رواية "سمراويت" الضياع، بشكلٍ أو بآخر

بقلم الأستاذ: عثمان مشاورة - قاص من الأردن المصدر: قاب قوسين

لن أُعيد سرد، أو تلخيص أحداث رواية، حجي جابر الموسومة بـ "سمراويت"، وهي التي نالت المركز الأول في مسابقة الشارقة

للإبداع العربي، عن حقل الرواية، هذا العام، 2012، أو أقوم، وكأنني عالمُ اجتماع، بمناقشة مضمونها والغوص فيه، بعيدا، بشتى أنواع التأويل الممكنة، وسيتم التوقف عند بعض المفاصل الفنية، في التجربة الرائعة للكاتب الشاب حجي.

هذه هي الرواية الأولى لحجي، وقد نُسمّيها مبدئيا، رواية مكان، وقد تكون سمراويت وهو اسم فتاة من موطنه، أريتريا، وبكل بساطةِ التأويل، هي فعلا الوطن بكل كيانه، وقد لا تكون، وماذا في ذلك لو كانت؟...

لكن سمراويت كرواية هي السؤال المُستهلك والمطروق عن الهوية والضياع، ضياع الأفارقة السود بسببٍ من وحشية المفترسين، إن كان الحديث عن الهوية والأوطان يتعلق بالمكان. لكن ذلك كله لا يشفع لتأليف كتاب وطبع كلمة رواية على غلافه، إن لم يكن بالفعل هو رواية.

ما الذي يود حجي جابر قوله بكل صراحة، وهل قاله بطريقة الرواية، أم أن المضمون كما يُنظّر بعض النقاد، قد يشفع لرداءة الشكل؟. هل موضوع الغُربة، والعمالة الوافدة، وضياع المبادئ والتفرقة، هو فريد من نوعه، لم يتطرق له أحد ما. أم أن هذا، هو ما شغل الكتاب منذ زمن بعيد؟.

نحج حجي جابر في النأي بنفسه عن هذا المزلق، فتكرار المواضيع ليس مأخذا، بقدر ما هو طريقة المعالجة، لكن حجي كتب رواية تملك الحد الأدنى من المقومات على أقل تعبير، بل تتعدى ذلك إلى عتبات الإبداع، ووضع الرِجل بثبات على بداية الطريق. الطريق الصعب وليس الهين. طريق الإبداع في فن الرواية، فإن لم يكن ابداعا، فلنتفرغ إذن، وبكل رحابة صدر، لعد الكتب المطبوعة، والتي تحمل على أغلفتها بشكلٍ أنيق كلمة رواية.

لا يهم، إن كان حجي هو أول من كتب عن بلده، أو ربما أول من تطرق لغربة أبناء جلدته وضياعهم في الغربة، وأي غربة، غربة ذي القربي، بقدر ما يهم، ما الذي كتبه، كيف عالجه، وكيف حبكه وسرده.

رغم أن الكتابة بطريقة الشخص الأول( أنا) ، وهي التي كتبت فيها سمراويت، يُمكن لها أن تُسبل الغطاء على بعض المطبات التي يقع فيها بعض الكتاب، وتُماهيها، لا سيما واسعي الثقافة، والذين يميلون إلى تزويدنا ببعض أفكارهم النيرة، حيث يُطلون برؤوسهم ضمن صفحات الرواية، ويقولون أشياءً خارج البنية الروائية، تهدمها في النهاية ولا تبنيها أبدا مهما كانت من القيمة بمكان. إلا أن حجي لم يُفلت في بعض المرات، من هذا الشرك، وحمَّلنا مالا نطيق من ثقافته المباشرة، حول موطنه أريتريا، وتداعيات العيش به. كنا سنشكره جزيل الشكر عليها، لو أنه قالها في كتابٍ آخر عن البلدان، غير الرواية سمراويت.

لكن من اللافت في نصه، أن حجي جابر يلعب على الكوميديا بشكلٍ جيد، الكوميديا الإبداعية الرشيقة والطازجة، وليست المفارَقة التقليدية، وقد وفِّق بها رغم قلتها، حيث كسرت رتابتة سرده في بعض المرات وأنعشته ودلَّت على خياله الخصب، وهي أيضا معيار قوة آخر لحبكته.

