح بخطوات وئيدة وثابتة ستكون نتائجه ملموسة على عكس القفز الزائد والغير مخطط والذي سيحول دون الوصول إلى الغايات النهائية والنجاح.
فاصل قصير قدم خلاله صابر رباط فاصلاً جميلاًوبصوت جهوري مفعم بالحماس مجموعة من الأشعار الثورية كانت منها الأبيات التالية من رسالة من عليت للشاعر محمدمحمود الشيخ "مدني":-
يا رفاقي
لم نعد تبغاً يدخن في دهاليز السياسة
لم نعد محض عباءة يرتديها أخنث قوم ليواري ما وراءه
إنما نحن إرادة
نحن للأرض ومن الأرض وبالأرض ننادى
نحن للعامل شمسا
نحن للزارع غرسا
ولجرح الشعب في الساحة قوسا
وعلى الكف للثوري زنادا.
بعد الفاصل كان دور الاستاذ مهند آدم ميا الذي بدا وللوهلة الأولى شخصاً واثقاً لا يحب لا التظاهر ولا الزهوانية التي تستهوي البعض عند الظهور أمام جمهور وحضور كبير كالذي جاءلحضور حفل تدشين باكورة أعماله. وبمنتهى الهدوء دخل الرجل في الحديث بالتعريف عن نفسه قائلاً: "أنا لم أكن قط كاتباً ولم أفكر ذات يوم في أن أكتب رواية. ولكن الهول الذي أحل بي والخسارة التي مرت بعائلتي الصغيرة نتيجة الحدث الجلل والمتمثل في فقداني شريكة حياتي سلوى اضطرني أن أهمس لإبنتي الصغيرة مرابط حكايتي واصبح الأمر عادة أكررها لصغيرتي قبل أن تخلد للنوم كحكايات الأطفال التي تحكيها الأمهات والجدات للصغار في كل مكان.
ذات يوم قلت لما لا أسجل تلك الحكايات واتركها مكتوبة في ورق لتتمكن أبنتنا الصغيرة من قراءتها واستيعاب مضمونها عندما تكبر، بدلاً من أن تظل الحكاية شفوية. من هنا جاءت فكرة توثيق تجربتي الحزينة كتابةً لأخبر معاناتي الطويلة للعالم كله، أخبر العالم، ليس لأنها معاناتي لوحدي، بل معاناة الكثيرين من أبناء جيلي. وهي بطبيعة الحال معاناة شعب استمرت لأكثر من خمسة عقود ونيف. بالتالي ما أنا إلى قطرة في محيط ومجرد نموذج من عشرات آلاف النماذج التي ما تزال تعاني في المهاجر القصية.
وهكذا انبلجت من العتمة ومن اللاشيء فكرة هذه الحكاية. فكما قلت، في ذات مساء من الأمسيات ودون مقدمات وجدت نفسي وقد انكبتت على الكتابة فكتابة أكثر من تسعة صفحات في ليلة واحدة، وهي بطبيعة الحال قد تبدو قليلة للمتمرسين في الكتابة، ولكن بالنسبة لي كانت كثيرة جداً لمن لم يتعود على الكتابة. وما زادني حماساً هو أنني كنت أحس بالراحة واتنفس الصعداء مع كل كلمة وكل سطر كنت أكتبه عن حكايتي ومعاناتي، لأنني كنت أشعر وكأن حملاً ثقيلاً كان ينداح من أعماقي ليمضي هارباً بعيداً على نحو اشعرني بالراحة الحقيقية. وبالفعل وضعت في تلك الصفحات والتي ضمنتها أخيراً ضفتي هذا الكتاب الذي اسميته "حكاية أب مهاجر".
هناك على أي حال حقيقة أود البوح بها، ليفهمها كل من يقرأ هذه الرواية والتي هي الآن بين أيديكم. وسأحاول أن أورد تلك الحقيقة على شكل نقاط:-
أولاً: كما نوهت فيما مضى من أسطر، أنا لست بأديب ولا روائي ولا أدعي ذلك. بل أنا مجرد شاب إرتري بسيط مرَّ بتجارب قاسية ومعاناة مرة في هذه الحياة، وهي معاناة لاتنتهي وتتجاوز شخصي لتطال الكثيرين غيري من أبناء جيلي من آلاف الشباب الإرتريين.
