قراءة في كتاب ارتريا رحلة في الذاكرة للإستاذ أحمد طاهر بادوري - الجزء الثالث
بقلم الأستاذ: إبراهيم محمدنور حاج - ملبورن، استراليا
كما ذكرت في الجزء الثاني، سأخصص هذا الجزء للجوانب السياسية للكتاب..
وهنا لابد من الإشارة الى انني سوف احاول الفرز بين بادوري الثائر (تجربته الميدانية) وبادوري السياسي (آرائه وتقييمه للأحداث والأشخاص كما ورد في هذا الكتاب).
بادوري الثائر ومقاطعته كلية الطب في حلب والتحاقه بـ ”كلية الوطنية“ ملبيا نداء الوطن والتحاقه بالكفاح المسلح رغم المخاطر المحدقة، العدو من جانب والحروب الأهلية من جانب آخر، وايامه في الميدان محاربا وكادرا واعلاميا… ومعاشرته لبعض ابطال ورموز الثورة امثال الشهيد احمد هلال والمناضل احمد القيس والشهداء ابوبكرمحمد حسن وابراهيم عافة وغيرهم… هذه قصة سنتناولها في اجزاء قادمة.
اما في هذا الجزء الذي قلنا عنه ”سياسي“ فليس في الواقع سوى ملاحظات لن تخرج عن ما ذكر في إطار هذا الكتاب… ولم نأتي بحقيقة مغايرة او الرأي البديل.. بمعنى اسلوبنا سيكون مثل اسلوب سقراط اي اننا سندعي الجهل ولن نأتي بالحقيقة البديل وانما سنتحين فرصة حدوث تناقض - في رأينا - فننقض عليها وابرازها… وذلك من باب الإجتهاد ليس إلا.
ولابد من الإضافة هنا انه لو كان هذا الكتاب مجرد ارقام وحقائق جافة لما وجدنا فيه موطئ قدم لكي نقول رأينا… ولكن الأسلوب الأدبي والمفتوح الذي طُرح به ”رحلة في الذاكرة“ هو الذي شجعنا على هذه المداخلة.
نعتذر لهذه المقدمة الطويلة ”مملة؟“ والأن ندخل في الموضوع:
التبريرات لإبن الجنرال:
افرط الأستاذ بادوري في التبرير فيما كتبه عن الجنرال ”تدلا عقبيت“.. وبذلك فتح على نفسه باب المساومة… فأعمال الظلم والتعذيب والتنكيل التي مارسها الجنرال العميل بحق الوطنيين الأرتريين عندما كان المسئول الأول للشرطة في ارتريا وولائه المطلق والأعمى لهيلي سيلاسي هي اعمال اُرتُكبت في حق الشعب الأرتري عامة وليست شخصية وعليه الكاتب ليس ملزما بأن يُبرر لصديقه ابن الجنرال فيما قاله عن الجنرال كشخصية عامة، وكما قال الكاتب التاريخ لايرحم ولا مكان للعواطف والصداقات في هذا الصدد… والملاحظ ان الأستاذ بادوري ذهب بعيدا لطمأنة صديقه ابن الجنرال - فأستعان بصفحات من كتاب الأستاذ محمد سعيد ناود.
لأنه لو بدأت في تقديم التبريرات لكل شخص تناولت قريبا له سلبا في الكتاب قد تجد نفسك فتحت بابا واسع انت في غنى عنه.
قصة منكع:
تناول الأستاذ بادوري ”حركة منكع“ في سطرين او ثلاثة فاكتفى بالقول ان الموضوع معروف لدى الجميع ولا يحتاج الى تكرار.. ثم ذهب الى موضوع آخر.. في راينا ان هذا الموضوع غامض لدى الكثير من القراء فلم نقراء عنه في اي من ادبيات الجبهة الشعبية الرسمية او حتى في وسائل الإعلام الحكومية بعد الأستقلال… اذن كان من الأفضل عدم تناوله اصلا طالما ليس لدى الكاتب الإستعداد للخوض فيه... ونحن نُقدر يا اباطاهر !
