قراءة في كتاب ارتريا رحلة في الذاكرة للإستاذ أحمد طاهر بادوري - الجزء الخامس
بقلم الأستاذ: إبراهيم محمدنور حاج - ملبورن، استراليا
كنت استعد لإنهاء هذه السلسلة من الحديث عن كتاب ”رحلة في الذاكرة“ الجزء الأخير
وهي - كما وعدت - حول التجربة الميدانية للمناضال احمد بادوري وأعز رفاقه تحت عنوان ”رفاق وملاحم ثم الفُراق“ ولكن رايت ان اُاجل ذلك الى الجزء القادم وان اتحدث هذه المرة عن جانب آخر للكتاب.
رايت انه من الإجحاف ليس في حق الشعب السوداني الشقيق فحسب بل ايضا في حق الكتاب ان لم نتحدث عن ماقاله الكاتب عن اهل السودان.
في الواقع لم تكن سوى انطباعات تلقائية وملاحظات عابرة وعفوية قالها بادوري في مواقف مر بها ولم يخصص لها بابا، ولكن لكونها ملاحظات في صميم نسيج المجتمع السوداني راينا التوقف عندها، خاصة وان ملاحظات بادوري عن سماحة ووداد وكرم اهل السودان تجد الإجماع لدى غالبية الأرتريين الذين عاشروا الشعب السوداني عن قرب.
وبما ان الماء شريان الحياة.. فالنبدئها بظاهرة ”زير“ اهل السودان الذي يُسقي عابر السبيل وانطباعات بادوري عن ذلك حيث يقول:
”ومن اهم ماشد انتباهي ان لاحظت امام الكثير من ابواب احواش المنازل على الناصية وتحت ظل كل شجرة تقريبا (زير) ماء مغطى وعليه اناء للشرب تعجبت لهذه الظاهرة فقد علمت لاحقا ان هذا الزير المليء بالماء البارد قصد به ان يروي ظماء عابر السبيل العطشان فمن يفعل ذلك يكتب له أجر حسن… لكن تلك الظاهرة في فهمي الشخصي كانت تعبر عن عمق الطبيعة والثقافة الإنسانية السمحة المتأصلة في الشعب السوداني“.
اما الملاحظ - وهذا تعقيب من صاحب هذه المقالة - ان زير الماء ليس بظاهرة خاصة بالسودان ولكن مايميز اهل السودان هو وضع زير الماء في خدمة العطاشى من عابري السبيل… في وقت ان لدى بعض شعوب المنطقة تجد الزير محشورا في مكان بعيد عن اعين عابر السبيل.. وكأنه مفاعل نووي ايراني!
وقصة الأخفاء دي بتذكرني بلحن جميل - اجدني اردده احيانا - للفنان الكبير عبد الكريم الكابلي:
اعترف ان الموضوع ليس له علاقة مباشرة بكلمات الأغنية.. فهناك فرق شاسع بين إخفاء الزير وإخفاء الحب… الأول هو بُخل اما الأخير فأنه وفاء… ولكن انا اليوم في مزاج فني… فن سوداني… ومُصِر اصرار شديد على ان استعرض ثقافتي الفنية واحشر في هذه المقالة لحنا جميلا.. فلنعتبرها استراحة للقارئ نعود بعدها الى موضوعنا الأصلي.
وكُنتُ اقمت عليه الحصون... وخبأته من فضول البشـر
صنعت له من فؤادي المِهاد... ووستده كبدي المنفطـــر
ومن نور عيني نسجت الدثار... ووشيته بنفيس الدُرر
وقد كنت اعلم ان العيون تقول الكثير... المثير الخطر
فعلمتها كيف تُخفي الحنين… تواريه خلف ستار الحذر
فما همسته لأذن النســـــــيم… ولا وشوشته لضوء القمر
ولكن برغمي تفشى الخبر... وذاع وعم القرى والحضر
وعودة للكتاب... في لغة التجرينية هناك مثل جميل يقول ”زقبرلكا.. وي قبرلو.. وي نقرلو“ اي بمعنى ”رد الجميل بالجميل او على الأقل أذكر ذلك الجميل“... ورغم ذلك هناك اناس لا بيردوا الجميل ولاحتى يحكوا عنه.
اما الأستاذ بادوري واضح انه (في هذا الكتاب على الأقل) من انصار الجزء الثاني من المثل المذكور (نقرلو !) فهاهو يحكي لنا عن المواقف الجميلة التي وجدها من اهل السودان.
قبل ما يغادر بادوري موطنه كان مُغرم بالفن السوداني وكان يتمنى زيارة العاصمة المثلثة.. ولكن شائت الظروف ان ياتي اليها لاجئا مرغما.. وفي ظروف عكس ماكان يتمناها.
اول هذه المواقف الإنسانية الجميلة كان في النقطة الحدودية ”اللفة“ وكان بطلها مسئول المعبر الحدودي.
اراد بادوري (الأسمرينو) ان يتشاطر وإعطاء الإنطباع انه من ابناء المنطقة الحدودية.
هوي ياجنى... ماشي وين؟
بادوري: كسلا.
انت جاي من وين ياولدي؟
من قريب هناك.. (مشيرا الى الحدود).
شكلك وكلامك ياولدي يقول انت مش من الضواحي دي.
(قرر بادوري ان يقول الحقيقة) انا هارب من الجيش الأثيوبي عايزين يقتلوني.
وعملت شنو ياولدي؟
ولا حاجة.
هسي كان رجعتك يحصل شنو؟
والله العظيم ياعمي يقتلوني لأني هربت منهم !
انت بني عامراوي ولاحباباوي؟
حباباوي (قلت حباباوي متوكل على الله دون ان ادري الفرق بينهما).
