القضية الارترية ١٩٤١-١٩٦٣ الجزء الخامس والأخير

بقلم الأستاذ: نجوسى ايلى  تأليف السفير: زودى ريتا

بعد عشر سنوات من القاء هذه الكلمات شكلت الدول الأفريقية أكبر تجمع قاري في الأمم المتحدة،

وهي حقيقة قائمة ولو بعلاتها حتى اليوم. كما استدعت تقلبات سياسة الحرب الباردة الدولية تحالفات قوى دولية وتكتلت أفريقيا وآسيا و أمريكا اللاتينية العالم الثالث و / أو دول عدم الانحياز - واستمرت فى نفس التكتلات على الاقل خلال العقود الأربعة التالية.

ولا جدوى من اعادة ترتيب او صياغة مختلف الاقتراحات والمطالبات و المطالبات المضادة التى طرحت في قاعات الأمم المتحدة بشأن التخلص من المستعمرات الإيطالية السابقة. حيث التكرار يثير الاشمئزاز والتقلبات فى المواقف رأسا على عقب تصيب بالدوار. مرة اخرى ما يهم فى نهاية المطاف ليس ما طرحه الوفود حسنى او سيئى النيات ولكن ما تم اقراره بأغلبية الأصوات الحاضرة. الدروس المسفادة للاثيوبيين والارتريين العقلاء من كل هذاهو الادراك لمدى افساد الدول حقوق وسلامة واحتياجات الآخرين وفى الغالب مع الافلات من المسائلة والعقاب.

لا توجد دولة تتحمل او ترحب او تتقبل عن طيب خاطر العديد من المقترحات بشأن المستوطنات الإقليمية المنتشرة فى الأمم المتحدة في ذلك الوقت. ونظرا لتجارب اثيوبيا المريرة مع عصبة الامم المنحلة ومع بعض الحكومات أثناء الغزو الفاشي عام 1930 - بجانب كونها دولة أفريقية - كان لزاما عليها ولا زال الا تنخدع بالقانون والعدالة والانصاف الدولى.

هذا، و يمكن الإشارة الى حاشية تاريخية لتلك المداولات في الأمم المتحدة. الحدث الخاطف من الذاكرة كان يعرف باسم خطة او صيغة ”بيفن سفورزا بشأن التخلص من المستعمرات الإيطالية السابقة. التقىا وزيرى خارجية بريطانيا، أرنست بيفن وإيطاليا، الكونت سفورزا في لندن و توصلا الى اتفاق تم اعتماده ايضا من قبل حكومة الولايات المتحدة. وفيما يخص ارتريا، كان يفيد اقتراحهم فى جوهره بضم غرب إرتريا إلى السودان و ضم ما تبقى الى اثيوبيا مع شروط متصلةه وهى فى هذه الحالة:-

أ) ضمان حماية حقوق الايطاليين الذين يعيشون في إرتريا،

ب) ويما أن لدى مدينتي أسمرة و مصوع أعلى نسبة من السكان الإيطاليين، لهم وضع قانونى خاص على ان يتم صياغة مواده من قبل الحكومة الإيطالية والأمم المتحدة مع بريطانيا التي تتحمل مسؤوليات المراقبة.

وفي مسألة ذات صلة، دعا الاقتراح أيضا اعادة الصومال الى الوصاية الايطالية لمدة عشر سنوات. ما كان واضحا بصورة جلية ومباشرة للمراقب هو مدى سرعة التغيرات المفاجئة في مواقف ايطاليا واستدارتها عكس اتجاهها الدائم بشأن القضية الارترية مما اصاب مؤيديها بالزهول والذبول. كما أخذ الاقتراح اثيوبيا على حين غرة وفى واقع الأمر كان اعادة تدوير لاقتراح بريطانى سابق مع شبك بعض المصالح التى تهم ايطاليا. هنا وجدت اثيوبيا نفسها فى حيرة بين ما إذا كان ينبغي عليها مواصلة جهودها لاستعادة إرتريا بالكامل دون قيد او شرط أويجدر بها اعطاء اعتبار للسيولة السياسة الدولية المرعية حتى تلك اللحظة - وذلك بتطبيق المثل القائل ” مالم يدرك جله لا يترك كله” والاستعداد للاستفادة باكبر قدر ممكن من خطة بيفن سفورزا - في حال حصولها على تأييد الاغلبية في الأمم المتحدة. كما كانت خطة بريطانيا وإيطاليا أيضا حزمة معقدة تتشابك فيها القرارات بشأن ليبيا وإريتريا و الصومال بدلا من التعامل مع كل كيان على حده وبالتالى يربك التصويت عليها. لقد بعث وزير الخارجية اكليلو رساالة عاجلة إلى أديس أبابا للحصول على توجيه الإمبراطور في هذا الشأن متضمنة توصيته بقبول إثيوبيا مؤقتا صيغة بيفن سفورزا و تجنب احتمال عدم استرداد إرتريا. وكان عامل الوقت عاملا جوهريا.

