تيتانيكات إفريقية - الحلقة الثانية

بقلم الأستاذ: سريب - كاتب وصحفي ليبي نشر في باب: سالم العوكلي المصدر: الفيتوري

دفاع عن الروح والأسطورة والأغنيات، حين أهداني الصديق أبوبكر حامد روايته الأخيرة تيتانيكات إفريقية، كنت قد قرأت وسمعت

عن الضجة التي أثيرت حولها، كونها من أكثر الكتب مبيعاً لهذا العام، وعن رغبة ترجمتها من قبل دور نشر عالمية، إضافة إلى الاعتداء على نشرها من دار شهيرة دون إذن، وكنت حذراّ من ظاهرة، خصوصاً في الثقافة العربية، تتعلق بهيمنة الموضوع حتى وإن كان على حساب القيمة الفنية.

ترصد الرواية تراجيديا المهاجرين الأفارقة إلى الضفاف الأخرى، موضوع طالما كان أحد أخبار النشرات حيث الفرجة الباردة على جثث الحالمين وهي تنتشل من البحر، فضلاً عن كونه غدا إحدى المسائل الأمنية بين ضفتي المتوسط، عُقدت حوله العديد من الاتفاقيات الأمنية والندوات الإجرائية، لكنني بمجرد أن قرأت الرواية وجدت نفسي أمام عملي روائي حقيقي، ينبش في إحدى الأزمات الإنسانية الراهنة، التي تثير الفزع والشفقة في الوقت نفسه... تراجيديا نزوح جماعي لم تتعامل معه سوى الميديا الإعلامية ببرودها المعتاد، والتي حولته إلى خبر عابر في نشرات الأخبار، يشبه إلى حد كبير أخبار زحف الجراد من الجنوب إلى الشمال... الرواية تستحق التوقف والمكوث عندها، وتستحق أيضاً وقفات نقدية لعمل يكتب باللغة العربية راصدا ثيمة مازال مسكوتاً عنها إبداعياً رغم اختراقها المأساوي للضمير الإنساني.

بالتأكيد لم يفاجئني الروائي الذي سبق أن قرأت له رواية رائحة السلاح التي يستبطن فيها أسئلة المقاومة الارترية للغزو الأثيوبي الذي كان أحد المشاركين فيها، غير أن شرط الرواية الفني أن تقول ما لا يقال بغير الرواية، وأخلاقيتها الوحيدة هي إنتاج المعرفة، كما يقول كونديرا، لذلك كثيراً ما يؤنسن التاريخ عبر الرواية ويبعث الجانب الخفي فيه عبر الفن عموماً والرواية خاصة، وهكذا كان الروائي مخلصاً لذاك النبض الخفي في الحدث، ولتفاصيل لا يلتقطها بالتأكيد مروجو الخبر ولا ساردو التاريخ ببرود المهنة.

(تيتانيكات إفريقية) يشكل هذا العنوان مدخلاً رئيسياً للعمل، فتيتانيكات تحيلنا إلى مأساة السفينة الشهيرة التي غرقت في المحيط وخلدتها السينما كحادثة منتقاة عن الكثير من المآسي التي ابتلعها البحر، إذاً نحن أمام مفردة تحيل إلى مأساة ترسخت في الوجدان الإنساني متعلقة أساساً بالغرق... لكن ارتباط هذه المفردة بـ (إفريقية) يحيلنا إلى جغرافيا أخرى وإلى مأساة تتكرر وتأتي في صيغة الجمع، ثمة ما يتكرر دون أن يصل إلى ضمير العالم، وربما السبب كونه لم يتحول إلى عمل فني يخترق التاريخ البارد والميديا المحايدة...

تبدأ الرواية بعبارة (كنت مرهقاً من التجوال والمشاوير الكثيرة لمقابلة سماسرة التهريب) وهنا تظهر مهنة جديدة ترتزق من رغبة الهروب من الوطن ومن القارة، فلكل مأساة تجارها الذين يعرضون الخدمات حتى وإن كانت على بوابة الموت، هؤلاء السماسرة يستعيرون من جديد مهنة تجار الرقيق، وإن كانت الأحوال مختلفة فإن المصير ربما أكثر قسوة.

