قراءة في كتاب إبراهيم محمد علي... مسيرة جبهة التحرير الارترية بداية ونهاية - الحلقة الثانية

بقلم الأستاذ المناضل: محمد صالح أبوبكر

ميلاد جبهة التحرير: إن المذكرات التي يكتبها السياسيون هي شهادات متأخرة وكثيراً

مسيرة جبهة التحرير الإرترية بداية ونهاية

ما تخلو من الموضوعية وتنحو لتبرئة الذات، وليست توثيق أمين لمرحلة محددة ليجد فيها الجيل اللاحق ما يهدية على طريق خدمة وطنه.

قال الأستاذ إبراهيم في هذا الفصل أن التأسيس كان في منتصف 1960م في القاهرة بمبادرة من الطلاب وتشريف ومشاركة الزعيم الوطني إدريس محمد آدم، وما دام الاستاذ يقص علينا حكاية التأسيس فلماذا تجاهل، أن الزعيم إدريس محمد آدم كان قد جاء قبل هذا الاعلان للسودان وتحاور مع مجموعات وأفراد كثر من الارتريين في مدينة كسلا وغيرها وخاصة اؤلئك الذين ساهموا في إخراجه من إرتريا من مجموعة جنود وصف ضباط أرطة العرب الشرقية، كما تواصل مع الشيخ محمد داؤود إبن سيدنا مصطفى ود حسن الذي قام بطواف واسع في أرياف المنطقة الغربية مبشراً بقدوم أبنائهم لتخليصهم من الاحتلال الاثيوبي، وكان يحث المواطنين على التعاون معهم وحمايتهم وهذه قصة معروفة في ريفي بركة، كما قدم ذلك الشيخ الجليل أكبر مبلغ من المال لدعم الثورة في بداياتها الأولى ولا أعتقد أن الاستاذ لم يسمع بها، وما ألفت نظر الاستاذ له أن تأسيس جبهة التحريربمبادرة طلابية لايقلل من قيمتها، إلا أنه وللتاريخ لم يكن بمبادرة طلابية محضة وناس القاهرة كانوا واحدة من حلقات تأسيس الجبهة وكانوا الحلقة المركزية الأهم بحكم وجود شيخ إدريس معهم، وهم شكلوا اللجنة المركزية في مصر وكان من المفترض أن تضم آخرين.

الجبهة لم تخطط لإندلاع الكفاح المسلح في ذلك الوقت وبتلك الكيفية وهذا صحيح ولكنها ومن خلال شيخ إدريس كانت على إتصال بعواتي والشيخين محمد داؤود والشيخ سليمان محمد الأمين ومجموعات الجنود الارتريين في الأرطة الشرقية وغيرهم ربما تفسر تلك العلاقة بأنها كانت ذات طابع شخصي اكثر من كونها تنظيمية لأن التنظيم لم يبدا خطاه بعد، ولكن هذا يعود لطبيعة بدايات أي عمل ولا يقلل من القيمة، والجبهة كانت تخطط لإطلاق الكفاح المسلح بعد توفير الحد الأدنى من تهيأة قاعدة الانطلاق - تهيأة الرجال - توفير السلاح والتمويل والامداد وتهيأة عموم الشعب الارتري وخاصة في الريف لآحتضان الثورة والثوار إلا أن الأمور سارت بإتجاه آخر.

إذا كانت المخابرات الأثيوبية تراقب كل تحركات النشطاء الارتريين وتضيق عليهم منذ أن بدأت تقضم مكاسب الفدرالية تمهيدا للضم النهائي الذي كانت تخطط له، وشددت من رقابتها بعد إندلاع مظاهرات 1958م وزادت من رقابتها بعد تأسيس حركة التحرير ومن صدور بيان إعلان تأسيس جبهة التحرير الارترية، وهذه قصة معروفة كيف تجاوزها الاستاذ والسؤال هل تعمد تجاوزها أم أنه لم يسمع بها أو أنه لم يقتنع لأن هؤلاء رجال من بيوتات دينية يستنكفُ عن ذكر دورهم وهذه الرواية حاضرة بقوة في مسرح الانطلاقة الأولى، وعلى كل هي مساهمة رجال من إرتريا كان دافعهم الوطنية المبراة من الأغراض وكان الواجب والآمانة يفرضان عليه ذكرها مع إستفهاماته إن أراد.

أما عواتي الذي أطلق مبادرته الشخصية هكذا كما يقول الأستاذ حتى وإن كانت فلا يمكن تخيل رجال بقامة عواتي يقدم على هكذا خطوة إن لم تكن هي الوحيدة المنطقية التي أمامه، فقد أكره للقيام بذلك قبل نضوج شروط إطلاق الكفاح المسلح بعد أن تهددت حريته بل وحياته الشخصية، ويعرف الجميع كيف أن الأمن كان قد أعد قوة كبيرة بقيادة الميجر/ عبد القادر لمداهمة قريته في منطقة قرست لإعتقاله أو قتله إلا أنه أخطر بالأمر بواسطة الشاويش كداني هداد أمد الله في عمره الذي كان قادما من مركز قلوج وعرف بالصدفة أمر الإعتقال فأخطر الشيخ محمد آدم (شيخ الخط) الذي بدوره ابلغ عواتي بترتيبات الإعتقال أو القتل فغادر القرية، ولما لم تجده إقتادت أسرته وصادرت ممتلكاته الشخصية من البهائم وغيرها وقصة إعتقال الأسرة في تسني وبيع أملاكه في الأسواق هذه قصة معروفة ولا أدري كيف تجاوزها الأستاذ.

