القضية الارترية ١٩٤١-١٩٦٣ الجزء الرابع
بقلم الأستاذ: نجوسى ايلى تأليف السفير: زودى ريتا
أمضت لجنة تقصى الحقائق المنتدبة من الدول الكبرى الاربع سبعة اشهر فى ارتريا اجرت خلالها
مشاورات واسعة النطاق مع الاحزاب والجماعات والشيوخ وممثلى المجتمع وذلك للوقوف على التطلعات والرغبات السياسية للشعب الارتري. وفى نهاية المطاف كان يبدوا التوافق على انه على الاقل نصف الشعب يفضل الانضمام الى اثيوبيا والاغلبية من الشعب لم ترغب فى عود ة الايطاليين الى ارتريا. ومع ذلك لم تحسم لجنة تقصى الحقائق امر مستقبل المنطقة لاسباب تتعلق بالتطورات فى ايطاليا اكثر مما كان يدور فى ارتريا بالذات. لقد فاز فى الانتخابات الايطالية الحزب الديمقراطى المسيحى مما اسعد بعض (البريطانيين والامريكان)وليس الاتحاد السوفيتى، اما فرنسا فبدأت تغرد خارج السرب وهى الصفة التى لازمتها بشكل عام فى السياسة الدولية الى يومنا هذا.
لذا تم احالة ملف حل مشكلة المستعمرات الايطالية السابقة الى الامم المتحدة، والمؤلف زودى يشير فى ملاحظاته الختامية بهذا الصدد بان الطريقة التى عولجت بها (او اخفق فى معاجة) مجمل الامور تبين كيف ان: ”التحكيم القانونى و السياسة عنصران لا يتوافقان لان فى التحكيم جمع واحدا ذائد واحد يساوى اثنان ولكن فى السياسة ربما تكون النتجة واحد ونصف مثلا. لذا كان فى امكان الدول الاربع التوصل الى نوع من القرار السياسى بشأن المستعمرات الايطالية السابقة فى عام 1945 عندما كان شعورهم بالتوافق أفضل بكثير. ولكنهم اخفقوا في التوصل الى اتفاق (حنى نهاية 1948) بالمماطلة بحثا عى التوصل الى نوع من التحكيم السياسى بلباس ديمقراطى بشان المستعمرات الايطالية السابقة حيث كانت المصالح السياسية لدولة كل منهما أكثر أهمية في مداولاتهم عن احتياجات ورغبات الشعوب في المستعمرات السابقة. ”وعوضا عن ذلك، احالت اللجنة اتحاذ القرار الى الأمم المتحدة وسلمتها أكوام من الوثائق“.
وهكذا، مرة أخرى تم دفع موضوع التخلص من المستعمرات الإيطالية السابقة الى هيئة أخرى، اى الأمم المتحدة الوليدة، للتعامل مع الموضوع. وقد تم تناول الموضوع فى الدورة الثانية للجمعية العامة الثالثة، الذي افتتح يوم 6 أبريل 1949م. واوضحت الدول الاربع مواقفها حيال كيفية تسوية المستعمرات فى كلماتها الافتتاحية. وكانت الخطط الأمريكية والبريطانية عن ارتريا متطابقة تقريبا من حيث أنها فضلت ضم ارتريا الغربية و الى حد كبير المسلمة الى مستعمرتهم السودان، وضم باقى الاراضى الى إثيوبيا. ولكن، أضاف البريطانيون بأن إثيوبيا تستحق الحصول على المنطقة الشرقية من ارتريا كتعويض عن تحملها أضرار الحرب. واعرب وزير الخارجية الاثيوبى عن امتعاضه من التفضل بالمنة فى خطاب المندوب البريطاني، السيد هيكتور ماكنيل. من وجهة نظر اثيوبيا القضية المطروحة هى كيفية لم شمل الأراضي التى اقتطعت منها بعصابة استعمارية في المقام الأول. ولكن هذه الواقعة العادية سوقت ككبوة ديبلوماسية من قبل البريطانيين واضرت على الأقل مؤقتا بمكانة السيد اكليلوا المفضله لدى الإمبراطور.
