وقفات مع كتاب تأريخ البلين الماضي والحاضر
بقلم البروفيسور الدكتور: جلال الدين محمد صالح - جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض، المملكة العربية السعودية
يوصف التاريخ، بأنه ديوان الأمم، وخزينة العظماء والضعفاء،
المليئ بالنفيس والحقير، من المعلومات والمرويات، في حياة البشر، فهو عبرة لمن يعتبر، وهو فخر لمن يفتخر، وهو وعي وعظة، لمن يتعظ، سائحا في الأرض؛ منقبا عن آثار قوم قد سلفوا، سادوا ثم بادوا، وهو المحفز إلى النهوض، والباعث إلى اليقظة.
ومن لا تاريخ له، لا وجود له، يظل رقما مهمشا، وإنسانا تالفا، ومن هنا تهتم الشعوب الراقيةبتاريخها، تلملم منثوراته، وتنبش مكنوناته، وتبعث مندثراته، وتحيي مهملاته؛ لترضعه أجيالها، وتتوارثه بهمة عالية أعقابها،وتؤكد به هويتها.
ومن يغوص في أعماق التاريخ، أيا كان هذا التاريخ، ليس كمن يسبح في شواطئه، لا بد أن يعاني، في استخراج ما فيه من اللآلئ،ومع ذلك لابد أن يجد فيه ما يمتعه ويفرحه، بجانب ما يحزنه، ويخجله، فالتاريخ ليس بياضا ناصعا، في ذاته، ولا سوادا حالكا، ولا صفاء من غير كدر ولا نتن، وإنما هو حقل مشوب، فيهقَدْرٌ من هذا وذاك؛ لأنه المخطوطة المنسوخة، عن مسيرة الإنسان، بما فيه من تنازعالشكران والكفران.
ولا يعرف للتاريخ قيمته، ولا لمحتواه نفاسته، إلا من أدرك الحاجة إليه، في إثبات الذات، وفطن إلى خاصيته، في وصل الأجيال ببعضها، وفي صيانتها من الضياع، وفي حماية الذات من الذوبان.
أدركت ذلك عن قرب وعمق، وأنا أكتب وأقرأ في تاريخ البجة، والحبشة، هنالك وجدت ما أثار شهيتي، وأسال لعابي، وقوى تعلقي بالتاريخ، وأشربني حبه، والشغف به، وهنالك أدركت حجم الجناية التي ارتكبناها، نحن المثقفين، من أبناء البجة - كما يحلو لي أن أصف قومي - في حق تاريخنا، حين أهملناه، وحين تركناه نهشا ونهبا من الآخرين، يغيرون عليه؛ ليوظفوه، في مصالحهم وأهدافهم الاستعمارية، والتقسيمية، والاستحواذية، أو ليبقوه دفينا، يجزئُوننا، كما يحلو لهم، باسم القوميات، فخوذا، وبطونا، بينها فواصل وحواجز وهمية، وكأنها جزر معزولة، لا ينظمها تاريخ واحد، حتى يسهل عليهم التحكم فيها، وإشعال الفتن القبلية بينها، وحتى يوهموها أنها مجرد قبائل رعوية، جاءت من هنا وهناك، بحثا عن الكلأ، واتباعالأذناب البقر، لارابط يربط بينها، ولا تاريخ واحديشد وثاقها، فكل تاريخها تاريختناحر وتقاتل على المراعي، وعلى المعاطن، وليس من مكان تقف فيه، في مسيرة التاريخ الطويلة، إلا في مؤخرة ذيله!.
ذلك مجرد افتراء، ومحض اختلاق، ولكن لأن للتاريخ تداخلا بالسياسة وثيقا، وتشابكا معها متينا، فإن المستحوذين على شأنها، باستحواذهم على سلطانها، في الدولة ذات الهويات المتباينة، غالبا ما يطمسون تاريخ من يرون فيهم المنافس الأقوى، من الهويات الأخرى، ويصنعون لهم تاريخا لقيطا ملفقا، من عند أنفسهم،مغايرا لتاريخهم، لا يشابههم، ولا يشابهونه، مشوها مخجلا، ويخلقون عنهم صورة نمطية منفرة، ومحقرة، ليست هي صورتهم الحقيقية، في تاريخهم الحقيقي، والتاريخ كما يقال: يكتبه المنتصر.