كان رحيل الرقيق إجبارياً وكان تمسكهم بالوطن أسطورياً، أما في حالة سماسرة التهريب فالرحيل اختيارياً، بل وبرغبة لا توقفها كل الأساطير التي أدخلها الروائي في نسيج الرواية، مثل أسطورة كاجي التي سردها مالوك بطل الرواية، لولو كاجمورو الذي يحاول منع ابن أخته بوارا من الهجرة، والذي ينجح في النهاية بفضل أغنية في أن يشفي بوارا من الجرثومة التي تلاحقه، ليواصل حياته كفلاح ووارث للأغنيات... ولذلك سيطلق شخصية مالوك عبر كل مغامراته وهو يحمل غيثاراً على ظهره ويغني، ويروي الأساطير الإفريقية التي شكلت إحدى مستويات السرد طيلة الرواية حتى يتحول هو نفسه إلى أسطورة تتناقلها منتديات الدردشة على شبكة النت.

في المرحلة الأولى من الرواية يطرح الكاتب فترة التأهب للرحيل في السودان، وتلقط الأخبار عبر شخصية الراوي المأخوذ بجمع المعلومات من الأسواق وزيارة ضاربات الودع والتي تنتهي إحداها بالتحام جسدي مع المشعوذة التي تستسلم لسحر المهاجر الذي لن يقف أمام رغبته شيء... ومثل الأغنية تبطل الشهوة السحر.

ولكن من أين تنبع قوة هذه الرغبة؟ يتحدث الراوي عن جرس عملاق يرن في إفريقيا مكتسحاً سمع التائهين ومنادياً أن هلموا إلى الفردوس، وإذا كان قد صم أذنيه عن هذا الجرس فترة من الزمن فيما يسميه (السنوات المحمية أو المسيجة) التي بقى فيها عقله بمأمن عن الاستجابة للسحر، حيث كان في حماية أفكار مسرحية كتبها في تلك الفترة، إلا أنه سقط أخيراً في فتنة هذا الجرس الذي أجج رنينَه الأخبارُ المزيفةُ التي يرسلها من وصلوا إلى الضفة الأخرى، وذلك النداء البهيج من الجنة البعيدة... هكذا بدأت الرواية ترصد سحر الجرس الذي لا يأبه لأخبار الجثث التي تنتشل كل يوم مشوهة من البحر، تلك الرغبة التي لم يروضها الغناء ولا الغيثار المرافق لمالوك الليبيري منذ أن كان عمره أربعة عشر عاماً: (كان هذا الغيثار أطول مني).

ولا الأسطورة الإفريقية القديمة، حيث جاءت الأغنية على لسان أول رجل أخترع الأنثى في بداية الجنس البشري، نحتها من جذع شجرة وحين استيقظ ووجدها حقيقة بجانبه: تولدت أغنية الفرحة من الشهقة... من اللخمة... من الدهشة، من الحياة . ومن هنا بدأت مقاومة جرس الرحيل بالغناء: (الأغنيات أيضاً تبطل السحر) لكن أمام أسطورة راهنة يعيشها مالوك يتوقف الغناء عن سحره ويشق البحر عبر قيثارة على ظهره إلى الضفاف الأخرى، هامساً لرفيقه الذي يسامره في انتظار لحظة الإبحار: ستغدو إفريقيا مثل خشبة مجوفة تعزف فيها الريح ألحان العدم.

مقارناً هذا الجرس بجرس أسطوري قديم، جرس الساحر الذي يغزو به مدينة أوروبية فيتبع الأطفال رنينه أينما حل، سارداً ملحمة الأمهات الأوروبيات اللائي يحاولن حماية أطفالهن من سحر الجرس.

في ملحمة جلجامش يتطلب الأمر الكثير من المصاعب للوصول إلى عشبة الخلود، فردوس الإنسان الأول الذي أرقه الموت، لكن ملحمة هذه الرواية تغامر بالموت نفسه من أجل الوصول إلى حياة تنتجها المخيلة... وعلى المهاجر أن يقطع الصحراء والبحر كي يصل.