كان يسود علاقات الامبراطور ببريطانيا بعض التوتر في السنوات الأولى بعد استعاد ته للعرش في أديس أبابا. ويعود ذلك الى بواقى المصالح البريطانية في ممارسة السيادة الاستعمارية على أجزاء أو كل البلاد لبعض الوقت. ومع ذلك، ظل الإمبراطور ممتنا ل لضيافته فى منفاه المؤقت في باث، إنجلترا 1936-1941، وللمساعدة البريطانية للوطنيين (المناضلين) الاثيوبين في عمليات التطهير النهائية لتخليص بلاده من الغزوالفاشى و كذلك عن مرافقته فى موكب العودة إلى عاصمته في عام 1941. وكان هناك أيضا عامل آخر حدث فى ايام المواجهات الحامية تلك فى أوروبا ونيويورك فى المداولات حول مستقبل ارتريا عندها كان الحصول على معلومات حول التطورات أمرا حيويا للإمبراطور. وكان السفير البريطاني في أديس أبابا يتمتع بسرعة الحصول على المعلومة المباشرة، وكان غالبا ما يقدم بعض المعلومات للملك (بعد فحصها وتقنينها بطبيعة الحال) وذلك قبل وصول تقارير وزيرخارجيته، اكليلوا، نظرا لبطئ إجراءات ارسال البرقيات و فك رموزها.وكان الامبراطور يقدر هذه الخدمة (من السفير).
وفي هذا الصدد،كان الامبراطور يحصل على النسخة البريطانية عن السجال الدبلوماسي بين وزير الخارجية اكليلوا والوفد البريطاني في الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل استلامه لتقرير السيد اكليلوا. فى الوقت الذى كانت تجرى فيه المداولات في نيويورك، كانت هناك ايضا جلسات إدارة الأزمات الملكية تجري في أديس أبابا على الاخفاقات الدبلوماسية المتصورة بين الوفديين الإثيوبي والبريطانى. وان التفاصيل التى سردها المؤلف عن المد اولات في البلاط الملكي تعتبر رائعة وتثقيفية حيث تعطى القارئ لمحة نادرة حول كيفية ادارة العاهل الإثيوبى المحاط بالكثير من الوجاهة والمراسم والسرية لاعماله من وراء الكواليس.
لقد شهدت مداولات القصر وزير القلم، أتو ولد جيورجيس ولد يوهانيس الذي كان مؤيدا قويا لوزير الخارجية يوا جه بشدة أتو (السيد) تيفيرا وورق، السكرتير الخاص للإمبراطور، الذي اشتهر عنه محاباته لبريطانيا والذى كان قد اقترح شفهيا للامبراطور بان يعتذر وزير الخارجية للمندوب البريطانى لدى الامم المتحدة عن تجرأ ه على انتقاد السياسة البريطانية في ارتريا. فى المقابل دا فع وزير القلم عن تصرفات وزير الخارجية في الأمم المتحدة بقوة ردا على دعوة السكرتير الخاص بالاعتذار. وبعد سماع الطرفين، أرسل الإمبراطور مذكرة إلى وزير الخارجية اكليلوا مؤكدا له أنه موافق على تصريفه للامور فى الامم المتحدة نيابة عن البلد (وبطبيعة الحال، نيابة عن الإمبراطور) وأنه لم يتخطى حدود السلطات المخولة له. وانه ينبغي عليه ان يتستمر على هذا المنوال واثقا بان له الثقة الملكية لاتخاذ القرارات المناسبة. ثم أضاف الإمبراطور: وأثناء القيام بذلك… ”يجب عليك التأكد من أنه أثناء مرافعاتك نيابة عن المصلحة الوطنية في إثيوبيا اهمية اعلام البريطانيين بتقديرنا وتقدير حكومتنا لهم. وبقدرما اوكلنا اليك من مسؤوليات جسيمة فاننا نبتهل الى الله ان يوفقك فى تحقيق رغباتنا“.
ولقد فرح السيد اكليلوا لحصوله على هذه الموافقة الملكية على مساعيه. كما كتب اليه وزير القلم وكذلك شقيقه مكونن هبتى وولد اسمى ايات التبريكات والتشجيع..
وفي انتظار رد من القصر في أديس أبابا انقطع عمل وزير الخارجية في ابريل نيسان عام 1949 فى حين استمرت اللجنة الأولى للجمعية العامة فى تداولها بشأن التخلص من المستعمرات الإيطالية السابقة. وبما ان ايطاليا لم تكن عضوا في الأمم المتحدة حتى عام 1955، كانت تتصرف كما لو أنها صاحبة المنظمة. وكان ممثل إيطاليا في هذا اللقاء الخطيب المفوه الكونت كارلو سفورزا ذو السيرة الذاتية المناوئة للفاشية. غير انه بالنسبة لوزير الخارجية الاثيوبي وزملاؤه، فان هجمات سفورزا الافتتاحية عن ارتريا واثيوبيا لا تميزه عن اسلافه الفاشيين الذين يعرفونهم حق المعرفة. اجمالا قال الكونت ان الجمهورية الإيطالية الجديدة ليست مسؤولة عن أي أضرار تسببت بها الحكومة الفاشية السابقة.
