ﺭﻭﺍﻳﺔ ﺍﺭﺗﺮﻳﺔ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ ﺍﻻﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ: من أسمرة إلى يارا - الجزء الثاني
تأليف الأستاذ: إبراهيم حاج ترجمة الأستاذ السفير الكاتب: أحمد طاهر بادوري
كأكبر الأخوات الثلاثة، كانت مريم دائما، محكوم عليها أن تكون من يضحي من أجل الأسرة بعد وفاة والدهن المبكرة.
ولو أن عزيز، الأخ الأكبر والوحيد، لم يترك أسرته الحزينة خلفه بعد وفاة الوالد بأسبوعين ليلتحق بالنضال المسلح لتحرير إرتريا،
لكان نظام التقادم في المسؤولية مختلف تماما. فغياب كلاهما، الوالد والأخ، دفع بمريم إلى الصدارة والمقدمة.
وفاة الوالد كانت بلا شك خسارة كبرى، وتصبح هذه الخسارة أعظم إذا ما علمنا، أنه كان الوحيد الذي يوفر لقمة العيش للأسرة. أما غياب عزيز في هذا المفترق العصيب، فقد راكم وضاعف أوجاع وأحزان الأسرة.
من المنظور الأوسع للأحوال، فإن غياب عنصرٌ مذكر في العائلة، فتح آفاق حياة جديدة للبنات، فقُدر لهن مواجهة مصائرهن في طريق مختلف تماما عن ما كن سيسلكنه بوجود أباهن أو أخاهن، حين كن ينتقلن لمرحلة الشباب والنضج.
لكن للأقدار أحكامها وصيرورتها الخاصة، فالوالد إنتقل إلى دار الآخرة، والأخ إلتحق بالنضال المسلح عندما بلغت مريم السادسة عشرة ونادية الرابعة عشرة والأصغر، دهب، تكاد في الثانية عشرة.
ما كان يبدو أنه، حالة ثلاثة أخوات فقدن أباهن في وقت مبكر، قد تحول بالضرورة إلى حالةٍ، حيث غياب رجل في الأسرة، أتاح للبنات نمط حياة لبرالية غير مقيدة، أطلقتْ لهن حريةً لا عودة فيها وأثرت بطريقة غير معهودة على وضع المرأة في المجتمع المحافظ، في مدينة كرن.
لم تكن أمور الأسرة سيئة للغاية لبعض الشهور بعد وفاة الأب، فقد إلتف حول الأسرة الحزينة بعض من أقرب الأقارب، يمدون يد العون المعنوية وقليل من المساعدة المالية، إلى جانب مرتب معاش الوالد الضئيل من الحكومة. هذا حافظ لحد ما على وضع الأسرة.
مجرد عام مر منذ وفاة رب الأسرة، عندما فجأة أوقف المحسنون مساعدتهم وشفقتهم. فبقيت العائلة على الكفاف، تقتات من معاش الفقيد الذي لا يثمن ولا يغني من جوع. فإضطرت الأم أن تكافح من أجل بقاء أسرتها.
وفور أن جفت موارد المحسنين، فُتح باب آخر أمام العائلة، عندما برزت مريم كمنقذ.
منذ فترة وجيزة، كانت مريم تعود مساءً من المدرسة للبيت متأخرة قليلا من المعتاد. ولكن ما كان يقلق الأم أكثر، أي في كل مرة تعود مريم متأخرة، كانت تعطي أمها دولارين إثيوبيين. لم يكن مبلغ كافي إلا لشراء الخضار ليومين، ومع ذلك، بقيت الأم قلقة ومتوجسة.
بالبداية، لم تفكر الأم كثيرا في ذلك، ولكن حين تكررت الحالة، قررت أن تسأل إبنتها عن هذه القروش التي لا تعرف مصدرها.
"ماذا دهاكِ يا مريم، أنت تأتين متأخرة من المدرسة يومي الثلاثاء والخميس منذ الأسبوعين الماضيين، قالتها الأم وهي تعاتب إبنتها" ثم أضافت "على أية حال، من أين تأتين بهذه النقود ؟".