ثانياً: ما يميز تجربتي هو أنني فقط قررت توثيق معاناتي دون أن أعر مسألة عدم كوني لا كاتباً ولا أديباً. بالتالي بهدف أن أقوم بمهمة التوثيق الشخصي تلك وجدني وقد كسرت حاجز الخوف.
ثالثاً: تحديتُ كل المعوقات ومنها كما قلت عدم امتلاكي أدوات الكتابة ومنهجية كتابة الروايات أو الإبداعية عموماً، وطبعاً الصعوبات المادية هي الأخرى كوابح كان بمقدورها أن تحد من إقدامي على الكتابة.
رابعاً: أنا شاب درس اللغة العربية فقط في المرحلة الإبتدائية للصف الخامس حيث بعدها تتحول الدراسة بالانجليزية في بلدي إرتريا. وغني عن القول هنا، أن عدم امتلاكي لناصية اللغة العربية كانت أحد وأكبر معوق الذي اعترض مشوار رحلتي في كتابة هذا الجهد المتواضع.
خامساً: وأخذاً في الحسبان ما تقدم، لم يكن بالقط أمراً يسيراً أو سهلاً أن أكتب الثمانين صفحة التي هي عدد صفحات هذه الرواية التي ضمنتها بعضاً من تفاصيل معاناتي.
أقول رغم كل تلك المعوقات حاولت واعتقد جازماً والحمدلله قد نجحت وحققت مبتغاي بالوصول إلى ما كنت أصبو إليها، لا لأكون شخصية مشهورة، بل لأتمكن من توثيق ما حدث لي من مآسٍ ومعاناة، وهذا هو على ما أظن بيت القصيد، وما عداه فهو تحصيل حاصل.
وهنا لا بدّ من أن استغل هذه السانحة لأناشد كل الشباب الإرتري للتوجه إلى الكتابة والتوثيق لتجاربعهم الشخصية لتعميم الفائدة ولتعريف العالم بها وأن انصحهم بضرورة كسر حاجز الخوف وعدم الاستخفاف بتلك التجاربة مهما بدت ضئيلة وغير ذات مغزى.
أقول لأولئك الشباب عليكم أن لا تترددوا بسبب عدم توفر الخبرة وضيق ذات الحال، ولا بدّ من التذكر من أنالمرء لا يولد عالماًأو عارفاً، ولكن مع توفر الإرادة والعزيمة يمكن صنع المستحيل فكل الناجحين في التاريخ لم تتوفر لهم وسائل النجاح لكنهم نحتوا في الصخور الصماء فجعلوا المستحيل حقيقة ماثلة ليستفيد منها كل البشر.
وفي يقيني "يواصل مهند حديثه" أن كل شاب إرتري هو مشروع قصة ورواية بذاتها، فكما أسلفت وكررت مراراً في هذه الأمسية، ليس هناك من شاب إرتري لم يمر بتجربة قاسية تستحق أن تُرْوى وتُحْكى للأجيال. صحيحٌ هناك من نجح هنا في بلاد المهجر في حياته العملية أو العلمية، ولكن أرى بالضرورة أن نهتم بتوثيق كل التجارب، تجربة المعاناة والإحباط وكذا تجارب النجاح والتفوق لكونها جميعاً تشتمل على ما يفيد مجتمعاتنا، وفيها فوق ذاك فائدة إظهار شخصيتنا الناجحة والمتميزة للغير ولا ننسى أن تلك التجارب وتوثيقها تكون عامل تحفيز لأطفالنا ليقتدو أثر الناجحين منا.
صحيحٌ أن موضوع حكايتي تمحور حول مأساة ومعاناة رجل وطفلة فقد الأول زوجته والثانية فقدت أمها وهي لم تبدأ تذوق حليب ثديها لكونها كانت في أيام ولادته الأولى، طفلة كانت أحوج ما تكون لحضن أمها وهي مازالت وقتها في مهد ولادتها في المستشفى. مع ذلك ليس بالضرورة كما أسلفت أن تكون منطلقات ما سيُكتبُ من أعمال الحزن والموت، فهناك نجاحات وصور ناصعة تحتاج هي الأخرى أن تُسلط عليها الأضواء ويتم توثيقها، لتكون منهلاً ومرجعاً لشبابنا وأبنائنا ليأخذوا منها ليبنوا لنا صور إيجابية تُفْهم المجتمعات الأخرى طبيعتنا الإيجابية المعاكسة للصورة النمطية السيئة التي تعلقت في أذهان الكثيرين سواء عن إفريقيا أو عن بلادنا.