لذلك كانت المغامرة الأولى في صحراء يملؤها العطش وقطاع الطرق بين ليبيا والسودان، وهنا تظهر شخصية ترحاس الأرترية، نموذج العاطفة الأمومية التي يقول عنها السائق سمسار التهريب: هذه أم تكفي العالم. وطوال الرحلة كانت هي ضمير الصحراء الذي لا يغفو، كان الموت يطاردهم على شكل عامود غبار في الصحراء يثيره قطاع الطرق، وعلى شكل عطش وجفاف للحلق تحت وطأة نضوب المياه، وصار الموت الأحمر - كما يقول الراوي - رفيقهم... وكانت ترحاس أم الرحلة تبلل فم الشاب الأرتري أسقدوم - الذي ينازع - ببصاقها ظلت تقطر الترياق في حلقه وهو ينازع الموت.

وهو يهذي بمشهد التشابه بين المتقاتلين في الحرب بين ارتريا وأثيوبيا: كنا نتشابه في كل شيء... في السحنات... وفي الملابس... وحتى سلاحنا كان يشبه سلاحهم... وكان كل منا يعرف لغة الآخر... وحين نلتحم في الظلام بالسلاح الأبيض كان جيشهم يقاتل جيشهم، وجيشنا يقاتل نفسه... يهذي أثناء احتضاره بعبث تلك الحرب التي أسهمت في صناعة جحيم إفريقيا، هذيان المسكوت عنه يطرح سؤال الموت حين يكون بضاعة العبث، فيضيء الظلام حقيقة هذه الحرب التي يحيلها تشابه السحنات إلى كوميديا دموية. ويحيل تلك القارة - مهد الإنسان الأول - إلى محطة شاسعة للمهاجرين.

في الأمكنة التي يجهزها سماسرة التهريب لتجميع المهاجرين يتحقق نوع جديد من التشابه والعلاقات الحميمية، لغة الحنين والأمل مشتركة حتى وإن اختلفت الألسن، تكفي إيماءة تشير إلى الشمال كي يتم التفاهم، أو إيماءة تشير إلى الدولار كي يتقاتل رفاق الرحلة وتتناثر الجثث فوق الرمال.

على الساحل الليبي تتهاطل وفود الراغبين في الرحيل على المزرعة، هناك حيث تتراكم الأشياء التي تركها السابقون: ملابس مبعثرة، حقائب نصف فارغة، أحذية، قناني فارغة، ساعات يد معطلة، فوط نسائية مستعملة، علب سجائر فارغة، ورسائل، وكتابات على الجدران يتنازعها الأمل والندم (إلى أين تحمليني أيتها الساعات القادمة؟ والتوقيع مجهول) تتكشف أمامهم مشاعر إنسانية غائرة في الحزن والغضب، وكل يريد أن يترك أثراً وكأنه ذاهب إلى الحرب أو إلى ساحة إعدام، أشياء ثرثارة تروي حكايا لمن مروا من هنا إلى مصيرهم المجهول، آثار معركة مع الانتظار والتوجس متفشية كالخوف نفسه في أرجاء المكان، هذا الأثر سيتبعه الجميع ويتركون بجواره المزيد من ذكرياتهم وهم يتابعون نشرات الطقس وأحوال البحر، ويتسقطون أخبار المغامرات السابقة، يتعرف أبدار الراوي على مالوك حامل الغيثار، وسرعان ما يبدأ تواشج يعلي من وتيرته الشعر والغناء وأشجان الأوطان الطاردة، مالوك الليبيري، سليل الأساطير القديمة، يجيب عن سؤال أبدار: أحب ليبيريا... لم أغادرها بعد يا أبدار... أحبها ليبيريتي كيف أغادرها وهي تسكن هاهنا، تماماً في القلب.

يعالج الخوف من القادم بالانهماك في سرد أساطير أجداده، مالوك الأول الذي أفنى ردحاً من عمره في بناء سفينة عملاقة ليجوب بها عباب المحيط لاسترداد زوجته التي هجم عليها قراصنة محليون. لكنه توفي بعد أن أتم بناءها... ويحكي الصيادون، حتى اليوم، أنهم يشاهدون في عمق بعيد فوق المحيط سفينة مالوك ببحارتها الذين من ريح تعلوها راية سوداء. وجده مالوك الثاني المولع بنسج الأساطير والتباري مع الآخرين في حبكتها، يروي على غير العادة أسطورة ينبه في مطلعها بأن أحداثها وقعت في المستقبل، واصفاً للمستمعين: ما ينتظر نسلهم من عجائب وغرائب الأمور.

