رغوة سوداء لحجي جابر.. مآس أريترية عابرة للأمكنة والأزمنة لا تنتهي في القدس
بقلم الأستاذة: بديعة زيدان المصدر: جريدة الايام
يقدّم الروائي الأريتري حجي جابر، في روايته الأخيرة "رغوة سوداء"، الصادرة عن دار التنوير للطباعة والنشر، حكاية ذلك الصغير
الذي ولد بالميدان لأبوين مجهولي الهوية تحت اسم "أدال" كمثيرين من الأطفال الذين يحملون هذا الاسم، هو يكون عمره في السابعة عشرة عند إعلان استقلال البلاد في العام 1994، وهو أيضاً الباحث الدائم كغيره من الأريتريين عن طوق نجاة من محطات الموت المتكررة، في رحلة هرب مستمرة من الفقر المدقع والتجنيد الإجباري الكارثي والتعذيب، في حياة أشبه بحياة العبودية.
هذا الذي يحمل في كل مرحلة من مراحل عمره والرواية اسماً، يتنقل ما بين أريتريا وأثيوبيا وإسرائيل، وهنا يسير حجي جابر في رحلته السردية بطريقين متوازيتين بحثاً عن نجاة بطله الذي يتحول خلال فترة الخدمة العسكرية المذلة في أريتريا إلى "داود"، حيث تتمحور الطريق الأولى حول رحلته من بلده إلى أثيوبيا متخفياً، هو المسلم، في عباءة "ديفيد" المسيحي لعله يظفر بلجوء إلى أوروبا من هناك، والثانية حول رحلته من مخيم "أنداغابونا" للاجئين إلى إسرائيل، بعد رفض طلبه باللجوء إلى أوروبا، كيهودي من "الفلاشا" يحمل اسم "داويت"، عاش محتقراً في تل أبيب والقدس مَن يمارس الاحتلال ومَن يقع تحته، أي الإسرائيلي والفلسطيني.
فالإسرائيلي يتعامل مع يهود الفلاشا وكغيرهم من اليهود غير الأشكناز كمواطنين أو حتى جنود من الدرجة العاشرة، في حين أن الفلسطيني ينظر إليه كمحتل.
داود الذي هرب إلى أثيوبيا طلباً للنجاة من الخدمة العسكرية المهينة، واستقر به المقام لبعض الوقت في"أنداغابونا" ليكون محطة باتجاه أوروبا، يسرد حكاية طويلة تمتد على قرابة نصف مساحة الرواية، وتتضمن شرحاً إنسانياً بديعاً حول معاناته كجزء من معاناة الشباب الأريتري خاصة، والأريتريين عامة، اتكأت على حكايته مع معشوقته عائشة، تلك الحكاية التي أوصلته إلى "الوادي الأزرق"، وهو أكثر "معسكرات التأديب قسوة"، هو الذي كان حائراً ما بين عشقه لها، وما بين جنديته في "مدرسة الثورة" التي كان يمنع على منتسبيها مغادرتها، وكان أحدهم.. إلا أنه اختار عائشة، وفرّ من المدرسة المعسكر، وألقي القبض عليه باتجاه "الوادي الأزرق الذي مَن يذهب إليه غالباً لا يعود".
هذه الحكاية حاول من خلالها إقناع رئيس لجنة الهجرة إلى أوروبا، وهو أوروبي بطبيعة الحال، لينحو من واقع مؤلم باتجاه القارة الأقدم في العالم، إلا أن طلبه رفض، رغم استمتاع صاحب القرار "الأبيض" بالحكاية، ما دفعه إلى انتحال شخصية يهودي أثيوبي من "الفلاشا" للهجرة إلى إسرائيل، وهو ما كان يرى فيه خلاصاً متوقعاً، ولكن.
في "أرض الميعاد":
منذ اللحظة الأولى لداويت ومن معه في "أرض الميعاد"، تم استقبال القادمين الجدد من يهود "الفلاشا" في مركز "شيبا" الطبي، فور وصولهم إلى مطار "بن غوريون" في تل أبيب، وكأنهم آفات معدية أشبه ببكتيريا أو فيروس.
