ﺭﻭﺍﻳﺔ ﺍﺭﺗﺮﻳﺔ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ ﺍﻻﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ: من أسمرة إلى يارا - الجزء الثالث والرابع
تأليف الأستاذ: إبراهيم حاج ترجمة الأستاذ السفير الكاتب: أحمد طاهر بادوري
في 28 مارس 1975، وصلت الأم السودان مع بناتها الثلاث. سافرن طوال الليالي تحت ضوء القمر والنجوم، يختبئن بالنهار بعيدا
عن أعين الجيش الإثيوبي. وبإعتبارهن غادرن البلاد بطريقة غير شرعية، يجعل ذلك منهن فرائس سهلة للجنود الإثيوبيين. قد يتخيل الإنسان سيناريو ما كان سيحدث للبنات الشابات لو كن وقعن في أيدي الجنود الإثيوبيون.
الأم على ظهر البعير والبنات سيرا على الأقدام، بين البطاح القاحلة الموحشة طوال المسافة، نحو 300 كيلومترا إلى مدينة كسلا.
على الطريق إنضمت لهن، قوافل من أمثالهن الهاربون إلى اللجؤ.
ولأن كسلا أقرب للحدود الإرترية - السودانية، أصبحت المرام الأخير لأغلب اللاجئين من كرن، ولا عجب، أنه وعبر السنين، فقد إستضافت كسلا من شعب كرن، أكثر من كرن نفسها.
دليلهم، المهرب المخضرم، أوقف جمله، على بعد كيلومترين من السوق الأساسي للمدينة. أبرك جمله المطيع من قوائمه قبل أن يساعد الأم للترجل من على ظهر البعير مع شنطتها التي هي كل ما تملكه الأسرة النازحة من متاع.
وبعد أن ربط الجمل جيدا إلى جزع شجرة، أومأ المهرب للأم وبناتها الثلاثة ليتبعن أثره وقادهن إلى وسط سوق المدينة. هناك يمكنهن أن يذبن بين زحام الناس بعيدا عن أعين رجال شرطة الهجرة السودانيين.
كان المهرب قد أصدر توجيهاته لهن في اللحظة التي عبروا الحدود داخل السودان. "الآن قد تأكدتن أننا داخل الجانب السوداني من الحدود، لهذا توقفن عن الكلام بينكن كي تتفادين لفت أنظار أي كان في شوارع كسلا". "وإلا ستكشفن أنفسكن كلاجئات، وتذكرن دائما أن رجال الشرطة يتعقبون لاجئين مثل كن".
كانت الساعة السادسة صباحا، والشمس فوق الرؤوس، ودرجة الحرارة بدأت ترتفع كل دقيقة.واحد بعد الآخر تحركوا بين شوارع مدينة كسلا الضيقة. المهرب متبوعا بمريم وهي تحمل شنطتهن المهترئة والأم ونادية ودهب في المؤخرة.
ضباط الهجرة السودانيون متنكرون في ملابس مدنية كانوا يجوبون الشوارع، يبحثون عن مهاجرين غير شرعيين. تسلل مهاجرين غير شرعيين هذه الأيام، جلهم من اللاجئين الإرتريين، قد تسببوا في صداع كبير للسلطات وسكان كسلا.
فهم الناس هناك في كرن كان أن رجال شرطة السودان نادرا ما يستيقذون قبل الساعة 8 الثامنة صباحا، ولهذا كانت اللعبة الوصول إلى قلب المدينة في الخفاء في الصباح الباكر حين يكون رجال الشرطة نائمون ومن ثم الذوبان بين أهل المدينة.
كان منظر المهرب والام وبناتها الثلاث اشبه بمجموعة من رجال الكوماندو في مهمة قبل الفجر، المهرب ولاجئوه الجدد تنقلوا بين الشوارع الضيقة لمدينة كسلا. كانت تلكم عادة يتبعها المهرب في كل مرة يقيود فيها أرواح مكسورة القلوب إلى عالم اللجؤ.
كانت الساعة 6:30 صباحا عندما أخيرا ظهروا في ساحة واسعة هي السوق الأساسي.
توقف المهرب وإلتفت الى الأم وبناتها.
ثم قال "تهانينا، أنتن الآن في كسلا سالمات". "في أقل من ساعة من الآن سينفجر السوق بالحياة والناس. ستظهرن ككل واحد منهم، ولا أحد سيعتبركن غير ذلك".