يستدرك مالوك: هي كانت أسطورة نبوئية، ويحاول الراوي البحث عن طريقة يمزج بها بين كلمتي أسطور ونبوءة، مثلما ربط في سرده بين الفعل الماضي والمستقبل في تركيب لغوي غريب (وقعت في المستقبل) ولا شيء يبرر ذلك سوى أن الزمن يتحول إلى عجين يتقلب بين يدي السرد، خليط من الأزمنة يتراكم في لحظات الانتظار على باب، إما يؤدي إلى الجنة أو إلى الموت... ومالوك الثالث يحكي عن أسطورته الراهنة وعن مصيره الذي سيتحول بفعل روائي ذكي إلى أسطورة منتديات الدردشة، وكأن كل الحوار الذي يجري في المزرعة كان يهيئ هذا المصير لصديق الراوي الذي أصبح حميماً، ويظل الغيثار الصامت حتى الآن أيقونة الغناء الذي كان يبطل السحر ويخرس رنين الجرس اللحوح. تعتمد الرواية في تقنياتها إعطاء فكرة مسبقة عن مآل الحدث أو نهايته كإشارة لكون الرواية لا تتوخى التشويق في الحدث بقدر ما تسعى لمجاورة الأحداث في زمن مركب غايته خلق نسيج متشابك من السرد الذي بقدر ما يعمل على تداخل الأزمنة يرنو إلى تداحل الأمكنة، الوطن والصحراء والبحر مثلث الموت المتربص بكل من يستسلم لبراثن المكان، أمكنة تجمعها القسوة وتمتلئ بالقبور المشرعة لكل عابر بها.

تستجيب التقنية الروائية للخطاب الروائي أو بالأحرى لأزمة الشخوص المشتتين بين الذاكرة والراهن والقادم وبين الوطن والبرزخ والمنفى... تسلب الصحراء قرابينها عبر رحلة مضنية بين لهيب الشمس ومخالب الرمل ورصاص قطاع الطرق، ويتهيأ البحر لسلب المزيد... مالوك الذي لا يستقر في مكان يخرج إلى البحر ويدخل في حوار معه: ويحاول أن يطرد خوفه بتحديه وكيل الشتائم له: أيها البحر الحقير، أيها البليد، يا ثور الجرونيكا... أنا لا أهابك.

بعد مداهمة المزرعة هرب المهاجرون في سديم العتمة المطبقة، وسيظل الهروب من الضوء والسير حين تموت الظلال قدرهم الذي أختار الظلام طريقاً لهم، كل ضوء يرونه يعني الخطر والفاجعة، لا شيء يطمئن الراغب في الوصول إلى الفردوس سوى العتمة الأنيسة، وسوى عزف الغيثار وأغاني مالوك التي تثير شجن ترحاس فيتلقفها الحنين إلى أرضها الوعرة وتترقرق في عينها دمعة خاسرة، دمعة ترحاس، هذه المرة، ترياق العين الذي تقطره في حلق الأغنية الحزينة... وترحاس كانت على طول البرزخ تواصل دور الأم وكأنها تركت رضيعاً خلفها.

