لعبة المغزل لحجّي جابر: بينَ كَذبٍ أبيض وَحَقيقة سوداء

بقلم الأستاذة: ريم غنايم - ناقدة ومترجمة من فلسطين 48 المصدر: العربي الجديد

قبل الشروع في الحديث عن تقنيّات السّرد، ودقّة الصناعة الروائيّة، وفنّ لملمة خيوط التاريخ والواقع متضافرةً مع نفوذ القصّ في

رواية لعبة المغزل

"لعبة المغزل"، للكاتب الإريتريّ حجي جابر، لا بدّ بدايةً من أن نقف عند أهمّ الأسئلة التي تُطرح اليوم في سياق الكتابة الروائيّة: كيف يمكن لنصّ روائيّ أن يتعدّى حواجز التاريخ والواقع ليكتب "الحقيقة"، في شتى مستوياتها، دون أن يفقد حسّه الفنيّ ودون أن يسقط في المباشرة المبتذلة؟ هل يمكن كتابة التاريخ بمنطق "الصّدق والأمانة" في توثيق المعلومة أم أنّ الزّيف والتزوير والكذب - تحت خانة التخييل - لا بدّ منها في معادلة الزواج الواقع بين النصّ الأدبيّ والتاريخ، حيثُ يؤسّس التّحوير والتزوير لازدواجيّة حيويّة صحيّة لفَهم الحقيقة، إن وُجِدَت؟.

أعتقد أن الرواية عمومًا تقودنا إلى الاعتراف بنعمة التّخييل بصفته المرجعيّة الأكبر في مراحل الخلق السرديّ من حيث قدرته على شدّ أزر البناء الفنيّ ومعماريّة النصّ الحكائيّ، ومن حيث قدرته على تدعيم الصيغة الجمالية العامّة له. ليسَ هذا فقط، إذ إنّ كلّ نصّ سرديّ له مزاجه ومزاج صاحبه في شكل ربط الخيوط وفي اللعب على جرعات التّخييل، حيث يبدو التخييل المساحة الأوسع والأكثر ديموقراطيّة في النصّ السرديّ ويعمّق محمولاته الفلسفيّة والنفسيّة والواقعيّة.

في النصّ الروائيّ "لعبة المغزل" للكاتب الإريتريّ حجّي جابر تتّضح أمامنا الصّور التركيبيّة الأكثر عمقًا لمفهوم التّخييل، أو التّخييل الذي نبلغه عبر الكذب والتزوير واختلاق عوالم أخرى وصور أخرى بديلة عن الحقيقة التاريخيّة. من هنا، فإنّ جابر يعيد كتابة التاريخ والحقيقة من ثقب آخر هو، ظاهريًا، الأكثر تنافرًا معها: اللاحقيقة، ونصل عبر هذه العمليّة التخييليّة لمفهوم اللاحقيقة الموصل إلى الحقيقة وإلى مسار التّطهير النّفسي الذي يبلغه المتلقّي وهو يعيش تجربة من الانفعالات النفسيّة التي توّج بها في نهاية المطاف تراكمات من "الكذب المعرفيّ" الضروريّ للوصول إلى مفهوم جديد للحقيقة والتاريخ، والبحث عن وجوه أخرى لهما.

كل مكان:

تدور أحداث رواية "لعبة المغزل" في مدينة أسمرا الإريتريّة، وإن حدّد لنا الروائيّ معالم المكان إلا أنّ الإحساس الذي يطغى علينا كمتلقّين، أنّه كلّ مكان. فالحيّز المكانيّ لا يعني شيئًا بالضرورة عندما يدوّر الروائيّ المغزل السرديّ ويبدأ برسم معالم الشخصيّات وَمحوَرة هوس القصّ وإعادة القصّ بالكذب الذي ترى فيه الشخصيّات متنفّسًا.

في هذه الرواية نقف أمام شخصيّات لا اسم لها، وتاريخ قد يصلح أن يكون تاريخ أيّ شعب، وأبطال نمطيّين يصلحون لكلّ مكان. المهم في هذه الرواية أنها تحقق أنواعًا من المتعة: متعة القصّ الروائيّ والدخول إلى عوالم المتاهات والمراوغات المضاعفة، وتكسير الخطوط السرديّة التقليديّة للرواية. وهي متعة تتجلّى في القدرة على الحَكي عند جميع الأبطال الذين يُصابون بِعَدوى القصّ واحدا تلوَ الآخر: الجدّة (صاحبة النّفوذ النّاعم، ومستودع المعلومات والأسرار بصفتها شاهدًا على حقبة تاريخيّة وسياسيّة) التي تعملُ بمغزلها ومع حركتها تنسج حكايات تأسر الحفيدة. الحفيدة (الجيل الثاني) التي تراقب جدّتها وهي تغزل بحركة يدين سريعة في اتجاهات متقابلة وتروي لها حكايات تشبه حركة المغزل. تتعلّم من الجدّة مهنة القصّ ومتعة التحوير وإعادة السّرد لتُنتج أشكالاً مختلفة للأحداث، تزوّر وتحوّر وتنحرف وتجعل من التخييل أو التزوير أو الكذب العصا التي تنقض حركة القصّ وتسير في اتجاه مقابل لتُكمل بالقصّ الكاذب ما لم يقله القصّ النموذجيّ للتاريخ. الرئيس- سيّد المزوّرين وقالب الحكايات - الذي ينجح في قلب التاريخ على الورق، في تجميل قبحه الفنيّ وقبحه السيرذاتيّ. وعبر القصّ والتزوير في الأوراق الرسميّة، يحاول تغيير وجه التاريخ ومعالم صانعيه. إنّه الطاغية الذي تتناقض حقيقته الخارجيّة (الوسامة، جمال الخطّ، المخلص، المقاتل، الشّريف إلخ) مع حقيقته الباطنيّة (إجرامه، عنفه، قبحه، اغتصاب المقاتلة التي يتّضح أنّها والدة البطلة العاشقة لوسامة الرئيس ومثاليّته).

