قراءة في كتاب ارتريا رحلة في الذاكرة للإستاذ أحمد طاهر بادوري - الجزء الرابع

بقلم الأستاذ: إبراهيم محمدنور حاج - ملبورن، استراليا

نبدائها بحبيبنا ود شيخ.. قيح بحرمن بدير بحرنا… تاريخ لِشهد وعالم امرنا..

خارطة قصة كفاحنا المسلح لن تكون مكتملة مالم نتحدث عن الرعيل الأول من البحارة الأرتريين الذين سخروا عصارة خبراتهم ودرايتهم الفطرية بالبحر والإبحار والتنقل على عرض وطول البحر الأحمر لصالح القضية وهي في احلك الظروف بل وفي وضع تكون او لا تكون.

وعليه من المنطق بل من الواجب في سياق هذا الكتاب ان نخصص جزء خاص بالبحارة القدمى اي فرسان اليم كما يحلو لبادوري تسميتهم - لكي نسلط الضوء على الدور الهام والحاسم الذي قاموا به لنصرة قضيتهم وسط مخاطر العواصف الهائجة والأمواج المرعبة والشمس الحارقة والحيتان المفترسة من جانب والبحرية الأثيوبية المتسلطة على خطوط الملاحة والمراقبة لكل شاردة وواردة في البحر.

ولم تسمح له ابا طاهر نفسه ان يمرعلى الموضوع مرور الكرام لأن جلالة البحر وما يحويه من اسرار وكنوز يشكل جزأ لا يتجزاء من تركيبة وثقافة ابناء المنطقة بل وبينهما قصص وثوابت، عهود وتحالف، تتأزم احيانا العلاقات بينهما عندما تغدر وتُغَيب امواجه العاتية احيانا صيادا من القرية فتتفجر بينهما شلالات الجفا والعتاب ولكن سرعان ما تعود العلاقات الى مجاريها عندما يعود صياد آخر في وقت الظهيرة بهدايا البحر وقِفة (زنبيل) الصيد مملوئة بكميات من (عربي - بياض - شيجان - دوداف - باقا - قورقور - وبلم ..الخ) فتسود روح التسامح وتطوى الصفحة المؤلمة لتحل محلها صفحات مشرقة وافاق واسعة من التعاون والتحالف.

اذن ليس من المستغرب ان هب البحر وحشد امواجه لنصرة ونجدة حليفه فسهل له خطاً آمنا بين عدن ودنكاليا عام 1970 حتى يجد ذلك الحليف موطئ قدم يتصدى من خلاله للعدو الأصلي الذي استغل ظروف الحرب الأهلية لينفرد بالشعب الأعزل قتلا وحرقا وتنكيلا… ومن المهم ان نذكر هنا وفي سياق تاريخ الكفاح المسلح ان تلك القوى التي عبرت البحر ورست في دنكاليا عام 1970 كانت هي النواة للجيش الشعبي الذي دخل اسمرا عام 1991 حاملا راية العز والنصر.

وكما قال حافظ ابراهيم: انا البحر في احشائه الدر كامن..

فبينما عجزت البحرية الأثيوبية عن فهم واستيعاب اسرار البحر بالمقابل كان البحر وفن الملاحة بالنسبة للبحارى القدامى امثال العم ابراهيم هلال ومحمد احمد ناخوذة (الملقب باسكو دجاما) لم يجدوا اي صعوبة فصالوا وجالوا بطول البحر وعرضه بكل ثقة وإتقان مسترشدين بمواقع النجوم وتشكيلاته للوصول الى جهاتهم ومراسيهم… لأن الإبحاربالنسبة لهم هو قصة اجداد.. قصة تراث وثقافة وفن قبل ان يكون مهنة ومصدر رزق.