ولا ينجو من هذه المكيدة التدميرية، في كتابة تاريخ الشعوب، إلا أولئك الذين خدموا تاريخهم بأنفسهم، وسهروا على إبرازه، كما هو، وحموه من السطو، والسرقة، وانتصروا له، إذا ما ظُلِمَ، أو حُرِّفَ، وبُدِّلَ، أو هُمِّشَ، وأُهْمِلَ.
ومن لا يكتب تاريخه بنفسه، كما ينبغي أن يُكْتَبَ به، فإن آخرين سيكتبونه، بالنيابة عنه، على نحو يودون له الظهور به، من مسخ ولطخ، ونسخ ولصق، ومعنى هذا، أن من يفرط في تاريخه، يفرط في حرمة وجوده، ويسهل الهوان عليه.
ومن هذا المنطلق كثيرا ما كان يختلج في صدري، سؤال طالما أرقني، وأرق غيري، سألت عنه نفسي، وسألني عنه غيري، ماذا كنا، نحن الإرتريين، قبل أن نكون على ما نحن كائنون فيه؟ ما أصولنا؟ وما جذورنا؟ وما تاريخنا ومصادر تاريخنا؟ هل نحن نبتة، هكذا وجدت، لا مرجع لها؟.
وكان هذا السؤال من وراء اهتمامي بتاريخ (البجة والحبشة) وحينها، وأنا أبحث في هذا المجال، إجابة على ذاك السؤال، قرأت ضمن ما قرأت، ما كتبه الإدريسي، عن قوم أسماهم (البليون) إذ قال: "وبين النوبة وأرض البجة، قوم رحالة، يقال لهم: (البليون) ولهم صرامة وعزم، وكل من حولهم من الأمم يهادنونهم...".[1]
وهنا تضاربت أمامي أقوال المؤرخين، والباحثين في التاريخ، في من هم (البليون) أثْبَتََُّها في كتابي (كرن) وكتبت حينها أقول: "وأيا كان الأمر، ففي نظري ليس فيما ذكره الإدريسي حسم للنقاش الدائر، في علاقة البلين بالأجو... ولهذا تبقى المسألة في حاجة إلى مزيد بحث وتقص".[2]
وفي الطور الجنيني، لفكرة كتاب (البلين) التي عاشها الدكتور إدريس أبوبكر جميل، مهموما بها، ومتحمسا لها، وقبل أن تنضج هذه الفكرة، في ذهنه، لتولد حية، مكتملة، في صورتها النهائية الجميلة، كما نراها اليوم، كان يدور النقاش بيني وبينه، في جوانب منها، حين نلتقي في (لندن).
وما كانت حماستي للكتابة، عن هذه الفكرة، تقل عن حماسته لها؛ بما كنت متشوقا إلى معرفة (البليون) الذين عناهم الإدريسي، من هم؟.
وقد وجدت فعلا بغيتي، في ما كتبه الدكتور إدريس أبوبكر جميل، حيث ناقش هذه النقطة من البحث، وتوقف عندها، ليدون فيها ما يراه أقرب إلى الحقيقة، معززا اختياره هذا، بالتعليلات التاريخية.
كذلك كنت أتساءل عن العلاقة التاريخية، بين (البجة) و (البلين) وهل هم جزء من (البجة) أم وافدون إليها، كما يقال من بلاد (الأجو) في الحبشة، إثيوبيا؟.
وكثيرا ما كنت أجد في نفسي جنوحا قويا إلى أن (البلين) ما هم إلا جزء من البجة، بحكم أن البجة كما وصفهم ابن حوقل في كتابه (صورة الأرض) يوم زارهم في العهد الفاطمي، قبائل عديدة، في ممالك كثيرة، وأن مصطلح (البجة) لا يعني عرقا، ولا جدا، وإنما يعني انتماء إلى كيان تاريخي ثقافي، ومحيط جغرافي، يمتد من جنوب مصر إلى حدود بلاد الأكسوميين.
