مرسى فاطمة للإريتري حجي جابر: أوجاع الوطن والمنفى

بقلم الدكتور: رزان إبراهيم - كاتبة اردنية المصدر: القدس العربي

«هنا في مرسى فاطمة حيث تبدأ كل المسارات وإليه تنتهي»

هل يجوز التسليم بالقول إن حب الوطن أمر فطري بحت يجبل عليه الإنسان؟ أم أن الولاء للوطن مرتبط بعوامل تؤثر في طبيعة هذه العلاقة المهمة ؟

كثيرا ما ترتبط أحكامنا في هذا الشأن بتجاربنا التي نعيشها في هذه الأوطان، ولا أبالغ لو قلت إن جزءا من تجاربنا التي نعيشها مصدرها الرواية، ومن هنا أفتح الباب لتحفيز التفكير حول هذه الإشكالية من خلال رواية حجي جابر «مرسى فاطمة» سواء اتفقنا معها أم لا نتفق.

علمتنا الحياة أن تصاعدا في حملات القمع والإرهاب بشتى أصنافها، لا بد من أن تلازمه موجات متتابعة من الهجرة القسرية. أبطال هذه الموجات، رجال ونساء وأطفال، لا يكاد يصلنا من مأساتهم الحقيقية إلا الجزء اليسير. من هنا نحفظ لرواية من مثل «مرسى فاطمة» للروائي الإريتيري حجي جابر فضلها في التوغل في كوامن نفسية لضحايا هذه الهجرات من مهجرين مهمشين، قلما يجدون من يذكرهم ويطلع العالم على كوارثهم العميقة.

الرواية تتوالى أحداثها جنبا إلى جنب مع تحركات بطلها، منذ أن كان في قريته الجبلية الإريتيرية، يعمل فيها معلما، ومن بعدها نراه في (أسمرة) التي عمل فيها بائعا في متجر الأقمشة، ومن ثم وبسبب إشاعات حول اختفاء حبيبته (سلمى) نتبعه مقيما في (ساوا) يخدم عسكريا في ظروف لم يكن ليحتمل قسوتها لولا إصراره على اللحاق بامرأة قرر أنه سيموت دونها. ينتهي به المطاف في مخيم للاجئين على الحدود السودانية، يبقى فيه إلى أن يعود مرة أخرى إلى (أسمرة)، أو إلى (مرسى فاطمة) تحديدا، حيث التقى بسلمى في المرة الأولى. نعرف عن هذا المكان أنه منح اسمه تيمنا باسم جزيرة مباركة سكنتها امرأة صالحة، وأنه يبدأ بكنيسة وينتهي بجامع، وبه تتجاور بيوت الأغنياء والفقراء وقلوبهم، وهو شارع لا تجد فيه أسرة لم تفقد حبيبا في حرب الاستقلال. والحال أن (مرسى فاطمة) كما يقول الراوي البطل «يمثل وطنا رحبا لكل سكانه».

جدير بالذكر أن (سلمى) تحضر بالتوازي مع هذا المرسى، أو الوطن الذي تشاء الأقدار أن يغادر أبناءه رغما عنهم أو عنه، في حين لا يملكون سوى الاستمرار في الركض نحوه. ومن هنا تابعنا البطل منذ البدايات وحتى النهايات، يلهث بلا انقطاع على أمل أن تخرج له (سلمى) بعد اختفائها «كواحة وسط هذا الجدب المترامي»، أو « كغيمة حنون تدرأ عنه غضب المكان وجفوته»، أو حتى «كسنديانة تظلل روحا هائمة في قيظ لا ينتهي». وإذ تحضر (سلمى) وطنا، كما تشير إلى ذلك سطور بعينها، فإن الملاحظ هنا أن الكاتب بدا كما الخائف من أن ينفلت المعنى من بين يدي قارئه، لذلك نجده مصرا مرارا وتكرارا على شرح ما ترمز إليه (سلمى) من مثل وصفه إياها حلما «بحجم الوطن، بين يديها أشعر بالأمان ولجبينها الأسمر أنتمي»، أو قوله: «المرأة كما الوطن حين لا تأتي تضاعف من وجع الانتظار»، أو «هي وطن جميل»، أو «هما الوطن والحبيبة، وكلاهما وجهان لأحلامنا النبيلة».

وإذ تأخذ الرواية هذا المسار، فإنها ومن خلال اقتراب البطل أو ابتعاده عن سلمى في رحلة قاسية طويلة، يكون قد خلق مركزا ناظما هو شرط من شروط نجاح العمل الأدبي، ومعه ينجح الكاتب في مهمة إعادة حبك المادة التاريخية، المرتبطة بمأساة المهجرين الإريتيريين، التي يبدو للقارئ أن الكاتب قد عاينها عن قرب، باذلا جهدا كبيرا، استوى على شكل هذه المادة السردية الأدبية الإنسانية التي استطاعت أن تقدم أكثر من حكاية تشرح آلام مئات الألوف من الإريتريين الذين تشرد بعضهم في الصحارى والغابات، ولجأ بعضهم الآخر إلى الحدود السودانية، لتكون الرواية فرصتنا للتعرف على بشر وضعوا خطاهم في دروب مظلمة تحكمها مظلمة الجوع والانتهاك والإذلال.