دور الشهيد عثمان سبي:
في مسيرة الكتاب وعند وفاة الشهيد القائد عثمان صالح سبي افرد الأستاذ بادوري حوالي ثلاث صفحات احسن فيهم رثاء الفقيد فقد تحدث عن مناقب الشهيد ومحاسنه بعبارات جميلة ومعبرة فقد وصفه بانه كان وطنيا مخلصا لقضيته ولم تكن له اي انتماأت اسلامية او بعثية ولم تُفلح محاولات المخابرات الأجنبية لتجنيده… ونحن نتفق الى ما ذهب اليه الأخ بادوري تماما بل ونضيف انه ليس بمقدور اي شخص منصف ان يشكك في وطنية وتضحيات وعطاء الشهيد فالرجل كان قامة كبيرة ورقما صعبا في مسيرة الثورة الأرترية التي سخر لها كل مايملك لأنها كانت قضية آمن بها وناضل من اجلها حتى آخر يوم في حياته ولم يترك شيء لأبنائه بعد رحيله… واي حديث عن الثورة ألارترية يكون ناقصا ومجحفا مالم يُذكر فيه الشهيد سبي.. وهذا ابسط مانفعله له بعد ان رحل عن دنيانا الفانية شهيدا.. رحمه الله.
ولكن بالعودة الى الكتاب الملاحظ هنا هو ان الأستاذ بادوري وفي صفحات مضت كان قد هيئ القارئ على ان يكون الحكم النهائي على الشهيد سبي عكس ما خلص اليه الكاتب بعد الرحيل.
فمثلا نقراء في الكتاب انه عندما نصح الشهيد سبي المناضلان بادوري والشهيد احمد هلال وهما يستعدان لركوب السفينة في ميناء عدن متجهان الى دنكاليا لأول مرة عن طريق البحر وذلك عام 1970 قائلا ”انتما الأن مقدمان على مخاطرة كبرى في وقت وزمن عصيب.. اريد منكما ان تكونا متعقلين واوصيكما بالإبتعاد عن الإندفاع العاطفي… والعمل للحفاظ على وحدة الصفوف الذي بدونه لن ننتصر.. الخ“.
عقب بادوري عن تلك النصائح بقوله:
”فكم تمنينا فيما بعد لو ان عثمان كان القدوة في الحفاظ على وحدة الصفوف ولملمة الأطراف“ وموقف آخر يدين الشهيد سبي قدمه لنا الأخ بادوري في شكل بيان شمال بحري الثاني لقوات التحرير الشعبية (قيادة الميدان) بعد انفصال البعثة الخارجية بقيادة سبي حيث يقول البيان: ”يدين ويشجب تحركات وارتباطات العناصر والقوى الرجعية المرتبطة بالبعثة سابقا وبياناتها وذلك بحكم اعتبارها عقبة امام تطور مسيرة حركة الثورة الأرترية“.
ماعرفناه عن سبي من خلال هذا الكتاب قبل وبعد وفاته يمكن تشبيهه بوضع تلميذا امتحن في خمس مواد ورسب فيهم جميعا.. ثم نخلص بالقول الى ان التقدير النهائي لذلك الطالب كان جيدا جدا.
وقد استند الأستاذ بادوري في تقييمه النهائي للشهيد سبي على مبداء انساني وخلقي رائع وهو ”اذكروا محاسن موتاكم“ هذا شيء جميل ولكن ياحبذا لو ان استاذنا بادوري طبق ذلك المبداء التسامحي على الأخرين من امثال الشهيد القائد ادريس محمد آدم الذي نقل عنه بادوري حديثا كان قد قاله الشهيد ادريس محمد أدم في اجتماع في قناطر الخيرية في نهاية الستينيات.. فالمعروف ان الشهيد ادريس محمد آدم ترك البرلمان ومميزاته المادية وانحاز وناصر الثورة الأرترية بل كان من مؤسسيها وايضا لم يكن ذو توجه اسلامي.. ولم يكن بعثيا ولم يرتبط بمخابرات اجنبية… مثله في ذلك مثل الشهيد سبي.. فاين الإنصاف ياأبا طاهر ؟!