"على المدخل كانت الطواقم الطبية متأهبة بانتظار القادمين، الجميع يرتدون سترات بيضاء طويلة، تنتهي أكمامها بقفازات من اللون نفسه، فيما تغطي كمامات خضراء معظم الوجه. أنزل الأطفال أولاً واقتيدوا إلى الداخل، قبل أن يطلب من البقية أن يصطفوا في طابور طويل. مالت الطواقم جانباً، وتقدّم شخص يعتمر خوذة بيضاء تغطي وجهه إلا من ثقوب صغيرة عند العينين والأنف، يحمل حقيبة ظهر بلاستيكية زرقاء تنتهي بخرطوم أسود. كان يشير بيده، فيما الأخرى تمسك بالخرطوم. تقدم الواقف في أول الطابور حتى أصبح في مواجهة الرجل ذي الخوذة البيضاء الذي طلب منه أن يغمض عينيه، وأن يرفع يديه عالياً، قبل أن يغرقه بمادة سائلة، ثم يدعوه للعبور".
"كان داويت يراقب ما يجري وهو يتقدم في الطابور شيئاً فشيئاً، الرجال والنساء يتعجلون الوصول إلى الرجل ذي الخوذة البيضاء، يفردون أذرعتهم في مواجهته بمحبة، ويحرصون على أن يغمرهم رذاذ المادة المعقمة، ثم يمسحون بأيديهم المبللة على المناطق التي لم يصلها الرذاذ، كأنهم إزاء تعميد جديد. حين وصل داويت كان مستسلماً تماماً. فرد ذراعيه، وأرخى رأسه، وأغمض عينيه، وبدأ يشعر بالمادة السائلة ذات الرائحة النفاثة تغمر جسده كله".
القارئ للرواية، خاصة إذا كان فلسطينياً، يلحظ أن ثمة فارقاً كبيراً في دقة الوصف ورحابته ما بين تل أبيب والقدس، فالأولى لم يزرها الروائي في حياته، أما الثانية فكانت له فرصة زيارتها خلال مشاركته في ملتقى فلسطين الأول للرواية العربية، العام الماضي، على الرغم من أنه اعتمد على العديد من الفيديوهات المصورة والمعلومات المدونة حول المطار، وتل أبيب، وغيرها، ولكن تبقى المشاهدة والمعايشة أكثر إقناعاً، وهو ما برز حين حديثه عن "داويت" ورحلته في شوارع القدس وحاراتها القديمة، وزيارته للمسجد الأقصى وكنيسة القيامة و"حائط المبكى"، هو الأريتري الذي تنقل ما بين إسلام ومسيحية ويهودية كواحد ممن كانوا يطلق عليهم اسم "ثمار النضال"، وهم نتيجة علاقات عابرة ما بين جنود ونساء في الميدان، يكبرون في ظروف معقدة ليكونوا وقود "جيش الثورة".
القدس:
بعد إقامة "داويت" القصيرة في تل أبيب، حيث تعرف إلى يعقوب الشاب السوداني القادم من "دارفور"، والهارب من الشقاء هناك إلى القاهرة للحصول على بطاقة لاجئ إلى أوروبا لينتهي به الحال كما داود أو ديفيد أو داويت في إسرائيل، يؤمر بالتوجه إلى العيش مع مجموعة من المهاجرين رافقته إلى مستوطنة "بسغات زئيف" بالقدس الشرقية، وفي ظروف مهينة.
يتعرف "داويت" في أحد شوارع القدس القديمة إلى "سارة" الطالبة في الجامعة العبرية، والتي تقوم بإعداد دراسة حول "الحياة الجنسية للاجئين"، دون أن يفصح الروائي ما إذا كانت سارة هذه إسرائيلية أم فلسطينية، فالاسم مشترك لدى الجانبين، وفي الجامعة العبرية هناك العديد من الطالبات والطلاب العرب.
وبعد أن أخبره شركاؤه في الغرفة بأن "الجميع يعتقد أنه مندس" غادر المستوطنة هارباً باتجاه سارة التي لم تتمكن من حمايته، وتكتفي بمنحه شيئاً من المال، فيهيم على وجهه في شوارع القدس العتيقة التي بات يعرفها جيداً، قبل أن يلجأ إلى صاحب متجر خمسيني أفريقي الأصل عربي اللسان.
التاجر "ماريل" (محمد علي) عرف أن "داويت" أريتري مسلم من "مصوع" أو "أغوردات" أو "صعب"، من ملامحه التي "لا تقول إنك من أبناء أسمرة"، وآواه في منزله من باب أن "المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص".
مع "ماريل" يكتشف تلك الحياة المتعددة في أسرة تصر على أنها فلسطينية.. "نحن خصوم لإسرائيل كما أخبرتك، لكننا مضطرون لاستخدام بطاقات هوية زرقاء تعود لها. المضحك أنها تكتب في خانة الجنسية أردني بحكم أن القدس الشرقية كانت تتبع الأردن قبل أن تحتلها إسرائيل".