بعد ذلك وهو يخاطب الأم "بعض أصحاب المتاجر هنا قد يكونوا لاجئون مثلكن، وربما بعضهم من كرن، أنا واثق أن تقابلن أناس تعرفوهم في كرن، وقد يساعدوكن أن تجد أقاربكن في كسلا". ثم هرول في طريقه ربما إلى حيث ترك جمله، ومن هناك ربما عودة إلى كرن ثم مرة أخرى إلى كسلا خلال أسابيع قليلة، ومعه لاجئون كثر.
حالة المهربين واللاجئون الفقراء باتت تعبير عن الحقيقة القاسية، بكلمات قليلة ينطبق عليها المثل القائل :مصائب قوم عند قوم فوائد.
تهريب البشر، أصبح تجارة رابحة، يبدو أن لا شئ يشبع نهم المهربين للمال حتى لو أفرغوا كل الشعب الإرتري من بلاده عبر الحدود.
لحينه، وجدت الأم وبناتها الثلاثة أنفسهن في أرض (مجهولة) لا مالك لها، محاطة بالخوف واللامعلوم. كانت ساحة السوق خالية حتى اللحظة.
البنات، نظرن لأمهن لتطمئنهن، لكنها كانت ضائعة شاردة ومشتتة الذهن مثلهن.
الأرواح البائسة كانت الأنفاس الوحيدة في ساحة السوق النائمة، كن غرباء بكل المقاييس، لاجئات نازحات، أي، نوعية الناس الذين يبحث عنهم رجال الشرطة، كنا كالبط الجاثم.
كل مظهرهن كان يكشف عن هويتهن الحقيقية، واقفات في ساحة السوق بملابسهن وحقيبة ملابسهن المهترئة. كن فريسة سهلة لأي دورية بوليس.
كن يتعشمن ويتضرعن لله أن تمتلئ ساحة السوق بالبشر، قبل أن يلتقط منظرهن أعين دورية بوليس، كانت حالتهن سباق مع الزمن.
ولو قبض عليهن لأخذن للمعتقل ثم يسلمن للسلطات الإثيوبية عبر الحدود. كان هذا الإحساس يبث في نفوسهن الرعب والخوف.
عندما غادرن كرن، كن يأملن أن يجدن حياة شقيقة الأم، والنزول عندها لبضع أسابيع لحين أن يرتبن أمورهن.
حياة وزوجها غادرا مدينة كرن قبل عشر سنوان وإستقرا في كسلا.
كانت حياة قد زارتهن قبل خمس سنوات في كرن برفقة إبنها كمال.
كانت السنين الخمسة زمن طويل في حياة اللاجئين المتحركة على الدوام، باحثين عن كلأ وعشب أخضر، وفرص أفضل في أي مكان. كانت كسلا لمعظم الإرترين محطة مرور، قبل أن يفردوا الأجنحة ويتحركواها لمكان آخر بعيد، كأميركا وأوستراليا.
لهذا لا يوجد ضمان أن تكون حياة وعائلتها لا يزالون في كسلا. لكنهن كن يأملن أن يجدن أقاربهن حالما يصلن كسلا، حيث لم يكن لديهن خطة أخرى (ب).
الزمن القصير في مكان السوق قد أتاح لهن قليل من الإستراحة الجسدية. كن يشعرن أن عضلاتهن ترتجف، وأقدامهن متقرحة من السير الطويل. كن يشعرن بالحر وأجسادهن تتصبب عرقا، والأمر من ذلك، كن جائعات.
تدريجيا بدأت المتاجر تفتح أبوابها والمتسوقون بدأوا يتقاطرون في ساحة السوق. الأقفال الحديدية قرقعت والأبواب شرعت للإتجار. ومع كل باب فتح إرتفعت معنوياتهن وشعرن بسلام نسبي.
فجأة تخللت أنوفهن رائحة الرغيف المميزة، مخبز عبر الشارع فتح لتوه أبوابه لإستقبال الزبائن.
في لحظات قلائل كانت معظم المتاجر قد شرعت أبوابها وبدأ الناس يتسابقون ويتزاحمون.
كان المهرب قد ساعدهن في تحويل نقودهن الإثيوبية إلى جنيهات سودانية 1500.
قالت الأم "مريم ونادية أبقين هنا مع الشنطة" سنذهب "أنا ودهب إلى المخبز لشراء بعض الرغيف ومشروب خفيف" ثم توجهت للمخبز قابضة دهب من يدها.