حين قرروا التسلل إلى تونس كأقرب يابسة إلى الجنة الموعودة كان الخطر يتهدد كل خطوة، وكان أيضاً كل ضوء يلوح يشبه بريق سكين، في الحروب والهجرة وأعماق البحر لابد للأضواء أن تخفت، وحين يشتعل الوطن بنار الحرب يصبح الظلام وطناً... تمنح الرواية سماسرة التهريب عِرْقاً من الإنسانية يعاند رهاب التصحر، ويجعلهم حلقة أخرى من المكيدة التي تتدبرها قسوة الحياة وتجهّم الروح في أدغال الخوف، ويغدو كل شيء في ظل التآمر مشروع ارتداد عن الحلم، أو بمعنى آخر تصورهم كسدنة للجحيم يقتاتون على البرزخ المؤدي إلى الفردوس، وكل الأخبار التي تصل عن غرق المراكب لا تلوي إرادة المغامرة، فثمة عين معلقة بألبوم من وصل والتقط صورة بقرب سيارة فارهة باعتبارها عربته في الجنة، ويحشد الجميع طاقاتهم من أجل ساعة الصفر التي تنزاح مراراً، يتدحرج الجميع خلف جرس الساحر وتعجز أحضان الأمهات عن حماية أبنائهن... حيث فشلت حكاية كاجي وعجزت الأغاني عن إبطال السحر لم يبق سوى تنصت الآذان الأرقة على وقع أحذية الشرطة، وكل من وقع فريسة المداهمة عليه أن يدفع الثمن عذاباً أولاً ومن ثم يعاد من حيث بدأ مثل لعبة الثعبان والسلم، والثعبان يترصد الجميع ويرقب خطاهم وأنفاسهم، يُداهم النزل في تونس غير أن مالوك لم يكن موجوداً، تبدأ طقوس العودة لمن وقعوا في براثن الثعبان، ويمضي مالوك إلى ساعة الصفر بغيثاره العنيد، الذي يحاول أن يعبر كما عبرت يوماً الفنون الإفريقية إلى الضفة الأخرى، لتملأ لياليها صخباً وعنفواناً، يتحول الغيثار إلى قطعة من جسد مالوك محتشداً بأغاني الحنين إلى ليبيريا، حيث فقد حبيبته هناك، ولم يبق ما يستحق الغناء: لقد خسرتها... ماتت حلوتي "وانيناباندا" قتلوها الأبالسة الذين قتلوا ليبيريا.

ينبش الراوي في طبقات روح مالوك العميقة، مالوك الذي لم يكف عن حبه طوال السرد يحتل منه قلب الرواية التي كانت تلوح بضميرها المتكلم وببعض الوقائع كأنها سيرة ذاتية بطلها الراوي، لكن الضمير الذي بدأت به الرواية يتخلى عن مكانه لهذه الشخصية التي اخترقتها بقوة، فتغدو بغيثارها الملاصق بطلة الرواية وأسطورتها الراهنة التي تتشكل بنيتها كلما مضت الرواية قدماً: بعد فراغي من قراءة حزمة الورق التي نعتها مالوك وهو يناولني إياها بـ (حكايات ما قبل النوم...) هنا يظهر الراوي مفتاحه الذي ولج به أعماق تلك الروح، وملمحاً لخصوصية هذه الأوراق وحنانها الذي يشبه عاطفة أم تهدهد طفلها كي ينام وكي تطرد عنه الكوابيس... لكن الكوابيس هذه المرة كوابيس نهارية، كوابيس يقظة تأتي بعد النهوض من النوم وليست أثناءه، يُقبض على أبدار وترحاس والبقية ويعادون من حيث بدءوا، لكن قبل ذلك يخبرنا الضمير المتكلم بتفاصيل غرق سفينة مالوك، الذي بقي طافياً على خشبة من حطام السفينة في الماء البارد، يتواصل الراوي مع مالوك، ليس عبر حزمة الأوراق، لكن عبر حلوله الأسطوري فيه، وينقل حواراً آخر ينهض بين مالوك والموت يكمل حواره الأول مع البحر: ألا ترى أن في هذا قسوة؟ امنحني بضعة أيام، أريد أن أكمل عملي الأخير، يقول مالوك وهو متشبث بخشبة حطام التيتانيك الإفريقية. ما نوعه؟ يسأل الموت الماسك بزمام اللعبة، أريد أن أرجع إلى موطني. يقول مالوك الذي لم تروض رغبته الأغاني ولا الأساطير، يقول ذلك وهو يتأرجح فوق الموج تماماً كبصقته التي قذف بها على الموج وهو على ساحل ليبيا... ويقترح قصيدته التي راهن بها والتي أخذته إلى كل هذه الأسفار: تفيض أرواحهم / فوق أملاح البحار / وعظام موتاهم / القابعة / في الصحارى / تتعرى / حين تخطف العواصف / من فوقها أكفان الرمال.