تفتح الرواية الباب على مصراعيه لتحدثنا عن أولئك المهجرين في مخيم الانتظار «شجراب» الذين دفعوا للخروج صوب السودان مع بدء الطيران الإثيوبي في قصف المدن والقرى، نعرف عنهم أنهم لم يفكروا في البقاء كل الوقت خارج الوطن، بل إنهم ما إن تحقق استقلال بلادهم حتى وجدناهم قد سارعوا للعودة إلى الوطن، ولكن الوطن وللأسف خذلهم، ولم يوفر لهم من ظروف المعيشة ما يسمح بالعودة، والنتيجة حياة قاسية يقصدها المفجوع ليعيش فواجع أخرى في مخيمات حجم الفاقة فيها يفوق الاحتمال، لدرجة أن اللاجئ قد يقع في فخ سماسرة الهجرة إلى إسرائيل، أو قد يبيع أعضاء جسمه، أو تؤخذ منه قهرا، والحال أنه يهرب من عذاب ليتلقفه الجحيم، خصوصا أن الأمن كثيرا ما يتواطأ مع الخاطفين أو المهربين.

في هذا الوطن، وبكثير من ألم نرقب البشر يظلم أحدهم الآخر، كما المرأة التي تسكن أطراف (كسلا) التي نبذها قومها هي وابنها بسبب عدوى بالإيدز، كانت قد انتقلت إليها عن طريق زوجها، بينما حرمت من ابنها الآخر الذي نجا من المرض.

والرواية رغم كل أنواع القسوة التي يعيشها شخوصها تصر على إبقاء الوطن جزءا من أبنائه، بل إن المتنكر له يغدو كما المريض يريد التخلص من وجع يده بقطعها. من هذا الباب تصر الرواية على ضرورة الإيمان بهذا الوطن، في خيره كما في شره، في ثورة نزيهة عاشها، كما في انتكاسة أفرزت بشرا مشوهين، منهم المهربون والمغتصبون، فالوطن بخيراته وشروره يبقى وطنا، لذلك يأبى البطل في لحظات أخيرة من الرواية أن يلبي عرضا مغريا في إيطاليا، حيث المستقبل الواعد بالكثير، فلحظة الخلاص لا تتأتى حين نعطي ظهورنا للوطن. انسجاما مع هذه الأطروحة يعود بطل الرواية إلى (مرسى فاطمة) في إطار بنية دائرية، يكون معها الطريد والمطارد معا، الباحث والمبحوث عنه دون توقف، مع يقينية بأن (سلمى) الحبيبة حتما ستعاود المرور بمسارها الذي سلكته أول مرة. « هنا في مرسى فاطمة حيث تبدأ كل المسارات وإليه تنتهي».

في قصيدة لأحمد شوقي مرت علينا ونحن في مرحلة طفولتنا تحمل عنوان «عصفورتان» وصلتنا الرسالة واضحة بضرورة التشبث بالوطن مهما قست ظروفه، وعليه اختار العصفوران أن يخاطبا الريح الذي يغريهم بالركوب معه إلى اليمن بالقول: «هب جنة الخلد اليمن/ لا شيء يعدل الوطن». وهو موقف ينسجم تماما وموقف روايتنا قيد القراءة، إلا أنه يغاير ما قد يذهب إليه كثيرون، ومنهم أمين معلوف في رواية «التائهون» وفيها يصر الروائي على استخدام مفردة (غربة) يعيشها أبناء الوطن في أوطانهم، لذلك لم يتوان (آدم) بطل الرواية عن القول: «في ذلك المحيط المشرقي الذي يدلهم ويكفهر، لم يعد لدي موقع، ولم أعد حريصاً على انتزاع موقع لي».

وبالتالي فإن الرواية تفتح المجال واسعا لمغادرة أرض مخيبة للآمال. وهو ما تنص عليه سلسلة من أسئلة وأجوبة من مثل: « ماذا تفعل حين يخيب صديق أملك؟ لا يعود صديقك. ماذا تفعل حين يخيب البلد أملك ؟ لا يعود بلدك. وبما أنك تصاب بخيبة الأمل بسهولة، سوف تصبح في نهاية المطاف بلا أصدقاء، وبلا بلد». ويبقى الحديث مفتوحاً حول خيار حر في البقاء في بلاد سمتها الفوضى والمحسوبيات والمحاباة والفساد، وهي البلاد التي قد لا تجد فيها وظيفة ولا رعاية صحية ولا مساكن ولا استفادة في التعليم، ولا الانتخاب بحرية، ولا التعبير عن الرأي. وهناك يكون أمامنا واحد من أمرين، التسامح والعيش في حالة من اللامبالاة، أو هو الرحيل، لأن الوطن لم يقنعنا بالبقاء بغض النظر عما يقوله رجال السياسة العظماء: «لا تسأل ماذا يمكن لوطنك أن يفعل لك، بل اسأل نفسك ماذا يمكن أن تفعله لوطنك».

لذلك تذهب « التائهون» إلى أن الوطن الذي لا يفي ببعض تعهداته لك مواطناً بحق دون قمع وتمييز فأنت لا تدين له لشيء، لا بالتعلق بالأرض ولا بتحية العلم» فالوطن الذي بوسعك أن تعيش فيه مرفوع الرأس، تمنحه كل ما لديك، وتضحي من أجله بالنفيس والغالي، حتى بحياتك؛ أما الوطن الذي تضطــــــر فيه للعيــــــش مطأطأ الـــرأس، فلا تعطه شيئاً. سواء تعلق الأمر بالبلد الذي استقبلك أو بلدك الأم. فالنبل يستدعي العظمة. واللامبالاة تستدعي اللامبالاة، والازدراء يستدعي الازدراء».

أنهي بسؤالي: هل يكف البشر عن ولائهم للوطن لأنه تخلى عنهم؟ وهل إن وطناً بالفطرة قدر له أن يكون وطنك يفرض عليك التشبث به والإقامة فيه تعبيرا عن ولائك العظيم له ؟ وهل إن مجرد التساؤل نفسه يحمل شيئا من الخسة ؟

Top
X

Right Click

No Right Click