وأن كلمة (بجوس) نطق يوناني، أو روماني، لكلمة (بجة) على غرار (عدوليس) نطقا لميناء (عدول) أو (إيلوس) نطقا لكلمة (إيل) العبرية، التي تعني الرب، ومنها (جبرائيل) (فجبر) تعني (العبد) كما في التجرايت، و ( إيل) تعني الرب.
وليس كاف كونهم جاءوا من بلاد (الأجو)؛ ليثبت أنهم من (الأجو) فعلا، فما الذي يمنع أن جدهم الأول (بجوس) هو من نسل تلك القبائل البجاوية، التي أسقطت أكسوم، حين غزتها، ثم حكمت المنطقة لأكثر من 400 عام؟ وهنالك امتزجت مع (الأجو) وتناسلت فيهم، وبعد ذلك عاد إلى مرجعه الأول؟.
وها أنا أجد اليوم، في كتاب الدكتور إدريس أبوبكر، ما يعزز هذه الوجهة، في نفسي، إذ يقول: "إن الباحثين في التراث المحلي القديم للمنطقة، قد وجدوا في تراث قبائل البجة، ما يؤكد علاقة اتصال بينها، وبين البلين، وخاصة بين قبائل البلو، والحدارب، والبلين...".[3]
هل كان هذا الاتصال من نوع اتصال الغريب بالغريب، أم من نوع اتصال الشقيق بالشقيق، تلاؤما بعد تباعد، وتوحدا بعد تفرق، أم هو وصف للواقع الكائن الماثل أمام الأعين، منذ أن كان للبجة وجود؟.
أيا كانت الإجابة على هذه التساؤلات، فإن العلاقة بين البجة والبلين، إن لم تحمل الباحث على الاقتناع والجزم، بوحدتهم الحضارية، والتاريخية، والجغرافية، بوصفهم كيانا واحدا في أصله وجذوره، متلاحما، في إطار تاريخي، ونطاق جغرافي واحد، فإنها على الأقل تفرض عليه الإقرار بوجود هذه الصلة القوية، والعميقة، التي أثبتها الدكتور إدريس أبوبكر، أيا كانت طبيعتها.
ويخطئ من يرى في التاريخ، مجرد تخرصات مكدسة، ومظنونات متوارثة، في جله وغالبه، وليس فيه ما تطمئن إليه النفوس، وتسكن إليه القلوب.
فالتاريخ وإن كان ليس على منجى، من هذه التخرصات، وهذه المظنونات، إلا أنه، ينطوي على كثير من الحقائق، ومع ذلك أن حقائقه هذه، في بعض منها، إن لم يكن في كلها، ليست قطعية الدلالة، مهما كانت قطعية الثبوت، وهنا يختلف الناس، في تفسيرها، كل من الزاوية التي يقرأها بها، إذن هناك حقيقة تاريخية، وهناك قراءات مختلفة، لهذه الحقيقةالتاريخية.
وربما لا يعدم من يتضايق عن البحث، في مثل هذه القضايا التاريخية، للمكون الإرتري، ومن لا يعجبه الخوض فيها مع الخائضين، ظنا منه بأنها ردة إلى الهويات الفرعية، وخصم من الهوية الوطنية الجامعة، ومخاصمة معها، ورجعية إلى العصبيات المتخلفة، لا تتناسب والدولة القطرية الحديثة.
وما هذا بصحيح أبدا، فما الهوية الوطنية الجامعة إلا خلاصة الهويات الفرعية، للجماعة الوطنية، ومتكاملة معها، لا متناسخة، وما الدولة القطرية الحديثة، إلا وعاء منظم، لهذه الهويات الفرعية، ومنسق بينها، في إطار الهوية الوطنية الجامعة.
لهذا أقول: إن كتاب (تاريخ البلين) للدكتور إدريس أبوبكر جميل، جاء في وقته، في لحظة تفتقر فيها الساحة الثقافية، والفكرية، في إرتريا، والسودان معا، إلى مثل هذه الإصدارات التوثيقية، التاريخية، وفي وقت تتكون فيه الهوية الوطنية الإرترية الجامعة.