كان لضيوف الشرف فسحة للمداخلات:
نوري محمد عبدالله: "لقد سعدت أيما سعادة بحضوري هذه الأمسية الرائعة وهذا التدشين الجميل". فمبادرة المركز الثقافي الإرتري في مدينة ليز والنجاح في تدشين رواية "حكاية أب مهاجر يقف أمامها الشباب من بينهم صابر رباط ومهند ميا وآخرون كثرٌ وهذا ديدن الشباب الإرتري، فحامد إدريس عواتى وصحبه واللاحقون من الرعيل الأول وحتى وقت قريب لهو تأكيد على أهمية دور الشباب في كل مرحلة من المراحل الحاسمة التي مرت بها إرتريا، وأؤمن من أنكم أيها الشباب استمرارٌ لما بدأه الرعيل الأول الذين تحملوا عبء النضال حتى تحقق التحرير مع أنهم لم يكن لهم سلاح غير إيمانهم بعدالة قضيتهم".
وإني مقتنع الآن مع بروز إشارات التغيير نتيجة النهضة التوعوية لدى الشعب في الداخل وارتباط الشباب بوطنه في المهجر، فإن ليل الديكتاتورية المقيتة آيلٌ للزوال ووجود شباب من شاكلة هؤلاء المستنيرين المتواجدين في هذه الأمسية يؤكد أن لدينا قادة حقيقيين سيتحملون وزر النضال المخاض بهدف إحداث التغيير من أجل المصلحة الوطنية. ومع توفر الإرادة يمكن تحقيق كل ما نبتغي تحقيقه".
وهنا "يستطرد نوري محمد عبدالله": "أوصي هنا الشباب بضرورة الاهتمام بالتحصيل المعرفي وإيلائه الأهمية القصوى لاكتساب المهارات والتجارب، كما انصح بالعمل من أجل مساعدة الأهل والأسر هناك في الوطن لتخفيف وطأة الحياة وقساوتها".
حامد ضرار: الذي سُمع وهو يقول:"بعد التحية، أنا سعيد بأن أكون بين هذا الجمع الكريم الذي ينظر إلى الوراء، إلى الماضي، ليس بهدف التشبث به، بل للاستفادة منه والحيلولة دون تكرار ما اكتنف ذلك التاريخ والتطلع نحو الأمام لبناء مستقبل أفضل".
"وفي الحقيقة يصعب الحديث فيهكذا مناسبة دون تحضير أو استعداد، إلا أن هذا العمل الرائع لأخينا مهند آدم ميا والتقديم الذي تم بمنتهى الأريحية نجد في دواخلنا تنبع شلالات من الأمل والطاقة الإيجابية والتي تدفعنا للقول والتحدث من أجل تأكيد وتثبيت ما قيل من الذين سبقوني فيما اتصل بما قدمه المبدع معد الرواية".
"فبينما أنا جالس في القاعة وجدتني اتصفح وعلى عجل صفحات هذا الكتاب وكنت ألحظ في الصفحات التي وقعت عليها عيني، إبداعاً حقيقياً وغير مصطنع وتمنيت لوجدت وقت أطول لأقرأ كل الحكاية على نحو هاديء لإدراكي بأن هناك الكثير من العبر".
"سئل ذات مرة" (والكلام ما زال لحامد ضرار) الروائي الأمريكي أرنست همنغواي عن سر تطور الثقافة والإبداع في أمريكا اللاتينية وتخلفها في أوروبي؟"
كان جوابه "المعاناة". "فإنسان أمريكا اللاتينية في تلك الحقبة، كان يعاني من سطوة الحياة وقسوتها وبالتالي كان يجد نفسه مضطراً للهروب من وطأة الحياة اليومية إلى المسارح ودور السينما وقراءة الكتب وذلك لتنفيس عن ما كان يلحق به من حالة سحق جسدي ونفسي".
"من هنا وما زال المتحدث هو همنغواي: انبثقت في أمريكا اللاتينية من رحم تلك المعاناة ينابيع من الإبداع الانساني، بينما في الغرب الأوروبي المشبع والمتخم بتفاصيل الحياة بجملة تفاصيل على أساس الفردية البحتة على عكس أمريكا اللاتينية. بالتالي من هنا كان مصدر الإبداع في أمريكا اللاتينية الذي خرج من رحم المعاناة المجتمعية".