كما ذكرنا من قبل ان هذا الكتاب هو توثيق لمواقف وبطولات على مسيرة كفاحنا المسلح التي يفترض ان تُسطر وتورث لأجيال قادمة لتأخذ منها العِبر وتصبح نبراسا ومناراة يهتدون به عند التوهان في مفارق الطُرق… وليس بالضرورة في الأزمات، بل وفي زمن السلم.. نستلهم منها عِبر التضحية والصمود والمثابرة والعمل الجاد وعدم الإستسلام.

وقد وُفِق الأستاذ بادوري ايما توفيق في نفض الغبارعن الدورالهام للبحارة القدامى في مسيرة الكفاح المسلح الأرتري…وهذا جانب يجهله الكثير منا… فقد وضع استاذنا بادوري النُقط فوق الحروف فقد علمنا من خلال هذا الكتاب ان دور السفن والبحارة لم يكن اقل شائنا من دور الجمال والشاحنات.

وقد كانت اول مهمة رئيسية قام بها البحارة كانت عملية نقل حوالي عشرون من الفدائين الذين رسوا في جنوب دنكاليا عام 1970 وسيذكر التاريخ انها كانت بتموين واشرف الشهيد عثمان سبي شخصيا.

وقد اقتبست من الكتاب بعض المواقف لعلها تعطي القارئ فكرة عن عبقرية هؤلأ البحارة وعمق معرفتهم الفطرية بالملاحة دون الحوجة الى ادوات حديثة كالبوصلة وغيرها.

والحديث هنا للأستاذ بادوري:

كنت في متن الكاسر (اسم السفينة) في رحلة الى الميدان.. كان قائد الرحلة الربان الماهر المناضل محمد احمد ناخوذ (الملقب باسكو داجاما)... بعد الغروب كنا قد تجاوزنا باب المندب… وبعد تناول وجبة العشاء طلعت مع الربان الى غرفة قيادة السفينة نحتسي الشاي ونتبادل اطراف حديث الذكريات.. كان خلف المقود احد البحارة وقبل ان يركن للنوم وجه باسكو الزميل البحار المسك بالمقود وحدد له المسار لثلاثة ساعات.. ولكن بعد ساعة ونصف تقريبا قفذ باسكو من نومه مذعورا.. وبدأ ينظر في عتمة الليل الى النجوم في السماء.. ثم هرع الى غرفة القيادة ليجد البحار مستغرقا في نوم عميق.. كانت السفينة قد غيرت مسارها وانحرفت نحو 45 درجة.. وفورا أعاد الربان السفينة الى اتجاهها الصحيح.

وعندما سأله بادوري كيف عرفت ان السفينة قد انحرفت وانت غارق في النوم؟

رد باسكو: هذه خبرة مدرسة الحياة.. فأنا دائما انوم في مقدمة المركب كي لا يحدث ماحدث. هناك في جسد السفينة الأسفل ويمتد من المؤخرة الى المقدمة مانسميه الهراب.. وهو في تناسق مع مقدمة السفينة ومؤخرتها ويأخذها في الأتجاه الذي تحدده له… فلكل مسار تحدده انت للسفينة له ايقاع موسيقي.. فأذا تغير الإيقاع معنى ذلك انها باتت تنحرف.

الكتاب زاخر بمواقف كثيرة لهؤلاء الأبطال…

وقد استشهد عدد كبير من هؤلأ الأبطال وهم يؤدون رسالتهم نحو الوطن في اعماق البحر، وقد كانو رافدا مهما من روافد الثورة وكفاحها المسلح…

وهنا لا يسعنا إلا ان نحيي استاذنا احمد بادوري لهذا اللفتة وهذا العرفان بالجميل وهذا التنوير حول هذا التاريخ الجميل والمشرف والذي يجب ان يوثق ويورث للإجيال القادمة.

ونختتم حديثنا كما بدأناه: قيح بحر من بدير بحرنا... تاريخ لشهد وعالم امرنا.

تـابـعـونـا... في الجزء القادم

Top
X

Right Click

No Right Click