بعد مشاورات مع مستشاريه والمناقشات المتانية والرصينه مع السفير البريطاني في أديس أبابا، أرسل الإمبراطور إلى وزير خارجيته ردا من قبيل نعم، ولكن اى، استجابة يكتنفها الغموض مؤكدا بأنه لو لم يكن ضغط الظروف السائدة فانه لا يسعده القبول بخطة بيفن سفورزا. بينما كان السيد اكليلوا يفكر فى فك رموز اوامرالملك للانطلاق، فانه حصل على رسالة أكثر صراحة وتفسيرا لرسالة الإمبراطور من حليفه، وزير القلم. كان الإمبراطور على ما يبدو أكثر قلقا الآن بشأن عودة إيطاليا الى الصومال ولو لفترة محددة من الزمن، الأمر الذي تداوله مع السفير البريطاني. بعد مفاوضات مكثفة فيها جانب كبير من الاثارة وبعد ان تقاذفتها اللجان فى النهاية يفيد المؤلف (مؤلف الكتاب) قارئه بان خطة بيفن سفورزا فشلت في الاقرار بفارق صوت واحد واختفت من شاشة رادار التاريخ فى 17 مايوا 1949م، ومرة ​​أخرى ثم تم تأجيل الأمر كله على أن يستأنف في اللجان الرئيسة والفرعية وفي جلسات الجمعية العامة الخامسة المقرر افتتاحه في شهر سبتمبر 1950.

اطلقت الحكومة الإيطالية هجوم سياسي على نطاق واسع في الخارج، خاصة في أمريكا اللاتينية. على الرغم من ان إثيوبيا لا يمكنها مجارات مستوى الحملات الإيطالية، كان الاعتقاد السائد ضرورة أن يقوم وفد حسن نوايا اثيوبى بانشاء قنوات اتصال على الاقل مع بعض دول امريكا اللاتينية عشية اجتماع الجمعية العامة الوشيك. عليه، تحرك السيد اكليلوا واثنين من زملائه - السيد تسفاي تجن و السيد امرؤ زليقى لبعض الوقت فى البرازيل، وشيلي، و فنزويلا مع الميداليات للمسؤولين و الرسائل من الإمبراطور لرؤساء الدول. وزير خارجية البراويل انذاك السيد هرنانديز، ذكر للمبعوثين الاثيوبيين بانه عندما كان شابا كان معجبا بالإمبراطور منليك بسبب معركة عدوة، و أكد لهم أن البرازيل تفضل موقف إثيوبيا بشأن التخلص من المستعمرات الايطالية السابقة. لذا استأهل ميدالية منليك التى اهديت له وكان يستعرضها باعتزاز. ومع ذلك، كما اتضح فيما بعد، كل تلك المجاملات الدبلوماسية في ريو دي جانيرو لم تاتى بالثمار التى توقعتها إثيوبيا على الأقل في المناقشات المبكر ه.

كانت المداولات فى الجمعية العامة للامم المتحدة مليئة بالنقاشات الحامية والخطب النارية والبلاغة الحماسية، وكان زعماء عصابة معارضى مطالبة اثيوبيا بارتريا جوسى ارس من الارجنتين والباكستانى ظفرالله خان واللذان كانا يتحركان علنا ويتجمهران لدى المندوب الايطالى فى الامم المتحدة. ان معظم اعضاء الوفد الاثيوبى لجلسات الامم المتحدة هذة كانوا من اصول ارترية بما فيهم البلاتا/ افريم تولدى مدهن والبلاتا/داويت عقبى ازقى والسيد/ جويتؤوم بيطروس وبلاتن جيتا لورينزوا تأزاز والسيد جبر مسقل كفليزقى والسيد تدلا بايروا وفى وقت لاحق الدكتور تسفاى جبريزقى.

كان النقاش في لجان الجمعية العامة للأمم المتحدة مفتوحا و ديمقراطيا يسعى إلى اتاحة الفرص لكافة اطراف القضايا المطروحة. لذا، دعي ممثلو الجماعات والأحزاب والتجمعات الارترية لطرح قضاياهم في هذه المداولات جنبا إلى جنب مع الإثيوبيين، وبطبيعة الحال مع الاطراف الايطالية.