في مثال آخر ذي صلة بالموضوع قال حامد ضرار "سئل عام 1999 الكاتب والمثقف الإرتري ألم سقد تسفاي حين صدور كتابه (لن نفترق) في طبعته الأولى، سئل سؤالاً محورياً جاءفيه: ما جدوى أن تكتب أنت أو غيرك من الإرتريين كتاباً حول إرتريا، بينما هناك مئات الكتب بذات العناوين كتبه كتاب أجانب معظمهم من الغرب ؟
كان رده على السؤال: "إن لم نكتب تاريخنا بأنفسنا سوف لن يشبهنا ما يكتب عننا من قبل الآخرين."فهمها امتلك الآخرون أروع الأدوات وأكثرها تطوراً سوف لن يتمكن أولئك الآخرون من تلمس موطيء معاناتنا كما قد نفعل نحن".
ما وددت قوله من خلال إيرادي للمثالين السابقين (يستطرد حامد ضرار) وكما أكد ذلك مهند، فإن القضية ليست تتعلق بتوفر الإمكانيات من عدمها أو امتلاك أدوات الكتابة أو غيرها، فامتلاكها لا يعني أن الانسان سيكون مبدعاً، ولكن العامل الحاسم في ذلك كما اعتقد هو أن نجد في دواخلنا ما يدفعنا للكتابة عن قضية نؤمن بها وبالتالي التعبير عنها بطريقتنا الخاصة. فإذا كانت هناك قضية ما يعتبرها إنسان ما مقدسة وتدفعه للبوح بها بصوت عالٍ ومسموع، فهنا يكمن العامل المحفز والمشجع الذي يدفعه إلى الأمام لممارسة عملية الكتابة".
"وبطبيعة الحال، هناك تحديات جمة في مجتمعاتنا، كما أكد الأستاذ المناضل نوري محمد عبدالله وكذا كاتب الرواية مهند آدم في معرض حديثيهما، وهي أن هناك في مجتمعنا وللأسباب والظروف التي مرَّ بها فيما مضى من عقود، عدم اهتمام بالثقافة المكتوبة واعتبارها وكأنها ترف وبالتالي من هنا تبدأ معاناة المبدعين عندنا".
فمن التاريخ القريب والذي يعرفه الكثيرون منا أتذكر أحد المبدعين المشهورين كان قد سأله المذيع على الشاشة موجهاً إليه السؤال التالي في ختام حوارٍ طويل:
ماذا ننتظر من فناننا الملهم والمحبوب من أغنيات جديدة في المستقبل ؟
قال المبدع وكانت إجابته صادمة تماماً: "أنا أمضيت أكثر من خمسين عاماً غنيت خلالها للثورة وغنيت للوطن والدولة وغنيت للقبيلة والعشيرة وغنيت أكثر من ذلك للأفراد. والآن وقد تقدم بي العمر ووصلت إلى هذه المرحلة وأعاني الإهمال من الجميع وعدم الإهتمام لتأتي الآن تسألني هذا السؤال وأنا أكابد لأبحث في كل الاتجاهات لأضمن طعاماً شريفاً لعائلتي ولأهلي!!"
الأسبوع الماضي، تابعنا لقاءاً تلفزيونياً مماثلاً مع مبدع آخر قدم الكثير في مجال الفن والغناء وامتعنا بالكثير من الجماليات والإبداع. وجه المذيع إلى مبدعنا ذات السؤال القديم الجديد. ماذا نتوقع منك من ألبومات جديدة في الفترة القادمة؟
كنا قد علم الكثيرون منا عبر شتى المصادر من أن ذلك المبدع الذي وجه إليه السؤال أعلاه كان مريضاً وأجريت له فحوصات طبية وربما عملية جراحية في دول الجوار حيث ظل هناك لفترة من الزمن. وبالفعل من نظراته وطريقة كلامه كان بادياً إنه كان في مرحلة النقاهة. ومع أنه كان لبقاً في الرد على السؤال إلى أن صوته وحركة جسمه كان تنضح بالاستنكار لإهمال الناس له، مع ذلك سُمعَ وهو يقول وبثقة: "هناك ألبوم من الأغنيات سينزل في السوق عن قريب وسوف لن أتوقف في عطائي رغم المصاعب المادية والصحية حتى آخر لحظة في حياتي ولم يزد فيما كلامه أكثر عن ذلك".