علاوة على ذلك، وبسببٍ من حماسه فقد أسهب الكاتب، في سرده - وهو خطأ يتكرر لدى الكثير من كتاب الروايات في بداياتهم، حتى لو أخبرتهم بذلك قبل النشر، لن تجد منهم أذنا صاغية - لدرجة وصل معها إلى تضمينه بالحشو، غير المبرر في مواضع، والمبرر في أخرى وهي الأكثر. فقد كان يكفي في بعض الحالات الإشارة أوالتلميح، وهو الأقوى.

لدى حجي إنغماس واضح بالتقريرية، والمباشرة، وربما الأخير هو الأخطر، حيث تطالعنا الكثير من الفقرات، وكأنها جُزء من تقريرٍ صحفي جيد، يسرد أحوال البؤس والفقر في موطنه أريتريا، موطن البطل، والذي هو موطن حجي أيضا، ونقرأ العديد من الجمل غير القصصية، ناهيك عن شُحٍ لافت للصور الفنية والتشبيهات، التي يبنى عليها العمل الروائي الجيد. ومرة أخرى، لعل انخراطه بالعمل الصحفي قد تسبب في ذلك بشكلٍ أو بآخر.

قد يأخذ البعض، على النصوص الروائية، حواراتها العامية، وقد جاءت حوارات "سمراويت"، في غالبيتها العظمى، غير منتقاه وعامية بحتة، – وليس مؤلف الرواية، بصدد تعليم اللهجات للقراء - مما يضع مجالاً للشك في مدى وصولها لكل قراء العربية. فهل عدمت الفصحى مرونتها، لكي نستسهل العامية، أم أنها أقرب إلى الأذن- أية أذن بالتحديد؟ كما يقول البعض خطأ. كما أن الكاتب، عليه أن يختار من حوار الشخصيات ما يريد، لا أن يُقوّلها مما هبَّ ودب، ضمن حديثها مع بعضها، ولنتذكر بأن الكاتب، هو، في النهاية، من يخلق هذه الحوارات.

على صعيد آخر، لم تخلُ سمراويت من شذرات السخرية والتهكم المبعثرة بين دفتيها، دون الإنفلات من متن الحبكة، التهكم من المجتمع الذي يعيش به البطل، مجتمع الغربة، أو الذي وجد نفسه يعيش به، لدرجة يصفه أحدهم بالخطأ بأنه جربوع لا نفع منه. وهذا التهكم على شكل حكايات متفرقة، وكل هذه الحكايات الصغيرة، تلتقي مع بعضها بسلاسة، لتصب من مزرابٍ واحد كبير، في حوض الثيمة الرئيسية.

لعل حجي، شذَّ قليلا عن الطوق، وفقد البوصلة نوعا ما، في روايته التي تزيد عن 200 صفحة من القطع المتوسط بقليل، فقد تلاعبت في رأسه الأفكار وتلاطمت، مما فتَّ قليلا في عضد المتن، وضيَّع حلاوة المتعة القصوى في روايته، فمن جهة بدا وكأنه عن طريق بطله، يود الحديث من كل قلبه عن بلده أريتريا التي يُحب، فانزلق في الوصف التقريري المحض، وأدب الرحلات، عن أشياءها وجمالها وأصالتها، في جمل أو حتى فقرات لم تذب في عمق السرد، لو نُزعت جملة وتفصيلا لما تغير شيء، وفي حين آخر بدا وكأنه يود الحديث، من ذات قلبه أيضا، عن حال المشردين والمغتربين من أبناء جلدته، وماذا آل إليه حالهم في بلد الإغتراب.

وكان من اللافت في ترتيب الفصول، أن أتت المتوالية الشكلية، فصل هنا وفصل هناك، لخدمة المضمون. مرة نذهب إلى الوطن، نجلس بين ناسه وكنفاته، حيث يرسمه ويؤثثه الكاتب بمهارة جيدة، ثم نتعذب من حاله وبؤسه، ومرة أخرى بفصلٍ لاحق، إلى الغربة، رغم نعيمها، لكن عذابها ليس أقل وقعا، بل كان غراما.

ويا لسخرية القدر، فخلاصة سمراويت من وجهة نظري، عندما يكون البطل في حفلٍ راقصٍ في قنصليه بلاده، أرتريا في جده، يبدأ الحفل، ويُعزف النشيد الوطني لتلك البلاد، لكنه لا يتعرف إلى هذا اللحن الغريب، يعصر ذهنه ويُتمتم بينه وبين نفسه، بأنه قد سمع بهذه الأغنية من قبل، من المسؤول؟ سؤالٌ مفتوح للزمن.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click