إنها هذه المرة حكايات ما قبل الغرق التي تواصل معها الراوي عبر حلوله الكلي في روح مالوك: كأني يا مالوك الثالث خرجت من بلدتي وعبرت مفازات الرمال لألتقيك وأتعرف إليك، ثم ليأخذني رحيلك إلى حدود للحزن قصية. لكن سليل الأساطير الأفريقية سيتحول موته مثل حياته إلى أسطورة طازجة، فبعد رحيله أصبح مالوك شاغل الناس في غرف الدردشة على الانترنت. تحل هذه الغرف المنتشرة في كل العالم بدل نشرات الأخبار فتحيل الخبر اليومي البارد إلى أسطورة، وتقف الرواية عند هذا الحد الذي يكيل المديح للأغنية كشراع يلوح من وسط الموج ليبهج الحطام، يتناءى الفردوس ويضمحل وتبقى الكائنات البشرية هي الفردوس نفسه أينما حلت، في زنزانة معتمة أو على مقعد طائرة تعود إلى الوطن أو في أعماق البحر القصية.

لا تسعى هذه الرواية إلى التشويق التقليدي ولا إلى وثائقية الخبر المهيمن ولا إلى تكريس الحزن كنهاية تطهرية، لكنها تسعى إلى الدفاع عن الكائن البشري عن رغباته وكفره وضعفه وهزيمته، وعن أغانيه التي يكابد بها التيه في هذه الأرض التي تحولت إلى زنزانة كبيرة، حيث لا يجد الإنسان المطارد مكاناً يهرب إليه، لكن الإنسان المؤمن بأسطورته الشخصية ينتصر على كل ما يتربص به من قوى الطبيعة أو قوى الطغيان التي فوقها، ويبزغ بغيثاره فوق العاصفة والحطام كقصيدة شعر تتأرجح فوق الخراب بأبهة الحلم الذي لا يهادن.

كتب أحد المدردشين ينقل خبرا تناقلته أجزاء بعيدة من الأرض: أن سفينة كاكاو قادمة من إفريقيا كانت تبحر في المياه الدولية أخبروهم أنهم رأوا شخصاً يحمل على ظهره غيثارا، وكان واقفاً فوق الموجتين، كما كان يفعل منتظراً في الناصية إطلالة وانيناباندا. كان يخاطب طاقم سفينة شراعية عملاقة. أجابهم حين سألوه عن اسمه: (مالوك). أركبوه فيها ومضوا بينما كان يسمعهم أغنيات.

كما قالت مدردشة من الهند: نقل عن صيادي أسماك يجوبون المتوسط أنهم شاهدوا سفينة شراعية تنتشل شاباً إفريقياً كان يمشي فوق الموج كما يمشي الناس على الأرض.

يتحول مالوك إلى المسيح الأسمر الذي لم يتوقف على الغناء، ويصل لون إفريقيا إلى الضفاف الأخرى عبر الكاكاو، لكن الأذرع التي زرعت الكاكاو تنهشها أسماك المتوسط وتلقي بها عظاماً على الشواطئ، أكفانها الرمال المالحة، سفينة كاكاو قادمة من إفريقيا. لا يبدو هذا الاختيار في رواية - تعرف ما تقول - جزافاً.

تواصل المدردشة الهندية: وأن منقذيه كانوا يحتضنونه واحداً واحداً وسط احتفال صاخب، عزفت خلاله موسيقى إفريقية تخللتها أغنية جديدة لمالوك:-

أيتها القلوب في المراكب المولهة سأشق بقلبي الطلق نوافذ في هذا المدى وأقول لروحي أن تضج بالرحيل الكتوم وأن تملأ أكف الطين بالندى والغناء.

الأغنية التي تنبثق من وسط الحطام والأسطورة التي تمشي بقدمين فوق الموج، ربما هذا ما تبقى للإنسان كي يرافع عن حلمه، وكي يدرك أن الفردوس الحقيقي قابع في أعماق روحه، وأن خلاصه كامن في اكتشاف أسطورته الشخصية، حيث كانت الأسطورة ملاذ الإنسان من الخوف المحدق به وإجابته الممكنة عن الأسئلة العصية.

Top
X

Right Click

No Right Click