وامعانا فى نكأ الجراح أعلن أن ”ارتريا لم تكن ابدا تأريخيا جزءا من إثيوبيا“ وأضاف أيضا أنه ما لم تتم عودة إيطاليا الى ارتريا ستنهار كافة برامج ”التنمية” التي أطلقتها إيطاليا هناك وسيصبح مصير 30000 الفا من الايطاليين الاقحاح والمولدين هناك فى خطر. وكان هذا تجاوزا لا بحتمل بالنسبة للسيد اكليلوا فرد على ذلك بهجوم لازع منتقد ما احدثه الفاشيون فى افريقيا وبوجه خاص فى اثيوبيا. وكيف ان الحكومة الايطالية ما بعد الفاشية تحاكى سابقتها فى تشويه تأريخ منطقة القرن الافريقى والروابط ما بين الشعب الاثيوبى بما فيهم من فى ارتريا. ومن اجل هامش تاريخى مفيد فى هذه الاونة ضعنا نقفذ بمراجعتنا هذه الى العام 1960 لنستشهد بفقرة من العمل الذى قام به الدكتور امارى تكلى والذى اصبح المفوض الارترى للخيار ”بين الحرية والعبودية“ اى ”استفتاء“ عام 1993. وفى موقف (تجسيد) سابق له فال انه كتب اطروحة دكتوراه لجامعة دنفر عام 1964 بعنوان ”انشاء الفيدرالية الاثيوبية الارترية“: دراسة حالة العلاقات الد ولية فى فترة مابعد الحرب (1945-1950) وقال فيها:
”هل كانت ارتريا جزءا من إثيوبيا ؟ كان هذا هو السؤال المطروح في صدر الفصل. و كان واضحا من المسح اعلاه بان الذين قالوا أن ارتريا لم تكن اطلاقا جزءا من إثيوبيا إما انهم يجهلون تأريخ المنطقة او ببساطة يريدون مراجعته وتعديله او اسوأ من ذلك يستدعون ببساطة نسخة مخففة من طرح السينيور موسوليني الفاشي حول طبيعة الدولة الإثيوبية“.
وهكذا كان في الحقيقة الرأي الفردى والجماعى السائد لدى اعضاء الوفد الاثيوبي ذات الاصول الارترية فى الامم المتحدة فى الاربعينيات والذى تم التعبير عنه باسالييب ودرجات متباينة.. حتى بعضهم اعلن باستغراب ”إذا لم نكن نحن اثيوبيون فلا وجود لاثيوبيين اصلا“. ولهذا انشأ العدبد من الارتريين حركة الوحدويين بهتافات مدوية تدعوا بوضوح ”اثيوبيا أو الموت“ في ذلك الوقت. وان حكومة جيجاسبيرى اليطالية المخزية في الواقع ضاعفت من حملتها لاستعادة مستعمراتها السابقة بانفاقها ملايين من الليرات لشراء الاتباع فضلا عن تجنيد الدعم الدولي في الأمم المتحدة. واستهدفت بوجه خاص دول أمريكا اللاتينية وغيرها من البلدان التى تهيمن عليها الكاثوليكيية بما فى ذلك الولايات المتحدة الامريكية والتى كان فيها عدد لا بأس به من السكان الايطاليين المهاجريين. وغني عن القول، بان اثيوبيا كانت مغلولة اليدين فى الجانبيين لتشكل تحديا امام الايطاليين.
وبحلول عام (1949) كانت أكبر كتلة من الدول في الأمم المتحدة هى أمريكا اللاتينية، ويكاد كل منهم يؤيد الموقف الايطالي الذى اعاد المطالبة بنفس المستعمرات التى تخلت عنها ايطاليا في معاهدة السلام لعام 1947. لقد أعرب وزير الخارجية اكليلوا منزعجا وساخطا من عقلية التكتل الاعمى هذه اعرب عن اتهام (لوم) شديد اللهجة ضد موقف دول امريكا اللاتينية القاسي و الضارة اوالموالي لايطاليا - و بالفعل مناوء لأفريقيا - الذى ابدته فى الامم المتحدة. وفي المقتطفات الواسعة من خطاباته في الأمم المتحدة عن القضية الإريترية، قام وزير الخارجية اكليلوا بالتداخل الساخط ولكن أيضا التنبوئى التالي ”اود ان اغتنم هذه المناسبة لانقل بشكل جدى الى اصدقائى وفود امريكا اللاتينية - وبالذات مندوب الارجنتين - أمر هام للغاية. اليوم بلدى جنبا الى جنب مع لايبيريا ومصر تراقب بعناية العصابة التى شكلتموها مع ايطاليا لايذاء الشعوب الافريقية، وليس لدينا اى شك فى انه قريبا جدا سوف يزداد عدد الدول الافريقية الثلاثة هنا الى عشرة اضعاف لنأخذ مقاعدنا المستحقة فى الامم المتحدة وليس لدى اى شك اننا خلافا لكم سوف تتاح لنا الفرصة للتعبير عن دعمنا للسلم العالمى والعدالة الحقة“.