"يا إلاهي، قالت نادية وهي مرتعبة من رؤية سيارة تقترب منهن، مريم، مريم أنظري.. أنظري تلك السيارة متجهة إلينا".
قالت لها مريم "لا تنظري إليهم وتصرفي بهدوء" وهي تشعر بالبرودة تدب لأسفل عمودها الفقري. فإنقضوا كما ينقض الصقر على ضحيته.
بعدما دخلت الأم ودهب المخبز، رائحة الخبز الطازج راحت تحرك عصافير بطنيهما الخاويتين. لقد مرت عليهن إثني عشر ساعة دون أن يذقن في أفواههن أي شئ. كن يكابدن الجوع لفترة طويلة.
حين كن في المخبز، كانت الأم قلقة على بناتها اللتين بقيتا وراءها في ساحة السوق. حاسة الأمومة حدثتها أن تسرع، قابضة على الرغيف لتعود أدراجها إليهن. بأسرع وقت ممكن.
إلتقفت بسرعة كمية الرغيف الكافية لإشباع البطون الجائعة وتوجهت نحو المحاسب لتدفع الثمن. لكن عدم تعودها على العملة السودانية التي في كفها، جعلتها عصبية لحدما. ولو كان لديها كمية الفكة المطلوبة لاعفتها عن التحدث للمحاسب بلكنة تثير لديه الشك، فترددت.
غرقت في التفكير عندما سمعت صراخ أحدهم "خالتي آمنة ! خالتي آمنة !".
كان ذلك الشخص هو المحاسب، لم ينطق بإسمها فقط بل ناداها أيضا خالتي.
تلكم كان إسمها الحقيقي، لكن ذلك، لا يمكن أن يكون بالتأكيد حقيقة في كسلا حيث وصلت لتوها، ولا احد يعرف من هي. فقدت توازنها، غير قادرة أن تصدق ما سمعت لحظتها.
نظرت وراءها من على كتفها، لربما شخص آخر بنفس الإسم واقف في الصف خلفها. فقد كانت وإبنتها الوحيدات في المخبز في تلك الساعة المبكرة من الصباح.
عندما تحولت بناظريها إلى مصدر النداء، بإتجاه المحاسب، رأته وقد قفز من فوق طاولة المحاسبة متجها إليها فاردا ذراعيه على إتساعهما يتوقع حضنة كبيرة، وفي لحظات وضع رأسه في صدرها.
"خالتي آمنة ألا تذكرينني، أنا كمال، إبن حياة" كرر الشاب مندهشا.
تسمرت في وقفتها، غير قادرة أن تصدق ما ترى أمام عينيها. حتى في حلم يقظة لم تتوقع ذلك أن يحدث لها في الساعة الأولى من وصولها إلى كسلا، أي أن تلتقي أول شخص ويكون هو الشخص بعينه الذي تبحث عنه.
أمسكت كمال من كتفيه على مسافة ذراع، تدير عيناها المتحيرتان في وجهه قبل أن تحضنه من جديد، فتأكدت أنها ليست في حلم يقظة وأنه فعلا كمال، إبن اختها، حياة.
فإنفجرت بالبكاء مغمورة في العواطف.
إنسحب كمال بلطف من بين ذراعي جدته المنتحبة، وحول ناظريه نحو بنت خالته، دهب، التي كانت طوال تلك اللحظات تزرف الدموع في صمت غير قادرة أن تصدق ما ترى وما تسمع.
كانت دهب صغيرة عندما جاء كمال لزيارتهم في كرن قبل بضع سنين. لديها ذكريات باهتة عن تلك الزيارة، لهذا ما كانت ستتعرف عليه في الشارع.
لم يشك كمال بأن البنت الواقفة إلى جانب خالته هي دهب بنتها الصغرى، فإحتضنها بنفس القدر من المحبة والعاطفة. فأن تقول أن دهب وأمها كانتا سعيدتين هو تعبير لا يرقى لمرتبة الحدث.
هناك شئ يصدر من جميع اللاجئين حين يصلون مكان لجؤهم. البكاء.. البكاء ثم البكاء.
يبكون ليتخلصوا من العواطف الجاثمة على صدورهم منذ أن غادروا ديارهم. كانت دموع الإحباط، دموع ترفض الإضطهاد، دموع الحسرة على الأراضي التي أغتصبت، دموع على الحقوق المسلوبة، دموع بحث عن الهدوء الذي تمزق، دموع على الطفولة التي إنقطعت قبل نضوجها، دموع ألم أن تكون لاجئا، وأن تعيش بلا كيان وهوية.