ولا أشك في أنه سيتبوأ مكانته اللائقة به أكاديميا، في المكتبة السودانية، والإرترية، على الأقل؛ ليجيب على عدد من الأسئلة التي يطرحها، الباحث الإرتري، والسوداني، معا، عن البلين، بحكم أن قبيلة البلين، هي أحد القبائل المهمة في المنطقة، كما هي جزء لا يتجزأ، من القبائل الشرقية، في السودان، لها عموديتها المعترف بها رسميا، إلى جانب كونها جزءا من المكون الإرتري، شأنها في ذلك شأن بقية قبائل شرق السودان البجاوية، المتداخلة مع امتداداتها إلى العمق الإرتري، ولولا أن المستعمر البريطاني، والإيطالي، تقاسمها فيما بينه؛ لكانت كيانا واحد، على رقعة من الأرض واحدة، كما هو ماضي تاريخها.
ولقد قرأت هذا السفر التاريخي الحافل بالمعلومات التاريخية المهمة مرتين، مرة وهو مسودة مخطوطة، ومرة أخرى بعدما طبع، وظهر في الوجود الثقافي، ومهما قلت فيه من ثناء، ومهما أبديت من إعجاب، فإنه في النهاية عمل بشري، لابد أن يعتريه الخلل.
والكمال - كما يقول الإمام الذهبي: عزيز.
وميزة هذا الكتاب - فوق أنه اشتمل على مادة علمية جد مهمة - أن كاتبه ينحدر من القبيلة ذاتها، فهو إذن يحمل همها، ويعرف مستودعها، ومستقرها، ويتقن لسانها، ويخبر خدودها، وشقوقها، في معاطنها ومناطقها، ويحتك برجالها، فيوثق منهم المتداول رواية، وسماعا، ووَجَادَةً، وربما بسند عال، ويَرُدُّ الملفق، ويَمِيزُ الخبيث الواهن من الطيب القوي.
ومع أنه اقتحم العقبة، وفك الرقبة، وأوفى بما أخذه على نفسه، إلا أن الحاجة ما تزال ماسة إلى إصدار مزيد من الأبحاث العلمية الموثقة، على منوال هذا المنهج العلمي الذي انتهجه الباحث الدكتور إدريس أبوبكر، فالموضوع ما زال مادة خامة، يغري الباحثين، من الممكن أن يطرقوا منه، ما لم يطرقه إنْسٌ قبلهم، وتمنيت لو أن الدكتور إدريس اقترح عددا من العناوين التي يراها جديرة بالبحث، والتي وقف عليها، خلال عمله في كتابه هذا (تاريخ البلين)؛ ربما تكون محل اهتمام وانتباه، من طلاب الدراسات العليا، في الجامعات السودانية، وغيرها.
نعم توجد كتابات لبعض الرحالة الغربيين، إضافة إلى ما كتبه بعض المؤرخين المهتمين، من الأوروبيين، وسواهم، الذين كتبوا عن تاريخ هذه المنطقة، بدوافع استعمارية، من بعضهم، ومن بعضهم؛ لمجرد المعرفة المحضة، غير المشوبة بأهداف مثيرة للريب والشكوك، ومن بعضهم لمآرب تنصيرية، وبالذات الإرساليات الفرنسية، والإيطالية، التي استهدفت (البجوس) منذ وقت مبكر، وكان لها حضورها المؤثر، في منطقة السنحيت، من أرض البجة.
وكل هذه الكتابات، مع ما لها وما عليها، أراها غير كافية، وتحتاج هي في حد ذاتها إلى دراسات نقدية تحليلية، متحرية للدقة، ومتحلية بالحيادية، ومجردة عن عواطف الانتماء القبلي، أو الديني، تقبل إلى البحث بدافع الوفاء فقط، للرسالة العلمية التي تحملها.
والله الموفق
[1] نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، ج 1 ص 47
[2] كرن، ص 39
[3] تاريخ البلين، الجزائر، دار المعرفة، ط، الأولى 2018م، ص 25