إذن أخوتي (ما زالت الفرصة لحامد ضرار): نعم أخوتي الحاضرين إننا بحاجة إلى ترتيب أولوياتنا على المستوى المجتمعي عبر الاهتمام بعمليات التوثيق عبر الثقة بالنفس وعدم التقليل من التجارب الشخصية أو الاستهانة بها حتى لو كنا نعتقد إنه غير مهم وشخصي. فالتاريخ، كما نعرف أن أحد عناصره هو التدوينات الشخصية وتمثل كتابات ومذكرات الأفراد أهمية بالغة في عملية التأريخ. فالمعاناة اليومية، صحيح هي شخصية وفردية، لكنها تحمل فيجوفها أحداث شعب كامل".
من هنا أرى أن ما كتبه مهند آدم ميا يندرج ضمن هذا السياق من عملية التأريخ والكتابة على نحو يتجاوز الذات الشخصية والفردية تلك إلى نطاق أرحب وأوسع. فالتراكمات التي تكتب على الشكل الفردي تعطي بمجملها صورة كل الشعب والجيل الحالي. وبالتالي علينا أن لا نستخف بالتراكم الذي يحدث في هذا المضمار".
الناحية الثانية وهي الأخرى بالغة الأهمية وهي علينا أن لا ننتظر أن يمنحنا المؤلف نسخ كهدية، بل على العكس علينا أن نعمد إلى مساعدة تعزيز مسألة الكتابة والتأليف عبر السعي لشراء عدد من النسخ لتشجيع المؤلف وفي حالة التعذر يكون غاية في الأهمية أن نشتري كتاباً واحداً. فكما ذكرت في كلام همنغواي، فإن توجه الناس العاديين وغير العاديين من المهتمين بالثقافة إلى حشبة المسرح ودور السينما والمكتبات وغيرها من أماكن ترفيه، قد لعب دوراً إيجابياً في النهضو الإبداعية هناك لأن القيام بذلك ينشط دورة الحياة الاقتصادية، فالكاتب سيكتب، والمطابع ستطبع والممثلون سيظهرون على خشبات المسارح وصناعة السينما ستنهض هي الأخرى وكل ذلك سيعني نهوض الاقتصاد على نحو شامل".
"علينا أن نتحرر من مرض التقليل من شأن أنفسنا والآخرين وعلينا الكف عن توجيه النقد الهدام الذي يحطم المعنويات. كما علينا أن نحترم قناعات وأذواق الآخرين فيما يختارون من خيارات لأنفسهم. ففي حالة ممارسة الاستخفاف بالآخر أو ببعضنا الآخر، سنسقط جميعاً سقوطاً مريعاً".
"إذن مسألة الإبداع والثقافة والإهتمام به ليست حكراً على شريحة أو فئة عمرية بذاتها، بل لكونها تعني كل المجتمع، فهي فعلٌ إنساني يُعنى بتوثيق إبداع أمة بكاملها، أمة كما هو حال مجتمعاتنا التي تعاني صعوباتٍ شتى وتسعى للنهوض من من كبواتها عبر تسويق ثقافتها وذاتيتها، الأمر الذي يكون مهماً بالإبداع بشتى صنوفه لكونه عاملاً مهماً في تشكل وعينا لذاتنا ولغيرنا".
"اعتقد أن حكاية أب مهاجر، رواية حقيقية تحتوي، مع قلة صفحاتها، كل العناصر التي ترتقي بقارئها إلى مصافات سامقة لجهة بعدها الإنساني ووطأة المعاناة وقسوتها التي انطلقت منها. فمهند آدم، رغم حداثة علاقته بالكتابة، فقد نجح في إخراجها دون ترميز دونما حاجة إلى القيام بعملية تذويق وتزيين. فالحوارات بين سلوى ومهند في الكثير من صفحات الرواية وسرد الأحداث قد جاءت بمنتهى البساطة وبوضوح لم يكتنفه أي غموض مخل، واعتقد حتى المباشرة التي لحظتها في بعض الصفحات التي مررت عليها خلال تصفحي السريع، هي الأخرى لا يصاحبها أي ملل وميل لوضع الكتاب جانباً والتوقف عن مواصلة القراءة. بل على العكس، أظن أنَّ القاريء سيجد فيها نفسه بحال من الأحوال وأن بعض أو كل أحداثها هي صورة لما مر به في محطة أو أخرى من محطات حياته. فبالمجمل، أن بساطة المفردات وتحرر كاتبها من الكثير من معوقات الكتابة وتعقيداتها، جعل حكاية أب مهاجر رواية بسيطة ورشيقة وتستحق القراءة".
