كتاب القائد البطل الشهيد محمود حسب - الحلقة الثالثة
إعداد: جبهة التحرير الإرترية
بقلم/ حامد محمود حامد - نائب رئيس اللجنة التنفيذية لجبهة التحرير الإرترية
معرفتي بالشهيد القائد العقيد محمود حسب محمد تعود إلى ربع قرن من الزمان، عرفته قائداً محنكاً وبطلاً جسوراً، وأن أي كاتب مهما أبدع لا يستطيع حصر شمائل الشهيد البطل، إلا أنني أردت أتسطر قليلاً من آثره كما خبرته وعهدته.
كان يتمتع بذكاء وقاد يعرف ما يعمل ويعني ما يقول وله أفق واسع ودراية تامة بمهام عمله أول عهدي بالشهيد كان في العام 1970م في منطقة (طحرا) بالوحدة الإدارية رقم (6) وكان وقتها قد عاد لتوه من الخارج بعد أن تلقي دورة عسكرية وسياسية في (كوبا) ومنذ الوهلة الأولى عرفت أنه شخص مقدام ومشبع بخبرات ومعلومات عسكرية وسياسية.
وبما أن الشهيد أوفد للدورة المذكورة من الميدان مباشرة بعد أن صال وجال مع وحدات جيش التحرير الإرتري، فإنه كان يتمتع بتجربة حرب التحرير الشعبية والحرب النظامية التي درسها ف بكوبا، وفي نفس العام عين الشهيد قائداً لوحدة الفدائيين لمدينة أغردات عاصمة الإقليم الغربي ومازلت أذكر له موقفاًَ شجاعاً لازال عالقاً بذهني، وهو أن العدو الإثيوبي قد أعد قوة كبيرة وخرج بها إلى منطقة (حقات) وكان هدف العدو بعد جمع هذه القوات للوصول بها خلف خطوط الثورة الإرترية، دارت معركة عنيفة استمرت تسعة أيام كاملة وكانت هذه المعركة أطول معركة شهدتها تلك الحقبة، خاصة وأن الثورة الإرترية في تلك الفترة كانت تستخدم أسلوب حرب التحرير الشعبية (الكر والفر) إلا أن هذه المعركة قد طالت، لأنها جاءت مباشرة بعد مؤتمر أدوبحا العسكري الذي تقرر فيه الغاء نظام المناطق العسكرية ودمج جيش التحرير الإرتري تحت ظل قيادة عسكرية واحدة، وهذه العوامل مجتمعة ساهمت في رفع الروح المعنوية لدى القادة والمقاتلين.
وعندما شعرنا بأن هذه المعركة ستطول بنا وتكلفنا خسائر مادية وبشرية، قررت القيادة العامة بمنطقة العمليات ضرب الخطوط الخلفية لجيش العدو أي المدن وحددت كلاً من (أغردات، حقات، انقرني، عد ردي) كأهداف، وكلفنا أنا والمناضل محمد عثمان إزاز للقيام بتنفيذ عملية في داخل مدينة أغردات مستعينين بالسرية التي كانت في المنطقة ووحدة الشهيد محمود حسب.
طلبنا من الشهيد تسمية وتحديد المواقع بالمدينة، وأخرج لنا من حقيبته خريطة توضح كل معالم المدينة والمواقع العسكرية للعدو الإثيوبي وبعد دراسة وافية تم اختيار خمسة أهداف أساسية وبعض الأهداف الثانوية قصد منها أيهام العدو.
وتجمع القادة العسكريين لتوضيح الخطة والأهداف المراد مهاجمتها، وعند تقسيم المهام على هؤلاء القادة كان من بين الأهداف المختارة هدفاً في عمق المدينة اختاره الشهيد بنفسه قائلاً : أنا ووحدة الفدائيين نقوم بضرب هذا الهدف، أراد الشهيد بذلك أن يضرب مثلاً في نكران الذات وتحمل الصعاب والمخاطر من أجل إنجاح العملية في أهم أهدافها، وهكذا نفذ مهمته بكل شجاعة واتقان، وبما أنني كنت بالقرب منه وهو ينفذ مهمته كنت أسمع صوته الذي كان يهلل ويكبر ويحرض المقاتلين بصوت يجلجل كالرد لا يعرف الخوف ولا التردد ولا الانكسار امام ضربات العدو وهجماته.