احد اوائل المتحدثين فى جلسات الامم المتحدة هذه كان الحرباء (المتلون) السيد إبراهيم سلطان، الذي كان من أوائل أعضاء الحزب الاتحادي الموالى لاثيوبا فى إرتريا. ثم تحول إلى حزب الرابطة الإسلامية وتحول مرة اخرى ليصبح واجهة كتلة استقلال مؤيدى ايطاليا- كل ذلك فى فترة وجيزة من الزمن. ه. وقد لوحظ سلوك التخبط هذا في عدد غير قليل من علياء القوم فى إرتريا. وقد تم تمويله وتوجيهه (يمكننى القول توجيها سيئا) من قبل إيطاليا في مداولات اللجنة الفرعية للأمم المتحدة. انه القى كلاما لا بفقهه وربما كانت الكلمة معدة له مسبقا. ومن ضمن ما ذكر ان ”ارتريا لم تكن على الاطلاق جزءا من اثيوبيا“ ومنذ القرن الثامن كانت تحت حكم السلالة العباسىة. ولكن عند الاستجواب لم يتمكن من الرد عن سؤاله بذكر اسم اى من الخلفاء الذين حكموا (ارتريا) لم يذكر ماذا كانت تسمى المنطقة عندئذ. ايضا، لقد سبق وزعم السيد ابراهيم سلطان فى اجتماع سابق بان عضوية حزب الرابطة الاسلامية الذى كان يمثله انذاك بلغت 925000 عضوا.

و الآن ذكر ارقاما مؤداها بأن عدد الأعضاء المسجلين في حزبه الجدديد مؤيدى ايطاليا هو 1338000. وكانت المشكلة بانه ادعى رقما لعضوية الحزب يتجاوز التعداد الكلى لسكان ارتريا والذى قدر عندئذ بحوالى 1000250. ولقد تصدى له اعضاء الوفد الاثيوبى المنحدرين من اصول ارتريا بفضحه اما م المشاركين فى المداولات والسيد ابراهيم سلطان غير عابئ بما تقدم وبكل ثبات تحدث عن شئ يصرف الانتباه فى المناقشات. وقال عضو الوفد الاثيوبي ساخرا بانه على عكس السيد ابراهيم الذي كان أولا من مرتزقة البريطانيين ومن ثم الإيطاليين فان الارتريين أعضاء الوفد الإثيوبي لا يمكن ان يساوموا على التاريخ الاثيوبي و سلامتها. ونقل عنه بانه اجاب ”هذا هو ما تعتقده انت ولكننا نعلم بأنه عندما يتعلق الأمر باستقلال إرتريا فقلوبهم معنا“.

وكانت فكرة الفيدرالية بين اثيوببا وارتريا قد طرحت خلال هذه المداولات المبكرة ليس من قبل شعوب القرن الافريقى ولكن من طرف الولايات المتحدة. ومع ذلك، كانت الوفود على ما يبدو غير مستعد لذلك، وبالتالى كان يتم احباطها فى مستوى اللجان الفرعية. وعوضا عن ذلك، تم الموافقة فى دورة عام 1949 للجمعية العامة للامم المتحدة ب 47 صوتا (من أصل 59 الأعضاء الحاضرين) على أن تحصل ليبيا على الاستقلال فالفورى، وأنه وينبغي ان تبقى الصوماال تحت ادرة ايطاليا بموجب وصاية الأمم المتحدة لمدة عشر سنوات، وبعدها تحصل على استقلالها. مرة أخرى، يخضع مستقبل ارتريا لتقصى حقائق وتأخير اّخر حيث قررت الامم المتحدة ارسال لجنة تقصى حقائق من 5 اعضاء الى ارتريا للتحقق من رغبات واهتمامات الناس هناك، وتقدم تقريرها للجمعية خلال عام. وكان أعضاء اللجنة من بورما والنرويج وجنوب أفريقيا وغواتيمالا و الباكستان. من هؤلاء الخمسة، كان موقف باكستان المعادى لاثيوبيا شديد الوضوج للجميع، وفي ذلك الوقت، كان ينظر الى غواتيمالا كوكيل لإيطاليا في الأمم المتحدة. ورات إثيوبيا فى ذلك ضربة مزدوجة لحقوقها ومصالحها الحيوية.