ختاماً، أقول أنّ ما يعوقنا دون المضي في مجال الكتابة الإبداعية أو الكتابة عموماً، كوننا نقفل عملية تشجيع الكتاب، إما بالاستخفاف أو الامتناع عن شراء ما ينتجون من أعمال إبداعية فضلاً عن تجاهلها وعدم تسليط الأضواء عليها وبالتالي حرمان أولئك الكتاب من فرصة الوصول لدائرة أوسع من القراء الأمر الذي يؤدي مع الوقت إلى انسحابهم من الساحة وتوقفهم عن ممارسة الفعل الإبداعي".
والأمسية الجميلة تقترب من نهايتها، دخل القاعة الإستاذ إسماعيل موسى من لندن، وهو قاريء الأمسية الرئيس، وصل متأخراً رغم تحركه من وقت مبكر، وذلك بسبب الزحمة الغير عادية التي اتسمت به الطرق الموصلة إلى ليدز.
قرر الأستاذ إسماعيل موسى الاكتفاء بقراءة بعض أجزاء مما أعده وذلك بسبب ضيق الوقت المتبقي. والحقيقة تقال أن القراءة التي قدمها كانت غاية في الوضوح والجمال على نحو ظلت القاعة مركزة تتابع كل مفردة قالها الرجل. ودون إضاعة الوقت استهل قراءته على النحو التالي:
"حكاية أب مهاجر، هي في الواقع أكثر من حكاية بما تحمله من رسائل شجاعة، فهي تتجاوز شخصية الكاتب لتعكس معاناة شعب ووطن. فكل حكاية أو قصة تُحكى في هذا الكتاب لها علاقة بحكاية أي شخص إرتري".
"فقراءتي ستكون تعليق على الكتاب. فالكتاب، وكما هو باين أمامكم، هو حكاية أب مهاجر والمؤلف هو مهند آدم ومن إصدار دار بدائل للطبع والنشر والتوزيع في القاهرة عام 2019.
التعريف: الرواية تحكي عن قصة شاب ولد في السودان من أسرة إرترية لاجئة، تعود غاقلة إلى وطنها بعد التحرير. تمر حياة ذلك الشاب بمنعطفات حياتية أربعة تتمثل في الحب والفقد والفراق والأبوة. تلك المنعطفات الأربعة تشكل شخصيته من ثم تحدد مسار حياته لاحقاً وإلى الأبد.
المنعطف الأول - الحب:
يقع الشاب مهند في حب فتاة وهو في سن المراهقة، ولكن بسبب أحوال وطنه لايمكنه أن يستمر هذا الحب ويصل إلى غاياته، فقد أضطر الشاب لهجر بلده وقرر الرحيل. مع ذلك فذلك الحب لم ينتهي نتيجة ذلك، فبعد مرور سنوات يلتقي الحبيبان في بلاد المهجر، فتتم سعادتهما بعقد قرانهما.
المنعطف الثاني - الفقد:
يتخلل الفقد حياته منذ البداية فقد فقد أخته الصغيرة وهو حينها دون الخامسة. بعد ذلك فقد الشاب أسرته ووطنه عندما قرر الهجرة في سن مبكرة ثم فقد زوجته التي أحبها بعد بضعة أيام من وضعها أبنتهما.
المنعطف الثالث - الفراق:
نجد الفراق سمة أساسية في حياة الراوي، فنجده يفارق السودان موطن ميلاده ويعود مع أسرته إلى بلده بعد التحرير ليبدأ حياة جديدة هناك. ولكن ما يلبث أن يغادر وطنه ويعود مجدداً إلى السودان، ليبدأ حياة جديدة أيضاً ومن ثم يغادر السودان متجهاً إلى أوروبا على أمل استهلال حياة جديدة للمرة الثالثة. وهنا نلحظ أن الفراق هو سمة متكررة في حياة ذلك الشاب. ففراق وطن عشت فيه جزءاً من حياتك سيصاحبه فراق من عاشرت وربما فراق من أحببت ومن شاركوك تفاصيل الحياة بحلوها ومرها.