وفي اليوم الثاني وبعد عودتنا جميعاً إلى نقطة التجمع صار الشهيد مكان إعجاب لجميع المقاتلين والقادة.
هكذا سطع اسم محمود حسب في الميدان بعد المؤتمر الوطني العام الأول المنعقد في عام 1971م والذي كان فيه الشهيد أحد أبرز أعضاء لجنته التحضيرية، وقد لعب دوراً كبيراً في عملية التحضير وخاصة اختياره لموقع انعقاد المؤتمر. كما كانت مناقشاته للقضايا المصيرية ووضوح رؤيته مكان احترام من جميع المؤتمرين، مما جعله يحظى بثقة الجميع وينتخب عضواً في اللجنة التنفيذية.
وبعد المؤتمر الوطني العام الثاني الذي انعقد في عام 1975م انتخبنا معاً في جهاز واحد ألا وهو هيئة الأركان العامة لجيش التحرير الإرتري، إذ كان الشهيد رئيس شعبة الشئون الإدارية وكلفت أنا نائباً لرئيس شعبة العمليات العسكرية.
وفي هذه الفترة عايشت الشهيد عن قرب وعرفته معرفة حقيقية بل عرفته الثورة الإرترية بكل مؤسساتها كيف لا وهو الذي قاد الكثير من المعارك التاريخية الهامة، ولهذا كان معروفاً لجماهير الشعب الإرتري كقائد شجاع يخطط وينفذ بالإضافة إلى ذلك فأن الشهيد كان يحدد مواقفه عندما تتعقد الأمور السياسية، ولم يكن يتردد عن الإفصاح عن وجهة نظره، وغالباً ما كنا نأخذ برأيه في كثير من القضايا والمواقف.
ألا رحم الله حسب وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
محمود حسب.. المناضل الإنسان
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
بقلم المناضل/ حسين خليفة - رئيس المكتب العسكري نائب القائد العام
لا يختلف اثنان في أن الشهيد البطل محمود حسب، واحد من القادة القلائل الذين تركوا بصمات لا تمحي في تجربة النضال الإرتري بجميع جوانبه السياسية والعسكرية والجماهيرية، فعلي الصعيد العسكري كان أول من ادخل أسلوب حرب التحرير الشعبية، وقد تخرج على يديه عدد كبير من قادة حرب التحرير الشعبية، كما قاد وخطط وأشرف على كثير من المعارك الفدائية الجرئية التي كانت مثلاً يقتدى به في الجرأة والأقدام، وبنفس المستوى كان من الطراز الأول في التخطيط والتنفيذ لمعارك المواجهة الكبيرة بين جيش التحرير وقوات - الاحتلال الإثيوبي.
وفي مرحلة تحرير المدن في السبعينات كان هو بطلها دون منازع، ورغم ضراوة هذه المعارك فانه لم يكن من الرجال الذين تعرف الهزيمة طريقاً إلى قلوبهم فكان أقوى من الصعاب وبالتالي كان هو المنتصر عليها، واستطاع أن يترك هذا الإرث لكثير من قادة جيش التحرير الذين دربهم وأرفقهم في كل تجاربه القتالية وانتصاراته.
وأذكر أن اسمه كان في الشفرة المستخدمة أثناء العمليات (نصر) وتلك الأيام كانت بمثابة العصر الذهبي لتجربة جيش التحرير الإرتري، بل كانت العصر الذهبي لنضالنا الوطني المسلح. ومن الصفات التي جعلت الشهيد يمتلك هذه القدرة العسكرية الفريدة هو انه كان يتحلي بطباع قل ما تتوفر في شخص واحد بالصورة التي توفرت فيه، فقد كان كحد السيف في تصريف الأوامر العسكرية. وكان مهاباً للدرجة التي لا يقبل فهيا أي تقاعس في تأدية الواجب الوطني، ولهذا لم يحدث قط في تجربة الشهيد أن وضع خطة عمل عسكرية وتعرضت للتسيب والإهمال، فقد كان يعمل حساب أي شيء وكل شيء قبل الشروع فيه. ولذلك عرف عنه خاصة ممن قادهم أن أي خطة يضعها كانت موضع الاحترام والتقدير وبالتالي تجد طريقها للتنفيذ، وكان يشرف على الهام المنوطة به سواء كانت في العمليات القتالية أو الإدارية بنفسه، ولم يكن من النوع الاتكالي الذي يضع الخطط وينتظر النتائج، وكان يتعامل مع مقاتليه وكأنهم أبناءه، وكان يعتني بشؤونهم الخاصة بنفس الدرجة التي كان يسهر فيها على تأهيلهم عسكرياً وسياسياً، وذلك للدرجة التي يعتقد فيها من يشاهده لأول وهلة بأنه فرداً عادياً من جيش التحرير، وليس قائداً له، وكان كريماً متواضعاً حليماً.