ومن الجدير ذكره أن أجداد "ماريل" كانوا قدموا إلى القدس لمجاورة المسجد الأقصى وأطلق عليهم "المجاورون" ما قبل العام 1948 ونكبة الفلسطينيين، والبعض جاء "لمحاربة إسرائيل بمجرد أن أعلنت دولتها"، و"هناك أفارقة أقدم، جلبهم البريطانيون لبناء سكة القطارات، وحين عادوا إلى بلدانهم سحروا الناس بحكاياتهم عن القدس.. "وبغض النظر عن هذا، نحن الآن فلسطينيون للنخاع، وندافع عنها بأرواحنا (...)".
مأساة لا تنتهي:
ويلخص الروائي حجي جابر من خلال شخصية داود، الذي تنتهي به الحال على غير المتوقع، مأساة تتواصل لشباب وأطفال وعموم الأريتريين من أبناء جلدته، هو الذي حمل على عاتقه روائياً الانتصار لمعاناتهم، بل وتبرير حتى انخراطهم عن وعي أو دونه في ثوب المحتل، وفي واقع قاس للنجاة من واقع أشد قسوة، وبما لا يقاس، فهو هنا يسلط الضوء بشكل كبير على تلك الحياة التي تعبير "الموت" أو تعبيراته أقرب إليها.
في أقسام "رغوة سوداء" المرقمة، قدّم حجي جابر رواية شيقة، إضافة إلى عمقها ومضامينها الإنسانية، حيث كسر الرتابة ببراعة عبر التنقل ما بين الأمكنة ذهاباً وإياباً، ودون ترتيب زمني متسلسل، ما يجعل من قارئ الرواية في حالة ترقب لا تخلو من متعة بانتظار مزيد من التفاصيل عن هذه الحكاية أو تلك.
مشروع روائي:
وقال الروائي حجي جابر لـ"أيام الثقافة": رواية رغوة سوداء تقع ضمن المشروع الذي اخترته لنفسي منذ البدء عبر الإضاءة على أريتريا الإنسان والشجر والحجر، والمرور على العذابات التي يعانيها أهلها.. الرواية هذه المرة تنطلق من فكرة الاضطهاد الذي يمارسه الضعفاء والذين عادة ما نستبعد أن يقوموا بذلك كونهم أول من ذاق طعم ذلك الاضطهاد..
تدور أحداث الرواية في فلسطين وإثيوبيا دون أن يجعل منها ذلك خارجة عن مشروعي، أو هكذا أظن، كما أنني أردت من عنوان الرواية أن يعكس حالة البطل فهو تماماً كالرغوة كلما أراد أن يغوص في عمق المكان وناسه يُلفظ إلى السطح، وللون الأسود هنا دلالة تتضح من الصفحات الأولى للعمل.. أردت الكثير من خلال الرواية لكني لا أستطيع الحديث عن ذلك.. تركت رسائلي مخبأة بين السطور على أمل بأن يلتقطها القارئ، ومن غير المحبذ أن أصادر حقه في ذلك بأن أخبره منذ البدء أن رسائلي هي كذا وكذا.
وأضاف: كون "رغوة سوداء" هي الرواية الرابعة لي، فهذا يضع حملاً عليّ ولا شك، لكني وكما كل عمل أجتهد كثيراً كي أتقدم خطوة إلى الأمام، فأنا والقارئ في سباق دائم. صحيح أنه سباق غير متكافئ، لكني أحاول ما استطعت أن أتجنب خيبة كبيرة تحيط به وهو يطالع العمل الجديد. على العموم سننتظر ونرى.
وختم حجي جابر بالقول: زيارتي لفلسطين كانت حدثاً استثنائياً. لا أزال واقعاً تحت سحر تلك اللحظة التي أتمنى أن تتكرر مرات ومرات.. سبق لي القول: إن فلسطين مكان حقيقي ونافذ وشاهق، وإنسان هذه الأرض يشبهها ولا شك.. لم تستطع كل نشرات الأخبار أن تنقل لنا فلسطين كما فعلت زيارتي القصيرة.. كنت محظوظاً أني تلقيت الدعوة وأنا في منتصف العمل، فتوقفت لأرى الأماكن التي أكتب عنها عوض البحث عنها في الإنترنت والكتب.