المنعطف الرابع - الأبوة:
وهذا المنعطف يعكس فقداً وفراقاً ليكون بداية قصة حب جديدة ونهاية قصة حب معاشة، إذ أنه يبدأ بقصة رحيل الزوجة سلوى التي تجسد فيها الحب وفقدان أبدي للحياة ولكنه مع ذلك يكون ذلك الفراق بداية لحياة جديدة تتمثل في دور الأبوة التي تربط بنت حديثة الولادة مع أب تركه القدر وحيداً في محيط متلاطم الأمواج دون خبرة في إدارة السفن وتلافي الغرق.
يأتي الكتاب إذن، على شكل قصة واحدة دون تقسيمات أو فصول، لكننا في ذات اللحظة لايمكننا أدراج العمل تحت قائمة القصة القصيرة لتجاوزه القصة القصيرة من حيث المحتوى والحجم وربما الموضوعات التي تتضمنها عادةً الرواية والتي نطلق عليها العناصر أو “the themes” استطيع أن أقول أنّض الحب والخوف هما أبرز الموضوعات التي يتلمسها المرء من خلال قراءته للرواية. فالحب نجده يمثل المحور الرئيس للرواية. فيبدأ الحديث عن الحب في الصفحة الثامنة من الرواية وهي تعتبر الصفحة الثانية من حيث استهلال الكتاب موضوعه كمحتوى للرواية وما سبق من صفحات يتعلق بالمقدمات المتصلة بالتصميم.
يروي الكاتب التغيير الذي طرأ في حياته عندما يقول: "كان عمري 17 سنة عندما أحببت تلك الفتاة التي غيرت فيَّ الكثير، كانت الصديق الوفي الذي كان ينصح ويقول لي: أفعل هذا، أو كذا وكنت أفعله حباً له، كنت عنيداً جداً." تصوروا معي كان يفعل ما تأمره رغم عناده، لأنه كان أسير حبها.
في بداية الكتاب تأتي موضوعة الحب وتتسلسل مع الرواية إلى أنْ نصل إلى آخر صفحة وبالتحديد إلى أن نصل الفقرة الأخيرة من تلك الصفحة، حيث تبدأ قصة حب جديدة حيث يقول فيها "ربما رحلتْ - يتكلم عن زوجته - لأنها أرادت أن يكون قلبه لحبيبته فقط إذ لا يمكن في القلب أن يكون هناك مكان لحبين في آنٍ معاً".
إذنْ فيما يلي بعض إشارات يمكن أن نشير إليها من خلال ما تضمنته ضفتا الرواية:-
الخوف:
من قراءاتي وجدت أن الخوف مسيطرٌ كثيراً على كل شيء وهذا ربما يحكي قصتنا نحن كشعب في كل مرحلة من حيث اللجوء والتشرد وفي كل المراحل والمحطات التي مررنا بها. فهناك فعلاً خوف يختلف شكله ومهما تعدد ذلك الشكل فهو في نهاية المطاف خوف.
فالخوف والرعب يختلطان ويتلازمان في داخل الوطن. ففي الصفحة الخامسة عشرة وفي الفقرة الأولى نجد الكاتب يقول: "في ذلك الصباح حدث شيءٌ أرعب المدينة ومن حولها، فلقد أتتْ قوات من الجيش وحاصرت المدرسة... إلى أن يصل إلى نهاية الفقرة التي تنتهي بــ... عندما أخبروني فرحتُ، وأخذتُ أعطي النقود إلى كل من يحتاج إليها هناك".
في الفقرة أعلاه يتجسد هاجس الخوف في داخل إرتريا وتعكس حياة المواطن هناك. كما نجد فقرة أخرى يتجسد فيها عنصر الخوف وإلى حد ما عنصر الفراق. ففي الصفحة السابعة عشرة والفقرة الثانية والأخيرة والتي تبدأ بالقول:"وذهبت سلوى، وفي ذلك المساء ذهبت أنا إلى خالتي التي تحركت من بيتها... وإلى أن تصل تلك الفقرة إلى القول: "نظرت إلي وحضنتني وبكتْ ثم ضحكتْ وقالت: حسناً، كن رجلاً ولا تخف من شيء، فلن يصيبك إلا ما كتب الله لك".
نلاحظ أنَّ الخالة هنا وفي كلامها شددت على الخوف الذي يجتاح ويحيط بالجميع.