ولم يكن دوره في الجوانب الأخرى أقل من دوره العسكري، فقد كان يؤمن أن الجماهير هي معين الثورة الذي لا ينضب، ومن هذا الفهم كانت علاقته دائماً بالجماهير، وكان يعتني بتنظيمها وتوعيتها وتسليحها، ولقد تدربت تحت إشرافه مليشيات جبهة التحرير الإرترية ولايزال جزء كبير منها يحمل السلاح الذي تسلمته من يده الشهيد، وتحمل فكرة الثوري الوقاد وعزيمته على النصر مهما طال الزمن أو تكالبت قوى الأعداء.
وتعدي تأثير الشهيد الساحة الإرترية ليشمل تأثيره أشقاء وأصدقاء عرب ممن زاروا إرتريا - وتعرفوا على الثورة الإرترية وعلى الشهيد محمود في الميدان، وكانت لعلاقة الشهيد بهم أثر ايجابي وصيد مستمر إلى هذه اللحظة.
وأيدي الجبناء التي امتدت إلى الشهيد القائد البطل محمود حسب بعد أن عجزت عن مواجهته في ساحات المعارك والفداء، أرادت أن تستهدف المعاني السامية التي حملت جبهة التحرير الإرترية رايتها، والتي جسدها الشهيد عبر نضال امتد لأكثر من ربع قرن بلا ككل ولا ملل ولم نذكر منها إلا اليسير وأستطيع القول أن محمود الجسد قد رحل شهيداً أما محمود الفكر ومحمود المقاتل والقائد ومحمود العزيمة التي لا تعرف الهزيمة فإنه حي باقي في نفس كل مقاتل وكل قائد، وفي نفس كل مواطن. بل موجود في كل جبال إرتريا ووديانها وفيافيها وأشجارها.
التقيت بالشهيد حسب في عام 1967م عندما كان يشرف على العمل الصحي ثم التقيت به مرة أخرى في عام 1969م عندما عاد من الدورة التي تلقاها في كوبا، ثم بعد ذلك عملنا معاًَ في هيئة الأركان، وكان هو مسئول شعبة الشئون الإدارية وكنت حينها نائباً له.
حروف في وداع القائد...
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
بقلم حشكب أبو راشد - رئيس مكتب الإعلام
في أمسية الأحد يوم 1989/9/3م ارتكبت عصابات الغدر المسماة (الجبهة الشعبية) جريمة هي في حجم قتل الفجر.
لهذا كانت الفاجعة كبيرة إهتزت لها أرجاء الوطن وارتعشت أطراف عديدة من الكرة الأرضية تناقلت الخبر كل وكالات الأنباء تقريباً وأذيع بأكثر من سبع لغات، ما وصل خبر عن النضال - الإرتري بسرعة هذا الخبر، ولم يسبق لأي حدث من أحداث الثورة الإرترية أن بث من أجهزة الإعلام وبهذه اللغات المتعددة كما حدث بالنسبة لنبأ استشهاد القائد محمود حسب محمد، لقد أعطي القائد محمود حسب لشعبه مثالاً للتضحية والبطولة والقدرات القتالية والإدارية.
وخلال مسيرته النضالية اتخذه العديد ون من مناضلي جبهة التحرير الإرترية قدوة يقلدونه ويحاولون التشبه به بشخصيته الفذة.
كنا التقينا في النصف الأول من شهر (تشرين الأول أكتوبر 1971م وقبلها كنت قد سمعت عنه الكثير، بطل فدائي يقتحم المدن الحصينة، مقاتل شرس وقائد يتفاعل معه جنده ويثقون بالنصر تحت قيادته، منظم، دقيق، حذر، التقينا عند مدخل (آر) في ضحي يوم مشمس، سلم علينا - طمأننا قد وصلنا مكان المؤتمر، نصحنا بأن نكون حذرين من الصخور الملساء عندما نتسلق الطريق الجبلي ثم كانت جلسات المؤتمر، وأذكر جيداً لحظة إلقائه كلمة أمام المؤتمرين يدعو الناس للتجرد ونكران الذات وختم كلمته بأن شعاره النصر أو الشهادة، وقابل المؤتمرين حديثه بالتصفيق الحاد.