تبدو شخوص الرواية وحكاياتها المنسلّة والمتسلسلة مثل كرة من الصّوف، مهووسة بمتعة القصّ وإعادة القصّ، حيثُ تصبح كل إعادة للقصّ، سواءً على الورق (اعترافات الرئيس، تحويرات البطلة) أو شفهيًا (تحويرات الجدّة والحفيدة) أو تسجيلاً (عبر أشرطة تسجيل الطبيب)، ما هي إلاّ سبيل لولوج عوالم المتعة في البحث عن بديل للحقيقة. ويتّخذ الكذب هنا، على عكس الحقيقة، قيمةً جماليّة وفلسفيّة، على حدّ قول ديريدا في كتابه "تاريخ الكذب" أو تعديل الحقيقة بتشويهها. كلّ شيء في هذه الرواية يقف على خطّ التّماس بين الحقيقة والزّيف، وبين التقبيح والتّجميل (الدكتاتور الذي ينحت)، وبين القبيح (الرئيس) الذي يلد الجميل (الابنة التي جاءت من فعل الاغتصاب)، وفي وجه التّشويه الذي يعمد إليه الطّبيب وهو يروي حكاية الفتاة التي عرفها. نحن نقف أمام مفهوم العقل المغامر لأبطال يكشفون عبر آلامهم الصّغيرة لعبة التزوير التي تحقّق المتعة، ابتداء من أبسط المستويات لليوميّ المعيش وحتّى أكبرها، التاريخيّ الموروث.

لا تبدو الأشياء جميلة حقًا كما هو حال ظاهرها، لكنّ الظاهر والباطن يتساويان ليصبحا متكاملين وليعمّقا انسيابيّة القبح وشعريّته الباطنيّة في عمليّة "تبييض" الجمال وسطحيّته: فالبطلة، التي تبدو في شكلها جذّابة ومثيرة، وفي موهبتها الفنيّة عدسة لاقطة للجميل، يتّضح في باطنها قبحٌ دفين لا يلتقط إلاّ القبيح، ولا تفتتن إلا بكيتشيّة الجمال رغم الحسيّة الفنيّة التي تمتلكها، رافضةً القبح المرئيّ المتجسّد في هيئة الطبيب وممارسةً عنفًا مباشرًا عليه. والرئيس الذي يرسمُ عن نفسه، بخطّه الظاهريّ الجميل، صورة الرئيس المثلى، يتّضح أنّه ليس إلاّ مجرّد كائن محتل ومغتصب ومزور للتاريخ، وتُختزل شخصيّته في موهبته على نحت القبيح.

شبيه الماتريوشكا الرّوسيّة:

هذه الرواية تشبه الماتريوشكا الرّوسيّة، لعبة الدّمى المتوالدة من بعضها، التي تخلقُ حكايات من رحم الحكايات، منها المزوّر والمحوّر، ومنها الواقعيّ، لنصل إلى الشّكل الخالص للمفهوم الإشكاليّ للحقيقة، التي لا يمكن بلوغها إلاّ بجسر الهوّة بينها وبين التزوير أو الكذب بتحويراته، بقدر ما تصف الواقع متكاملًا بالشيء وضدّه حيث الأول ينسجم مع الثاني دون برهنة صحّة الأوّل على الثاني، أو الحقيقة على الكذب، أو العقل على البدن، أو الجميل على القبيح. إنّها لحظة تتوازى وتتوازن فيها المتنافرات وينفتح العقل المغامر (عند البطلة والرئيس والطبيب تحديدًا) على تهشيم البرزخ الفاصل بين الحقيقة والكذب.

يبرع حجي جابر في قدرته على إبداع نصّ روائيّ "مونوتونيّ" صعب يسعى إلى القبض على الحقيقة عبر الكذب، والباطن عبر الظاهر، والواقع عبر الخيال، ليحفر في سؤالات أكثر عمقًا من مجرّد تعرية الواقع أو وصف الفساد، سؤالات تستدعي النظر في وظيفة الرواية كنصّ فضفاض قادر على وصف العنف الرمزيّ للتاريخ المحمّل بالزّيف والصّدق، وللبشر عبر تلويناتهم وتضارباتهم. إنّه فساد الإنسان الصّغير، وجريمة المواطن البسيط الذي لا يقلّ قبحًا في وجهه الآخر عن الطاغية وتاريخه. لا حقيقة خالصة ترجى من وراء التاريخ، كلّ الحقائق ناقصة، تستند على المحو وإعادة القصّ، وفق أهواء واستراتيجيّات الوكلاء الساردين.

نحنُ أمام رواية رزينة، متّزنة، متوازنة، لا تبدو عليها سمات اندفاعيّة طائشة، باذخة في الهدوء، لا تروم السورياليّ ولا العجائبيّ كشرط مسبق لكتابة رواية حداثيّة جيّدة. يتّخذ حجي جابر جانب السّرد الروائيّ النّاعم، المألوف في حداثيّته لكنّه يأسرنا بالحكايات المتراكمة والمترابطة بخيوط متشابهة توصلنا إلى النقطة نفسها، حيث الحقيقة حقائق، وحيث التزوير والكذب والتعديل والتحوير كلّها، بصفتها مرادفات للتخييل وإعادة القصّ تصير مُلزمة لفهم طبقات العنف الكامنة داخل التاريخ والواقع.

Top
X

Right Click

No Right Click