وهكذا تدخلت طيبة وسماحة اهل السودان من اجل السماح لبادوري بل لمئات الألاف من اللاجئيين من كافة جيران السودان بدخول البلد دون جواز او بطاقة.
وحتى تكون الصورة مكتملة لابد من المقارنة وهو انه لو كان هذا في حدود اي دولة افريقية اخرى (غير السودان) لكان مصير بادوري - في احسن الأحوال - معسكر اللاجئين او إعادته الى من حيث اتى في اسواء الأحوال.
وهناك موقف آخر انساني ورائع يحكيه بادوري وقد افرد له صفحة:
تبدا القصة من الحدود السودانية المصرية عندما قٌبض على بادوري وهو يحاول التسلل الى داخل مصر (من اجل العلم) دون جواز سفركما فعل في ”اللفة“ وبعد القبض عليه تم وضعه في قطار متجه الى السودان برفقة شرطي.. وزيما يقول السودانيون.. سمح القول من خشم سيدو.. فالنستمع لحديث بادوري ذاته.
”قُرنت من يدي اليمنى بالقيد (الكلابشات) وباليد اليسرى لشرطي سوداني وركبنا معا القطر (حلفا - الخرطوم) وجلسنا في مقعد مقابل امرأة كبيرة في السن برفقة حفيدها.. في سني تقريبا.. وقد آلمها المنظر ووضعي المحزن.. وبعد ان رأت الشرطي قد فتح القيد من يده وربطنى بالمقعد حتى يعود من دورة المياه… سئلتني.. مالك ياوليدي.. عملت شنو؟ انتهزت غياب العسكري وحكيت لها بسرعة واختصار قصتي.. وقصة بلدي.. فتدحرجت على خديها دمعتان“.
وبعد ان عاد الشرطي فتحت السيدة السودانية الطيبة الحديث مع الشرطي.
عليك الله ياولدي الجنى دا عمل شنو؟ ورابطه معاك كده ليه؟
الشرطي: ”زول حبشي قبضوه داخل الحدود المصرية عشان نسفره لبلده“.
عليك الله حن عليه وفك القيد من ايدو؟
وبعد الحاح وتوسل خضع الشرطي لرغبة ”اُم احمد“ واصبح بادوري حرا طليقا في عربة القطار.
يواصل بادوري حديثه عن ”ام احمد“... ”بعد ان حررتني من القيد شعرت بأرتياح.. تخابرت معي واطعمتني من زادها.. وعندما اقترب القطار من الخرطوم اعاد الشرطي القيد في يدي ويده.. فأحتجت ”ام احمد“ بل ذهبت ابعد من ذلك وطلبت منه تسليمي لهاودخلت في نقاش حاد مع الشرطي“.
الشرطي: ياحاجة الولد دا ادوه ليا عشان في طريقي اسلمه لشرطة الخرطوم… وكان اديتو ليكي.. الورقة دي اسوي بيها شنو؟
”ام احمد“ :عليك الله يبقى ليك أجر وحسنة.. اديني الولد والورقة ذاتها !
وهكذا خضع الشرطي لأم احمد بعد ان تغلبت عليه طيبة وسماحة اهل السودان.. واصبح بادوري حرا طليقا.. الى يومنا هذا !
وهنا لابد من ملاحظة وهي انه اولا تدخلت ”ام احمد“ من اجل شخص لاتعرفه من وازع وضمير انساني وخلقي حي… ثم في الجانب آخر رأينا كيف ان الشرطي احترم مكانة وكلمة المرأة ورضخ لرغبتها رغم ما قد يسببه له ذلك من متاعب امام المسئولين.. ولكنه عمل ذلك من اجل ارضاء ”ام احمد“ التي وضعها في منزلة والدته… وهذا والله لايمكن ان يحدث إلا في بلد مثل السودان... وهذا لاشك متأصل في ونسيج وسماحة اهل السودان.
وهي تودعه قالت ”ام احمد“ يا احمد يا وليدي انا خالتك ام احمد ودا عنوان بيتنا في ”بحري“… كان احتجت لأي شيء تعال ماتخشى ياولدي.
يقول بادوري معلقا على موقف ”ام احمد“ كرم وشهامة وانسانية لابعدها انسانية؟؟ علمتني درسا جليلا وعظيما اعتز به الى هذا اليوم فقد استوحيت منه جل مواقفي في كثير من النواحي الأخلاقية والأنسانية عبر تجربتي في النضال.. وما لحق.
وبعد عشرة اعوام من ذلك الموقف وبعد ان اصبح بادوري مسئولا كبيرا وممثل التنظيم في اليمن وهو مارا بالسودان في طريقه الى الميدان طلب من سائقه ان يأخذه الى منزل ”ام احمد“ في بحري.
ولكن وللأسف الشديد صُدم بادوري بأن أم احمد قد توفيت قبل خمسة اعوام.. فحزن بادوري حزنا شديدا وكأنه فقد والدته.
وفي الأخير ونحن نتحدث عن السودان رأيت من المفيد ان اذكر ماقاله الكاتب الإرتري محمد اسماعيل هنقلا في مقارنة بين جاري ارتريا الرئيسيين حيث قال: ”لدينا جارنا في الجنوب (اثيوبيا) الذي لن نجد منه غير الغزوات والأطماع والأستعمار اما في الشمال (السودان) الذي لا نعرف منه - عبر التاريخ - غير الطيبة والتسامح والخير والعلم“.
هذا قليل من كثير عما حمله كتاب ”رحلة في الذاكرة“ عن سماحة وطيبة اهل السودان.
تـابـعـونـا... في الجزء الأخير بعنوان ”رفاق وملاحم ثم الفراق“ من كتاب ”رحلة في الذاكرة“ للأستاذ احمد طاهر بادوري.