في "لعبة المغزل" من يقص الجانب الآخر للحكاية؟
المصدر: جريدة الدستور
ولأن التاريخ كما قال ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا ذات مرة يكتبه المنتصرون٬ فمن طبائع الأشياء
التساؤل حول من يكتب أو يقدم الجانب الآخر من القصة الحكاية التاريخ ؟
الجانب المعتم الذي لا نعرفه عن المهزومين والمهمشين٬ من يا تري يحمل عبء تأريخه أو على الأقل حفظه بعيدا عن التلوث بالزيف والأكاذيب لحساب المنتصر ؟
وهل يمكن التحايل علي الماضي لاسترجاعه واستنطاقه عن حوادثه الحقيقية وليست تلك التي دونها المنتصرون ؟
هذه الأسئلة وغيرها ستراود قارئ رواية "لعبة المغزل" للكاتب الروائي الشاب "حجّي جابر" الصادرة عن منشورات المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء.
عبر مائتي صفحة من القطع المتوسط٬ يغزل "حجّي" متواطئا مع شخوصه حكايتنا جميعا٬ يستعير مغزل جداتنا الطيبات لينسج الحكاية تلو الأخري٬ تستولد الحكايات بعضها من رحم البعض٬ يشكلها في أكثر من صورة٬ فمرة الشخوص أبطال نبلاء شجعان٬ وسيمين جذابين٬ وتارة أخري نفس الأبطال جبناء مشوهون٬ خائنون فارغون.
ولأن عقليتنا وضميرنا تنحازَ للمنتصر بشكل عام لم يدفعنا في يوم من الأيام للوقوف وقفة تأنٍ لإختبار صحة هذه الحكايات أو علي الأقل أن نجرب غزلها على المستوى الأخلاقي، إذ غالبا ما يتم الخلط بين الحق والانتصار فيظن الكثيرون منا أن هذا الفريق قد انتصر لأنه على حق وأن الفريق الثاني قد انهزم بالمقابل لأنه على باطل.
ولا يختلف حالنا بأي حال من الأحوال عن بطلة "لعبة المغزل" تلك الفتاة المتغطرسة التي لا تري إلا تأثير فتنتها وجمالها على الآخرين من حولها٬ لا ترى الأخرين في الحياة سوي أنهم أداة خلقت لتحقيق أحلامها وما عليهم سوى الانصياع لرغباتها وتنفيذها كأوامر ملكية، حتى لم تفكر مرة واحدة أن ترافق جدتها في جولاتها الكثيرة في القرى٬ حيث توزع على الفقراء والمحتاجين٬ ما انكبت علي غزله من أثواب وأردية صوفية تقيهم وجع البرد والعراء٬ بل كانت علي الدوام لا تري في الحياة غيرها٬ وحتى عندما تقدمت لوظيفة أرشفة وثائق الدولة إلكترونيا٬ لم يكن ذلك إلا من باب دفع الملل ! "هذه الحياة مملة أكثر مما ينبغي".
علي أن الراوي يستمتع بتلك اللعبة٬ لعبة غزل الحكايات وخداع المتلقي ليكتشف في نهاية الرواية أن (غزله إتلخبط) بالتعبير المصري الدارج ويعني الحيرة والإرتباك٬ ويطل السؤال خارجا على لسان الراوي ساخرا: أيا من تلك الحكايات هو الحق وأيها الباطل ؟!. تدور الأحداث حول فتاة لم يسمها الراوي يدفعها الملل للإلتحاق بوظيفة بسيطة تتلخص في إدخال وثائق الدولة إلكترونيا٬ إلا أن هذا الملل يدفعها مرة أخري٬ وربما بإيعاز لا شعوري من جدتها أن تخلق تغزل حكاياتها الخاصة٬ فتبدأ في تغيير الأحداث وتكتبها كما تراها هي لا كما عليه بالفعل. يأكلها الفضول والشغف بالملفات الحمراء تلك التي لا يطلع عليها سوي مدير الإدارة ورئيس قسمها٬ إلا أنها تستغل فتنتها وغنجها لتؤثر علي الأثنين٬ مستغلة تبارزهما عليها لتحظي بقراءة تلك الوثائق. وكأنها ولجت شق ثعابين لكنها لا تدري٬ تقع في يديها وثائق بالغة السرية عن السيد الرئيس٬ في البداية تقع أسيرة عشقه لدرجة أنها ترسم صورته وتضعها بجانب سريرها تصحو وتنام على نظراته وفتوته.
بطلتنا تعيد صوغ حكايتها الخاصة لا تخرج عن نهج الدولة الرسمي - المنتصر مدون التاريخ - في تشويه الحكايات وخلط الحابل بالنابل٬ قدس الأوغاد تصفهم كالنجوم أو أنصاف الآلهة٬ بينما الأبطال الحقيقيين النبلاء الذين ترجلوا دون ضجيج الأوسمة٬ وقعوا ضحية هذا التدوين سواء في واقع حياتهم أو من خلال سيرتهم المروية. فعندما تأتي إحدى الوثائق الخاصة بالسيد الرئيس علي ذكر إحدي بطلات المقاومة وكيف أن الرئيس وقع في هواها لشجاعتها وصلابتها وإيمانها بقضية بلادها ويتزوجها٬ تشتعل الغيرة في قلب بطلتنا ورغم أن تلك الزوجة قد توفيت إلا أن مغزل بطلتنا يشوهها يكيد لها وكأنها ما زالت علي قيد الحياة٬ وبدلا من أن كانت سيرتها عطرة ومثال للتضحية والفداء وخدمة الوطن٬ تصبح مجرد فتاة عانس إلتحقت بقوات المقاومة فقط لتجد رجل توقعه في شباكها للتزوج منه٬ فهي قبيحة وعانس لا يهمها سوي الزواج.
كانت إضافة إلي قبحها جبانة خوارة٬ فكانت تتجنب المعارك الطاحنة٬ تتعذر مرة بالمرض ومرة بإنشغالها بالطبخ لتجلس في مؤخرة الجيش بين المؤون والأطباق٬ بينما كانت نظيراتها في مقدمة الصفوف، لكنها لم تكن تفوت فرصة أن تمارس الكذب وتدعي الشجاعة٬ حتي وصل بها الأمر إلي اختلاق قصة مشاركتها في معركة كبيرة عادت منها بإصابة جسيمة" الرواية صفحة 134.
هكذا شوهت البطلة الفدائية المتوفاة٬ وشاركت بدورها في تزييف الحقائق عندما إنساقت لأحقادها لترضي كبريائها الأنثوية٬ وكأنما أراد الراوي أن يصرخ في وجوهنا أننا بدورنا نساهم في تزييف حكاياتنا٬ ونحن ننصاع لأهوائنا الشخصية بعيدا عن الحيادية والنزاهة لو كانت ضد رغباتنا، قسم "حجّي" روايته أو قل غزله في عشر شرائط يختتمها نهاية دائرية٬ إلا أنه يفجر قنبلة في وجه قارئه في تلك النهاية بمراوغة فنية (لخبطت غزل) المتلقي تحيله للبداية مرة أخري لكن مع المزيد من الأسئلة الحائرة.