وفي الصفحة الثامنة عشرة الخوف يطل برأسه وبقوة مجدداً. ففي نهاية تلك الصفحة وفي الفقرة التي تبدأ بـــ: "الخوف في كل مكان، فكلما مررت بشيء تتذكر... إلى أن نهاية تلك الفقرة... كل هذا صنع منا رجالاً يصمدون أمام أيشيء. وتواصل ذات الفقرة لتصل الصفحة المقابلة...
نلاحظ أن هناك انتقال أو transition من حالة فرد يتحدث عن الخوف بصيغة الجمع حيث يقول: "... لكن كل هذا صنع منَّا رجالاً يصمدون..." فالخوف يجعله يستدعي صيغة الجمع هنا للتعبير عن النطاق الواسع للخوف الذي يجتاح الجميع.
على نحو مماثل نلاحظ في الصفحة الثالثة والعشرين الفقرة الأولى وقبل نهاية السطر الثامن التعبير التالي: "لكن بعد أنْ ركبنا وقبل أن نتحرك أتتْ الشرطة وهرب من هرب"... حتى نهاية تلك الصفحة.
كل ذلك يتضمن أحداث هروبه من تركيا إلى اليونان وقصة التهريب والفرار من الشرطة في كل الاتجاهات، الأمر الذي يعكس الخوف والهلع بوضوح عندما يخبر القاريء عن حدوث مطاردات بين طالبي اللجوء والشرطة.
صحيح من ضمن الموضوعات التي تناولها الكاتب يبرز الخوف وهو يمثل مع الحب المحورين الرئيسين اللذين يشكلان صلب الرواية. وهذا أمر طبيعي لأن الخوف والفراق والفقد والخشية من الفراق والتهيب من أن شيئاً ما ربما يحدث في أي لحظة كان يسود النفس حتى لحظة الخروج والهروب من الوطن.
من بين الموضوعات التي عالجتها الرواية الوطن يأتي ذكره في الصفحة الأولى من الكتاب وتسير التفاصيل المتعلقة بقضايا أخرى بالتوازي مع قضية الوطن مرتبطة بالهجرة واللجوء والتشرد.
فبداية القصة تنطلق من كسلا والعودة إلى وطن الكاتب وهي إرتريا، ثم تأتي العودة والهجرة في مراحل لاحقة وكل ذلك ما هو إلا حكاية وطن بشكل شامل. نعم تأتي القصة على شكل معادلة: كسلا - التحرير - ثم الهجرة... فكل ذلك ولا شك يحكي قصة وطن ومشروع بنائه ومع طرح سؤال مفاده: أين وصل مشروع ذلك الوطن ؟ ماهو حال الأسر التي عادت إلى وطنها والشباب وكل الناس الذين حلموا في أن هناك ثمة أمل في العيش بكرامة في وطن تحرر وبلد استقل ولكن ما فتيء أبناؤوه يرحلون عنه للمنافي البعيدة.
ثم يأتي الموت ضمن القضايا والموضوعات التي تتحدث عنها الرواية. ففي الصفحة السابعة يأتي ذكر الموت حيث يذكر الكاتب فقد أخته الصغيرة وهي ضمن أربعة أسماء فقط ذُكرتْ صراحةً بأسمائها على عكس بقية الأشخاص جاءت مبهمة دون أسماء من شاكلة... صديقي - إبن خالتي - إبن خالي - عمي إلخ... ولكن هناك أربعة أسماء ذكرت باسمائها، وهي الإبنة وسلوى الزوجة والأخت الصغيرة والراوي نفسه.
وهكذا يواصل قاريء الرواية، اسماعيل موسى صفحات حكاية أب مهاجر بشيء من التشويق والإثارة التي جعلت الحضور يكون مشدوهاً لسماع المزيد عن الكتاب بكل جوانبه وبالفعل لم يغفل الرجل بعض الهنات والجوانب الفنية من أخطاء صياغية أو إملائية أو حتى مطبعية.
وبالنتيجة كانت قراءة اليوم في مدينة ليدز والمتعلقة "بكتاب حكاية أب مهاجر" مشوقة وجذابة وبدا ذلك في توجه الحضور إلى إقتناء الرواية ممهورة بتوقيع المؤلف.
تنبيه هام: "السياقات الواردة لبعض التعليقات ليست واردة بالضرورة حرفياً كما قالها أصحابها، وما تم تضمينه في هذا الإيجاز من أقوال ومداخلات عن الأمسية ليس بالضرورة أيضاً أن يمثل رأي الأشخاص الذين تم نسبها إليهم حرفياً.