قراءة في رواية "سمراويت" البحث عن الهوية ما بين حي النُزلة وختمية

بقلم الأستاذ: أحمد عثمان قَيّح

صدر مؤخرا عن المركزالثقافي العربي في الدار البيضاء رواية "سمراويت" باكورة أعمال الكاتب حجي جابر. حظيت الرواية بقدر

جيد من البريق الإعلامي كونها العمل الذي حاز على جائزة الشارقة للأبداع العربي لهذا العام. الحصول على هذه الجائزة القيمة تتعدى معانيها مجرد التقدير الأدبي لصاحب الرواية، ليرسم الف علامة أستفهام حول الحالة الابداعية لأدب القرن الافريقي والعلاقة الجذرية التي تربطه بالعالم العربي، ثقافة ولساناً.

عند البدء في قراءتها تستقبلك أحرفها ببشاشة واضحة، فهي ليست من نوع الرواية الذي يعتمد منهج "العقدة" وشحذ تفكير المتلقي لتخيل مئالات الحدث. "سمراويت" الفتاة الارترية من أم لبنانية، وإن كانت رمزا للمحبوب إلا أنها أضحت صدفة جميلة نحو البحث عن الذات لبطل الرواية "عمر" الذي تنبه أخيرا "في السعودية لم أعش سعوديا خالصا، ولا إرتريا خالصا، كنت شيئا بينهما". ترى ما الذي يجعل الانسان أقل شعورا تجاه وطنه الأم عند ترعرعه في بقعة مختلفة؟! "عمر" يحاول اقناعنا، أو ربما كان أقل قسوة على نفسه! "لم اكن إرتريا خالصا لأني كنت مشغولا جدا بالأهلي، وعبادي والحلقة الأخيرة من ليلة هروب - وفي المقابل، ويا للأسى،لم أعش سعوديا خالصا".

تجري أحداث الرواية بين مدينتين يسكن كل من البطلين في احداها، "عمر" والذي قد نتقبله كراوي لحكايته، شاب إرتري يعيش وسط مجتمع اعتقد مع الأيام أنه جزء منه، وإن كان يتذكر إرتريته كلما تحدث الى والديه أو اضطر للاصغاء لحواديت جدته. جدة، المدينة المتعددة الوجوه شكلت بقدر كبير شخصية "عمر" وكثير من أبناء جلدته، فأجواء حي النزلة لم تمثل المكان والزمان فحسب، بل كانت ل "عمر" وعيال حارته عالمهم الوحيد. "سمراويت" في المقابل تشعرك بالعالم الآخر، مختلف تماما عن أزقة النزلة وبديهية سكانها. "سمراويت" ببساطة تقدم نفسها "صحيح أنا أعيش في باريس، لكني نشأت في بيت يتنفس العربية، فأبي هو الروائي الارتري ابراهام ولداماريام وأمي هي الشاعرة اللبنانية كاتيا حداد". تتردد "سمراويت" الى أسمرا كثيراً فهي وإن كان والدها معارض معروف للحكومة الارترية، تتمكن من زيارة وطن أبيها من غير أن تفكر في حدوث مكروه لها. بعكس "عمر" الذي تخشى عليه والدته من السفر الى وطنه خشية أصطياده من قبل عناصر أمن المطار عطفا على " أراء " أبيه المنتقدة لسياسات نظام أسمرا!

نجح الكاتب في خلق شخصيات ثانوية يستعين بها في رسم صورة جمالية لسرد حواريته والاقتراب مما يود كشفه للعالم عن الوضع الاجتماعي والمعيشي والى حد ما الوضع السياسي لهذه الدولة الناشئة وما صاحب ظهورها من نزاعات مع بعض دول الجوار تطور بعضها الى صِدام مسلح كان له اثار كارثية على مواطني ارتريا. من حين لآخر تسطو مهنة الكاتب كصحفي على حواريته مما يسلب المتلقي حرية استنباط وجهات نظر مختلفة حول ما يرد على لسان الراوي. فمثلا ما الذي حمل "عمر" على امكانية عدم سماع الأذان في وطن أكثر من نصفه مسلمون " اخرجتني مئذنة من تأملي هذا حين أنطلق النداء. كان الصوت عاليا كالذي أعتدته في جدة، فوجئت بالأمر، فما أعرفه ان الحكومة تفاخر بعلمانيتها".