لم يخفى وزير الخارجية اكليلوا ضيقه من هذه الضربة القاسية التى تعرضت لها بلاده و وقال امام الجمعية إن ”العزاء الوحيد لإثيوبيا هو عدم اختيار إيطاليا بالاسم عضوا فى اللجنة. نحن نقبل قراركم مع تحفظاتنا الشديدة“ وكما يشير المؤلف زودى كان الايطاليين على النقيض من ذلك مبتهجين بالنتيجة. على الرغم من أن إيطاليا قد خرجت لتوها من الحرب العالمية الثانية كاحدى الدول المارقة والمجرمة ولم تكن حتى عضوا في الأمم المتحدة عندئذ، ولكن كونها دولة أوروبية وجزء من عالم اعترافى أكبر امريكى - اروبى كانت تسدد حصص المساهمين. من ناحية أخرى، كانت اثيوبيا محشورة بين اروبا وأمريكا من جانب وبعض الدول العربية من جانب اّخر، وبالتأكيد. بعد أن غرست مخالبها على الصومال من الباب الخلفي للأمم المتحدة، اظهرت ايطاليا “ما بعد الفاشية لمحة من طابعها الفاشى الحقيقى المحبط فى تسوية (بالاحرى عدم تسوية) مسألة الحدود بين الصومال القادم (بعد الاستقلال) واثيوبيا 5.

وضع وزير الخارجية أكليلوا تقريرا مقتضبا جدا و حزينا الى الامبراطور موضحا فيه بأنه مثلما كان الحال مع عصبة الأمم، لا زالت السياسة الدولية تميل لصالح مصالح الدول والتكتلات القوية. واضاف بان الدبلوماسيين الأميريكان والفرنسيين حاولوا تهدئته بقولهم انه فقط تم تأجيل استعادة اثيوبيا لارتريا (فى نهاية المطاف باى شكل من الاشكال) لمدة عام آخر. وابلغ الإمبراطور بان رده المهذب لهؤلاء المتعاطفين كان بانه ربما لديهم عصا سحرية تمكنهم من التنبؤ بما يخبئه المستقبل في هذه المسألة اما بالنسبة لاثيوبيا فانها لا تملك اى خيار الا الانتظار لترى النتائج عند حدوثها.

على الفور عقد الإمبراطوراجتماع مجلسه الأعلى للدولة ضم فى هذا الوقت ولي العهد الأمير أسفاوسن والأمير ميكونين وصاحب السمو رأس كاسا هايلو ورئيس الوزراء بتودد ميكونين اندالكاتشوو ووزير الداخلية رأس ابيبي ارجاى ووزير العدل والقلم وولد جيورجيس وولد يوهنس ووزيره المساعد السيد جبرهوت انجداوورق، مرة أخرى يقدم لنا المؤلف زودى لوحة غنية ومذهلة من التبادل الحر والصريح لوجهات النظر بين المؤمنين في هذه القضايا. وبعد أن استمع الامبراطور إلى الجميع بصبر واناة انضم للمناقشة بتلخيص ما استمع اليه وإضافة ما تبناه عن جوانب من مرئيات حاشيته. ثم بعد ذلك اعتمد برقية تصالحية محكمة صيغت بعناية موجهه للامم المتحدة تبين وجه التشابه بين ما تقوم به الأمم المتحدة تجاه اثيوبا في عام 1940 إلى ما فعلته عصبة الأمم في الثلاثينيات من القرن.

وانه كان مستاء ا بصفة خاصة حيال قرار الأمم المتحدة القاسي بعودة إيطاليا إلى الصومال وهى احدى قواعدها التى انطلقت منها لغزو بلاده في 1935-1936. وعصى على الاثيوبيين فهم كيف يمكن للمجتمع الدولى ان يرسل من جديد دولة معتدية، والتى لم تكن حتى عضوا في الأمم المتحدة، إلى احد المواقع الذى غزت منه بلادنا قبل وقت بالكاد يصل 15 سنة.. واختتم الإمبراطور رسالته المعبرة بوضوح الى الأمم المتحدة بالصيغة التالية: إن السعي الضيق وراء المصالح الصغيرة بين (بعض) أعضاء الأمم المتحدة في كثير من الأحيان اصبح معاديا لتحقيق العدالة للجميع. ارجوا ان يمتد عمرى بما يكفي لرؤية اليوم الذي تكشف فيه حقيقة كل التحيزات المستترة الآن.

واختتم الإمبراطور رسالته المعبرة بوضوح الى الأمم المتحدة بالصيغة التالية: إن السعي الضيق وراء المصالح الصغيرة بين (بعض) أعضاء الأمم المتحدة في كثير من الأحيان اصبح معاديا لتحقيق العدالة للجميع. ارجوا ان يمتد عمرى بما يكفي لرؤية اليوم الذي تكشف فيه حقيقة كل التحيزا ت المستترة الآن.

Top
X

Right Click

No Right Click