ردت مريم "يا أمي، أنا أدرسُ طالبة زميلة من أسرة يمنية ميسورة".
قالت الأم دون أن تخفي توجسها العميق "لكن الناس يا بنتي، يبثون إشاعات عن مجيئك متأخرة".
ردت مريم بصوت مبحوح مختنق وثائر "دعي الناس يقولون مايحلو لهم، فهذا ليس من شأنهم يا أمي" واضافت "أماه صدقيني، أنا افعل هذا من اجل أسرتي وليس لنفسي".
قالت الأم دون تفكير متعمق، في محاولة أن تمنطق عمليا إقتراحها "ألا تستطيعين أن تفعلي التدريس هنا، في بيتنا ؟".
ردت مريم بصوت عالٍ وهي تغالب دمعاتها "يا أمي نحن نحتاج للقروش أكثر من حاجتهم تدريسي أنا لإبنتهم" واضافت "ثم أن عائلتها لا تسمح لها المجئ إلى هنا في المساء".
قالت الأم، وهي غارقة في فيض من عدم الإقتناع والإحباط، وإنفجرت بالبكاء "يا مريم يا بنتي، أنا قلقة عليكِ ولا غير". البنات، حين شاهدن الدموع تنهمر من عيني أمهن، أحطن بها وبكين معا.
لم يبقى للأم أي خيار سوى أن تماشي تفسير إبنتها لمصدر النقود، وعليه، أصبح مألوفا أن تواصل مريم عملها وتأتي متأخرة من المدرسة كل يومي الثلاثاء والخميس وتسلم أمها ورقتي دولارين، تتقبلها الأم بلا وجل وبصدر رحب.
أن تكبر في عائلة حيث يفتقد فيها السيطرة التقليدية للذكور، كان بالنسبة لمريم واختيها بمثابة بركة ولعنة في آن معاً، فقد أعطت هذه الحالة لهن الحرية والإنعتاق ليقدن حياتهن كما يحلو لهن.
لم يكن هناك أب يخفن منه ولا أخ أكبر يراقبهن أو يطل من خلف أكتافهن، فكن يخرجن ويعدن للبيت كما شئن.
في تقاليد مدينة كرن العريقة، كانت الصداقة والزمالة محسورة بشدة بين الأولاد بعضهم ببعض والبنات ببعضهن فقط. وكان غير مقبول إطلاقا أن تُشاهدَ البنت برفقة ولد، إلا إذا كان أخوها أو إبن عمها.
مريم وأخواتها كسرن هذا الحاجز، حين كن يشاهدن برفقة أو يتحدثن مع ذكور من زملائهن في الدراسة من وإلى المدرسة الثانوية. كذلك، كن يمارسن إجتماعيات مع زملائهن الذكور في المدرسة بعد ساعات الدراسة وفي عطلات نهاية الأسبوع، وفي القليل من المناسبات كانت مريم تستضيف بعض من زملائها وأصدقائها الذكور في بيتها.
الأخوات الثلاثة لم يأبهن للدعايات والوشوشات التي إعتبرنها ثمن زهيد يدفعنه للحرية التي يتمتعن بها.
فقد إشتهرت مريم وأخواتها لطريقتهن في الحياة الليبرالية في المدينة المحافظة كرن. وبسرعة أصبحن مثال يقتدى به حين كن يشجعن البنات للفكاك وكسر قيودهن والتحرر من تلك التقاليد المحافظة، وسرعان ما عصفت رياح التغيير بمدينة كرن.
حفلات نهاية الأسبوع التي تضم طلاب المدارس الثانوية، من كلا الجنسين فتيانً وفتيات، أصبحت أمرً مألوفاً، مجتمع كرن المحافظ راح يتأقلم تدريجيا مع المتغيرات التي لا يستطيع التصدي لها وإعتراضها.
في وقت قصير تحولت هذه التجمات من حفلات التواصل والمرح إلى لقاءات سياسية، حيث أصبحت غطاءا جيدا للنقاش وتبادل الأفكار حول كيفية دعم النضال المسلح ونشر الوعي السياسي في اوساط الشباب. وبالنتيجة، إلتحق بالنضال المسلح من أجل الحرية الكثير من البنات والأولاد. هنا برزت نادية كناشطة في مقدمة الصفوف.