ذاكرة السارد "عمر" تردفك بالكثير من " تقارير" تعريفية الغرض منها تزويد المتلقي العربي بما يجهله عن هذا الجزء غير البعيد من خاصرة الشرق الاوسط. التعريف بالفنان إدريس محمد على وحيثيات حبسه في معرض بحثه عن اغاني "التغري" وعدم توفرها في السوق وكذلك تعليقاته فيما حصل لمجموعة ال 15 من اختفاء ومناقشة حال الصحافة الارترية وخصوصا صحيفة "ارتريا الحديثة" الصحيفة العربية الوحيدة وذلك في حواريته مع صديقه المحارب القديم "سعيد" - أراد الكاتب من ذلك كله عرض واقع الحال السياسي عموما وتبعاته في المجالات الثقافية والاقتصادية في البلاد. تتعدد اللغة والجماليات في الرواية عبر السرد "الخاص"
للكاتب مما يجعلنا نعتقد أحيانا اقترابنا من سيرة ذاتية، تجعل "عمر" يلتصق بـ "حجي" حد الوحدة. الا أن هذا المنحى لا ينفي عن هذا العمل "الحكاية" سلامة الحبكة في حواريات لطيفة غير معقدة تُبسط الواقع الأكثر تعقيدا في يوميات "محمود" و "سعيد" و "أحمد". واستخدام مفردات لغة "التغري" والعامية الجداوية، تحمل في طياتها بعدا جديدا وعاملا مهما حتى يتمكن "عمر" من إعادة اكتشاف ماهيته. بين جدة وأسمرا من خلال ترتيب رائع لأسلوب الفلاش باك، تمكن الكاتب في جعل المتلقي العيش في مدينتين مختلفتين في ذات الوقت.

من حين لآخر تظهر حواريات تسرد تفاصيل أحداث ومواقف تشعرك أنه تم حشوها بين السطور وليست في ذاتها ذا قيمة انسانية، من قبيل حضور الراوي "عمر" للأمسيات الأدبية، واقحام أسماء معروفة مثل الصحفي محمد صادق دياب ومحاولة الثناء الزائد على مداخلته "هذا الكلام ... مو درس الديناصورات حق صاحبك". عنصر الدهشة وسرد لحظات الفرح والحزن يظهر جليا في سير الحوارات. لكن هذا لاينفي وجود "التزامن" في بعض حيثيات الحوار مما يقلل من جعل عامل الدهشة أقل تأثيرا على المتلقي فمثلا ( رفعت رأسها قليلا وألتفتت الي، ثم عادت لكتابها من جديد، كان ذلك كافيا كي المح العنوان، يا للصدفة،"رحلة الشتاء/صالح" رواية ناود، للتو انتهيت منها، طعمها في فمي واحداثها طازجة في رأسي) لا أعتقد "سمراويت" سوف تكون أقل اعجابا بـ "عمر" لو أخبرها انه قد قرأ هذه الرواية!. ترد في الرواية أسماء وأماكن ووقائع الا أنها قد لا تعكس التباين العرقي والثقافي لارتريا، فالأسماء " سلام، مودرنا، سمراويت، كنيسة القديس جوزيف، تيدروس، إمباسيرا، كمشتاتو، أرت ديكو" قد لا تعني الكثير لكثير من هم في أزقة النزلة الضيقة!

الحديث عن ناود على لسان "سعيد" المناضل المعاق ورغبة الراوي "عمر" وسمرايت اللقاء به - قد يصطدم بمشكل تاريخي - إذ ان القيادي والأديب الارتري الكبير قد توفاه الله قبيل صدور الرواية...ولا أعتقد هنا يشفع عامل الخيال حينما يتعلق الأمر بالوقائع التاريخية، أسماءاً وأزمنة.

عند لحظات الاقتراب من اللقاء بحبيبته "سمراويت" او قل إرتريا، يُسَطر "عمر" أروع تأوهاته " أعوام طويلة، والبرد مقيم دائم على تخوم الروح، كلما أصابها شيء، أغار على موطن الجرح فأستوطنه حتى لم يعد مكان بداخلي متحرر منه". هكذا تتكحل عينا "عمر" بوطنه ومدينته "مصوع" ويمشي بأزقة "ختمية" المقدسة الحزينة محاكيةً جداريات النزلة، ويمتع ناظريه بأمواج البحر دون ان يقترب منه كثيرا، زار متحف مصوع، تحسس بيديه المرتعشتان أكفان الموتى الأحياء، إنه الآن في حضرة تاريخ من الآلام والمرارات لا تستطيع تقسيمات عبادي على العود ان تسري في عروقه الوان الفرح، تماما كما أخفقت صورة الفتاة الظاهرة على غلاف الرواية ان تكون لها أية علاقة بـ "سمراويت" رسما أو مضمونا. ترى ماذا يملك "عمر" هنا في أسمرا أوحتى في مسقط رأسه "ختمية" ما لايملكه في جدة، ماذا يبقيه في وطن حرمه "سمراويت" نزولا عند رغبة والدتها اللبنانية؟! يا للهول بات "عمر" شيئا طارئا... مثل الوطن.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click