موقف بادوري من جبهة التحرير الأرترية:
في صفحة من الصفحات الأخيرة للكتاب يقول الأستاذ بادوري ”ومن الإنصاف ان اذكر ان جبهة التحرير الأرترية في هذه الفترة حررت ايضا مدينة اغوردات وتسني ومندفرا الى الغرب والجنوب الغربي وكانت لها قوات في الغرب من اسمرا“.
حقيقة فوجئت بذلك.. لأن كل ماقاله بادوري عن الجبهة حتى تلك اللحظة لم يخرج عن “اندحرت - اندثرت - انهزمت - لم تقم لها قائمة - تشتت اعضائها ايدي سباء ...الخ“.
الواضح ان الأستاذ بادوري يتحدث عن الجبهة من منظار تجربة الحروب الأهلية المريرة والمرفوضة من قبل الشعب الأرتري بأثره.
ولكن التنظيمين، الجبهة والشعبية، تجاوزا تلك المرحلة وابرمتا اتفاقيات وحدوية ودخلا في تنسيق عسكري وتفاهم سياسي بالرغم مع ان تلك الجهود الوطنية لم يكتب لها النجاح.
شخصيا كنت من ملتظمي جبهة التحرير.. واي خبر يتعلق بالوحدة او التنسيق مع الجبهة الشعيبة كان يقابل بالتصفيق والفرحة العارمة من قبل قواعد وجماهير جبهة التحرير الأرترية.
نعم بيان المؤتمر الوطني الأول الداعي الى التصفية كان قرارا جائرا وخاطاً ولم يكن له اي مبرر… وانني على يقين لو ان القائد حامد ادريس عواتي كان حاضرا في المؤتمر لتبرأ عنه.
وطالما تحدثنا عن الإنصاف.. فالجبهة يااستاذ بادوري لم تكن مجرد بندقية.. فالجبهة كان لها الباع والذراع في التوعية الوطنية وحشد الطاقات ضد الأستعمار وعملائه.. وكانت الجبهة هي النافذة التي اطل منها الكثير على لوحة حب الوطن التواق.
فقد لعبت الجبهة دورا مقدرا في مجال التعليم ومحو الأمية عبر الخدمة الوطنية لخريجي الثانويات.. وكثير ممن ابتعثتهم الجبهة وتخرجوا من الجامعات العربية نجدهم اليوم قد عادوا الى الوطن ويشاركون في مشاريع التنمية وبرامج اعادة البناء.
وكان للجبهة حضورا في مجلات الصحة بتقديم الرعاية الصحية للمواطنيين والمواشي والحفاظ على الثروة الحيوانية.. في المناطق المحررة.
وكيف ننسى العمليتين الجريئتين لإطلاق سراح السجناء الأرتريين التي نُفذت احداهما في سجن ”عدي خوالا“ بقيادة الشهيد البطل سعيد صالح والثانية في سجن ”سمبل“ تحت اشرف الشيهد البطل عبدالقادر رمضان.
وحتى في المجال الرياضي نجد ان الجبهة كانت رائدة فقد إحتنضت عمالقة الكرة الأتريين في السبعينيات من امثال اسماعيلو ويوهانس كركاس واحمد عبدالله وابهرهام وافورقي وغيرهم الذين تام ارسالهم العراق وخاضوا مباريات عكست الروح والأمكانات الرياضية للشعب الأرتري وقضيته العادلة.
اما في الفن فكانت الجبهة - جبهة عباي بعل طعوم طباي - مدرسة بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معنى. وقد حدثت غفزة نوعية للفن الأرتري الأصيل، فأحتضنت الجبهة كبار الفنانيين من امثال الأمين عبداللطيف وبرخت وظهايتو وحسين محمد علي وغيرهم.. وتم إنشاء فرقة التراث الشعبي التي جابت مناطق عديدة من العالم.