حينها كانت الإشاعات تحوم حول مريم بأن لديها علاقة مع الدكتور كيداني طبيب عام في مستشفى كرن. كانت الأم قد قابلت الدكتور كيداني مرة واحدة فقط، وكان ذلك عندما جاء للبيت ليكشف عليها عندما كانت مريضة، رفض كيداني أن يأخذ نقودا مقابل الخدمة التي قدمها طواعية للأم.
الآن أستغربت الأم، بينها وبين نفسها وظنونها، إن كانت للإشاعات لها علاقة بالدولارين التي تأتي بهما مريم للبيت كل مرة تأتي متأخرة من المدرسة.
كذلك، بدأت تشك بأن الوشوشات عن حياة إبنتها الليبرالية "المنفتحة"، ربما كانت السبب في قطع أقرب أقربائها كل عونهم للأسرة فجأة. لكن لم يكن بيد الأم حيلة.
في منتصف العام 1974 ترك دكتور كيداني مدينة كرن حين وجد عقد عمل مربح في المملكة العربية السعودية. كانت تلك المناسبة قد بثت إرتياح كبير لدى أم مريم.
عام 1975، كان عام فورة سياسية كبرى في إرتريا، وكانت الظروف تسوء يوميا.
كان الزمن عندما بدأ ساعد الثورة الإرترية يتقوي ويزداد عددا وعدة. بالنتيجة، تغير تكتيك المقاتلين من حرب إضرب وأهرب، لحرب إضرب ودفع العدو يهرب.
الإثيوبيون بالمقابل راحوا يصبون جم غضبهم على الشعب المسالم. في كل مرة يتجرعون فيها هزيمة، كان جنودهم الهاربون يجوبون الريف يدمرون ينهبون ويقتلون.
المدنيون الأبرياء كانوا يقتلون بلا تمييز في وضح النهار. شباب من كلا الجنسين، بنات وأولاد يختفون بلا أثر. الأمهات بدأن يقلقن على أطفالهن حين يخرجون من المنزل، لأنهم قد لا يعودون وقد لا يرينهم مرة أخرى. موجة من الخوف والرعب أحاطت بكل المدن.
كانت مفترق الطرق لكل الشباب الإرتريين، حيث كان عليهم إتخاذ القرار. البعض إختار أن يلتحق بالنضال المسلح والبعض الآخر هرب للسودان كلاجئ، وغيرهم إختار البقاء في إرتريا على أمل أن تعود الأمور إلى طبيعتها المعتادة عن قريب.
مريم وأخواتها صدمن عندما أبلغتهن الأم، أن هن سيهاجرن إلى السودان. ومع أنهن كن يتوقعن أن المفاجأة آتية، بقيت لهن محيرة جدا إلى أن حدثت. ولأن البنات لم يهضمن فكرة أنهن سيغادرن يوم ما مدينتهن الجميلة كرن، أو كرن طعدا، كما يحلو لسكانها أن يسمونها بمحبة وإعتزاز. إحساس البنات بالبؤس والحزن قد تراكم تحت ضغط أن هن متجهات للسودان الذي لا يعرفن عنه إلا القليل.
كانت كرن لهن، الحنين، الحلم، الحب، طفولتهن، برجهن العالي الصلب و كل شئ في حياتهن.
عندما توفي والدهن، بكين ليل نهار لأسابيع وشهور. زرفن الدموع حتى جفت في مآقيهن. ولو أن الدموع كانت تعيد الموتى من القبور لكان أباهن أول من يعود.
الآن وفي هذه اللحظات وعلى مفترق الطريق المجهول، تمنين لو أن أباهن كان حيا بينهن. فقد شعرن بالذنب لأن هن سيتركن وراءهن قبر والدهن.
في 22 مارس 1975، ودعن مدينة كرن وهن غارقات في الدموع طوال الطريق إلى السودان.