حقيقية أنني عندما أتابع مسيرته منذ تلك اللحظات فإن أبرز ما فيها أنه كان دائماً على خط الشهادة والانتصار. تحققت تحت قيادته ملاحم لجيش التحرير في معارك تحرير المدن، التصدي للحملات العسكرية المتعاقبة. التمسك ببقاء جبهة التحرير الإرترية وانتصارها، ومقاومة الانكسار والتجريد من السلاح، إعادة بناء جيش التحرير وداخل أرضه وبين شعبه، الدفاع عن الشعب ومقاومة الإرهاب الفاشي الانعزالي.
في كل هذه المراحل والأحداث بقي القائد محمود حسب نجماًَ متميزاً بين رفاقه في السلاح - فلم يشبهه أحد في التنظيم والتخطيط الدقيق، لم يماثله شخص في انتزاع حب المقاتلين وثقتهم كان فريداً في تعامله مع جماهير الشعب فأحبوه كما يحب الأب ابنه وكان ينادي كل فرد منهم - بعبارته المشهورة (أبوي) تميز في تعدد قدراته الفائقة إلى جانب كونه قائداً ومفكراً عسكرياً فذا، فقد كان فناناً رقيقاً مرهفاً يمارس التصوير، وقد وظف هذه المهارات المتعددة لخدمة شعبه وثورته، وبهذا قد إمتلك متسعاً لعدد كبير من صور مناضلي وشهداء الثورة إضافة إلى عدة صور تحكي عن ملاحم التحرير،وحدات مقاتلة تتأهب قادة يخططون للهجوم، لجان السلطة الشعبية تقدم الإسناد لجبهات القتال. المليشيا الشعبية في مواقع القتال، الاجتماعات والمؤتمرات المواكب الجماهيرية احتفالات النصر، وإلى جانب ذلك كله جمع وثائق ومخطوطات سياسية ودينية نادرة، وكان يرسم اللوحات بل وقد رسم أحداثاً هامة في المسيرة النضالية من خلال الرسومات الكاريكاتورية) أما رسائله فكانت عبارة عن لوحات فنية لجمال خطة في الكتابة، كان عاشقاً للموسيقي، وتحتوى مكتبته على كمية كبيرة من التسجيلات لمعزوفات الربابة والأغاني الشعبية إلى جانب الأغاني والموسيقي الحديثة وتسجيلات نادرة لأصوات العصافير في غابات إرتريا.
ولتعلقه بالفن كان يجمع دائماً أنواع نادرة من الحجارة والأخشاب والمنسوجات إلا أن غياب القائد محمود حسب يعني بمعني الكلمة غياب قائد ومفكر عسكري والفنان الخطاط والرسام المصور، والمؤرخ والعاشق للموسيقي.
لقد كانت جريمة الزمرة الانعزالية الحاقدة كبيرة إذ استهدفت الثورة في أغلى دررها فقد كان حسب رصيداً للثورة تستند إليه في الحاضر والمستقبل. وغدرت الزمرة الحاقدة بالشعب حيث إغتالت أعز أبنائه، وروعت الشباب بغياب قائدهم ومثلهم الأعلى الذي كانوا يستمدون من حضوره ويقلدونه ليكونوا في صورته. وبهذا العمل الإجرامي كتبت على نفسها الإدانة واستحقت غضب الشعب الذي لا يبقي ولا يذر.
أما القائد محمود فقد التقي بأنشودته المحببة، الشهادة - بعد أن صنع الكثير من النصر وشبع بتلك الدموع الثخينة وهتافات الخلود، وفي تلك اللحظة التي ادخل فيها جثمانه الطاهر إلى مثواه الأخير، وقبل أن يواري، أنطلق الهتاف، جبهة جبهة حتى النصر.. وكأن الذين أطلقوا الهتاف قصدوا أن يسمعوا شهيد هم العهد والقسم.
فلتهنأ بما طلبت ووجدت وليجعلك الله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
نواصل في الحلقة القادمة...