هكذا، ككل اللاجؤن الجدد، وكغيرهم الكثير ممن سبقوهم زرفوا الدموع لكل تلك الأسباب وغيرها. ومع ذلك، ليس غريبا أن يمسحوا دمعاتهم ويواصلوا المسيرة.
"كيف حال حياة ؟ وكيف حال أبوك ؟" سألت الأم كمال، بينما تنتحب وهي تحاول أن تسترد توازنها. "لا أصدق كيف أننا وقعنا عليك بهذه البساطة".
"كلهم بخير، لم نكن نعلم أن كن هنا في كسلا ياخالتي آمنة،" رد كمال بإستغراب ودهشة، كيف أن عمته تصطدم بالصدفة بمتجرة. "كم من الوقت أنتن في كسلا ؟ وماذا عن مريم ونادية ؟".
"وصلنا لتونا هذا الصباح من كرن،" قالتها بصوت قلق، "لقد تركنا مريم ونادية هناك على ناصية الشارع، والآن علينا العودة إليهن بسرعة، سيقفزن إلى القمر من فرحة رؤيتك، هيا بنا ياكمال".
قال كمال "هيا لنذهب" ونادى أحد عماله "رجاءا خذ بالك من المكان، سأعود بسرعة".
وهكذا هروت الأم إلى حيث مريم ونادية تنتظران، يتبعانها دهب وكمال.
عندما وصلوا المكان حيث يتوقعون أن يجدوا البنات، إنفجرت الأم بالبكاء وراحت تولول بصوت عال رددت أصداءه ساحة السوق.
مريم ونادية لا أثر لهن.
إنتابت الأم هيستيريا، تبكي وتصرخ وهي تدق على صدرها بكلتا يديها.
أصحاب المتاجر والدكاكين أصيبوا بالدهشة والفضول لمعرفة سبب الضجة التي أثارتها تلك الإمرأة المحبطة في ساحة السوق.
البعض كان يتفرج عن بعد، وإقترب منها آخرون وتجمهروا في حلقة أحاطت بالأم، كان دهب وكمال يحاولان أن يستوعبا ما كانت تردده الأم المخلوعة.
"يا إلاهي ! أين أنت يا مريم، أين أنت يا نادية ؟ إنها غلطتي، لقد سقتكن إلى بلد غريب والآن إفتقدتكن،" كررت الأم بلغتها. "وي أنا زمتكو.. وي أنا قويكو.. آوالدجي أبديكو".
دهب شاركت بسرعة أمها المخلوعة بالبكاء والولولة. كان منظرهن يكسر القلوب.
سرعان ما إتضح للمتجمهرين حول هن، أن الأم وبنتها كلاهن لاجئات إرتريات، حيث بكائهن وعويلهن كان كله بلغة إرترية.
إستطاع كمال بطريقة وأخرى تهدأت روعتهن، مؤكدا أن شعورهن بالإحباط ليس له من فائدة، وأنه متأكد من أنهم سيعثرون على البنات إن عاجلا أم آجلا.
المدهش، كيف أن المصائب والكوارث، أكانت طبيعية أو من صنع بشر، تظهر دائما الجانب المضئ في الإنسانية. فالناس سريعوا التجمهر محاولين مد يد العون عندما تحل كارثة بإنسان مثلهم، بغض النظر عن عقيدته أو إثنيته (أصله أو جنسه).
وإن كان الناس بالبداية جذبهم حب الإستطلاع وتجمهروا حول الأم وإبنتها، ومع ذلك تعاونوا بكل الطرق للعثور على البنات المفقودات.
صاحب متجر سوداني إقترب من كمال وأخبره أنه قبل قليل رأى بنتين يركبن سيارة شرطة ولكنه للأسف لم يحاول التعرف على السيارة لأنه لم يفكر فيما يسمع الآن. كانت تلك المعلومة مفيدة ومهمة.
أخذ كمال خالته وإبنتها لمركز البوليس.
أخبرهم ضابط النوبة "لم يأتي أي شخص لمركز البوليس خلال الساعات الثلاثة والأربعة الأخيرة"، "وبالتاكيد لا توجد سيارة بوليس خصصت لساحة السوق هذا الصباح".
بدى وكأن الأرض إنشقت فجأة وإبتلعت مريم ونادية.