وكثير من من الكوادر الفنية والموسيقية والأدبية نجدها اليوم وهي تثري الساحة الفنية الأرترية بعد الأستقلال وكم اغاني الجبهة قد وجدت طريقها للتلفزيون الأرتري.. وقد نالت رضى واعجاب الجيل الحالي.
ومن الأغنيات الشهيرة للفنان حسين محمد علي من كلمات الشاعر الشهيد رمضان قبري:
انا قِدِم فرركو ديب ثورتجى تحابركو
وحويي ايي قل لأقمل كلاشنو كبا
اميي تعلل وتدحر فارحت هليت من لبا
واغنية بحادي مسكرم.. تاريخاويت علة.
وعلى راي الفنان الشعبي عبي عبدالله:
”اللي ما اتهاقيكوني كتهاقيكو... مالي امبل سلام حلفكينا“
في الحرب العالمية الأولى ابريل 1915 ارسل الأستراليين جيشا كبيرا لمناصرة الحلفاء بقيادة الأنجليز ضد الأتراك ولكنهم تعرضوا لهزيمة نكراء في موقعة ”غاليبولي“ من قبل جيش مصطفى كمال المتمركز، ذلك لسوء حظ الأستراليين أنهم اخطاؤ في التقديرات ورسوا في نقطة من الشاطيء لم تكن في الخطة اصلا.. فكان ماجرى.
المهم هنا انه كل عام يلتقي قدامى المحاربيين من الجانبين الأسترالي والتركي اولا للترحم على شهدائهم ثم ليعيدوا ذكرى معركة ”غاليبولي“ في مظهر من اجمل مظاهر الروح الأنسانية يتجاذبون فيه اطراف الحديث والذكريات،في مناسبة سنوية يحضرها كبار المسئولين من الجانبين ..ولازالت مقابرالأستراليين تصان وترعى من قبل الأتراك رغم انه في واقع الأمر لم يكن الأستراليين سوى غزاة.
نعم لابد من الإستفادة من اخطاء التاريخ حتى لاتتكرر ولكن ايضا لابد من تجاوزها خدمة للأجيال القادمة.. ومثل آخر نأخذ منه العبرة هو شعب السوداني الشقيق.. وكيف انهم تعاملوا مع المرحوم جعفر النميري اولا بالسماح له بالعودة من المنفى ثم الإشتراك في الانتخابات ثم اخيرا الوداع المهيب الذي تم به توديعه حكومة وشعبا الى مثواه الأخير وداعا يليق برئيس دولة... وهذه قمة التسامح..
وياحبذا لو ان استاذنا المناضل احمد بادوري عكس روح التسامح والترفع في كتاباته القادمة.. حتى نكون جميعنا قدوة للأجيال القادمة.
دور المرأة في الكفاح المسلح.. وسمح القول من خشم سيدو:
خصص الكاتب باب بابا كاملا - حوالي ستون صفحة - حول نضالات المرأة الأرترية في فترة الكفاح المسلح وقد ابدع الأستاذ بادوري في تعريف القارئ بدور المرأة الفعال كما قام مشكورا بذكرالأسماء اللامعة من المناضلات في فترة الكفاح المسلح واجمل ما في الموضوع قد تركهن يتحدثن عن تجربتهن بلغتهن واسلوبهن الخاص.. ولم يقل دورهن عن دور الرجل بأي حال من الأحوال.. الملاحظ هنا ايضاعندما ذكرالأستاذ بادوري اسماء المناضلات القدامى تجاهل مناضلات الجبهة واكتفى بالقول بانه وفي المنطقة الثانية.
كان بعض المناضلات على الأقل ذكر اسم الفدائىية ”سعدية تسفو“ والمناضلة امنة ملكين (بالمناسبة كرمها الرئيس اسياس) وايضا زهرة جابر التي تعمل (مع الأستاذ بادوري) حاليا في وزارة الخارجية.. الإنصاف يا ابا طاهر !!.
تـابـعـونـا... في الجزء القادم