على كل صمم عواتي على إعلان الكفاح بمن معه من رجال وعتاد في الفاتح من سبتمبر فتلقفته أيدي الشعب وإعتبرت الجموع خطوته إستجابة لتطلعاتها في مواجهة عنف النظام الاستعماري تقبلته العقول وفدته النفوس ورفده الرجال وواصلوا حاملين شعلة النضال بعد إستشهاده، أما موقف الحركة من الكفاح المسلح ومناصبته العداء، ليس أكثر من عصبية غير مقبولة في ميزان السياسة وموقف لم يكن له ما يبرره - خاصة وأن العديد من أعضاء وكوادر الحركة إنضمت إليه وأسهمت في تثبيت وجوده وأسهمت في قيادته مع غيرها من أبناء إرتريا، وكانت شرارة بندقية عواتي هي التي أشعلت الأرض الارترية تحت أقدام الاحتلال وإتسعت ثورتها حتى عمت كل أركان الوطن الارتري ورفدها كل أبنائه.

أما الحركة فقد أهدرت الكثير من الفرص للمساهمة بقوة في قيادة الثورة وكانت أولى بها، كانت الأولى عند البدايات الأولى (احتضان الكفاح المسلح) والثانية عندما دخلت في حوار من الشيخ إدريس محمد آدم، ثم كان بإمكانها الالتحاق بالثورة كالكثير من أعضائها الذين لعبوا دوراً تاريخياً مشهوداً في مسيرة الجبهة، وكانت الفرصة الأخيرة مع الدخول للمؤتمر الوطني الأول وكيف إتجه مناضلين للاستاذ ناود شخصياً إلا أنه إتجه لبيروت وباقي القصة معروف، وللأسف كان التنظيم بالنسبة لقيادة الحركة صنم عبادة وليس أداة ووسيلة تتبدل وتتغيير وهذا الداء هو معضلة عند الكثيرين، وجهل أو تجاهل حركة مغمورة أخرى وأنا أعذره عله لم يسمع بها أو فلل من شأنها ولكنه توثيق ربما تكون من تجليات الحركة وهي وحدة الصف الارتري وهذه أجرى معها وفد من قيادة الجبهة (القيادة الثورية) بينه الشيخ عمر حاج إدريس والأستاذ الشهيد الزين يسن شيخ الدين حواراً مطولاً أسفر في نهاية المطاف عن إندماجهم في العمل النضالي داخل الجبهة، وربما ما لم يحدث ذلك لكنا أمام ثلاثة تنظيمات أو يزيد في تلك الأيام الأولى.

المجلس الأعلى واللجنة المركزية كانوا هم القيادة والقاعدة لأن الأمر كان مازال فكرة جنينية وكانت القواعد تتشكل أو تنتظم تباعاً ولهذا فإنهم في عملهم يستندون على الشرعية الثورية شرعية ومشروعية المبادرة شرعية خلق ثورة وظهرهم للحائط، وكانت الخبرة التنظيمية تتراكم بذات الكيفية، وكانت لها لوائح وضوابط وموجهات ومقاصد واضحة للجميع إلا أن الاشكال كان في التقيد بها كما كانت إشكاليات التصرفات تحت إدعاء المبادرة.

ربما يكون لوم الأستاذ للمجلس الأعلى في محله من جهة تأخره في عقد مؤتمر للتنظيم بعد توافر التنظيم بكامل بنيته بين يديهم، كان بالإمكان أن ينتخبوا أية منطقة نائية في الريف الارتري ويعقدوا فيها المؤتمر وحتى الظروف كان بالإمكان تجاوزها وإجازة برنامج سياسي وتنظيمي وخطط عمل مرحلية وإستراتيجية وإنتخاب قيادة وربما كان هذا سيخرج قيادة المبادرة من حرج كثير، إلا أن الأمور ينبغي طرحها كما كانت وبالعودة لذلك الواقع الذي كان معاشاً نأمل ونحلم، كانت الثورة في حالة حصار وخنق وتضيق في ساحة السودان الرئة والمتنفس الوحيد، وكانت في بدايات إستقطابها للعضوية في الداخل بين المطاردة المستمرة والمعارك شبه اليومية وكانت الصعوبات كبيرة وللتدليل على ذلك نذكر كيف دخل القائدين إدريس محمد آدم ومحمد صالح حمد السودان عن طريق الجنوب السودان مستفيدين من سحنتيهما التي تشبه أهل السودان، وتعرف أنت يا أستاذ مغامرات سبي وقلايدوس كما تذكر كيف طوردت القيادة الثورية وكيف القيت بعض القنابل على بيوت مناضلين وكيف كانت أجواء الداخل بالغة الصعوبة والقسوة، ولولا البيئة المناسبة سواء في منطقة الانطلاقة أو المداخل في ريفي كسلا وبورتسودان لأنهم مجتمع واحد والتواصل بينهم طبيعي لوئدت الثورة في مهدها وأهل البيئة القبلية المتخلفة على رأي الأستاذ هم الكثافة الأولى التي رفدت الثورة وبين هؤلاء من إشتروا بنادقهم ليقاتلوا بها وباعوا بهائمهم وإشتروها من أسواق الحمرا ومن بين هؤلاء من أستشهد وهو ناظر لقبيلة ترك القبيلة والنظارة وزخرفها (الشهيد إدريس محمد علي دافؤت) وإلتحق بالميدان بالثورة بحركة الحرية وكان من بين شهداء تقوربا الخالدة. وما يمكن أن يحزن الأستاذ أنه من قلب ذات البيئة الريفية القبلية المتخلفة.

المجلس الأعلى وجيل التأسيس لهم شرف المبادرة وعدم الركون، وإن الاشكال الرئيس ليس في مسالة عقد مؤتمر مع أهميته وضرورته ومشروعية القيادة لاغبار عليها لآنها نابعة من مشروعية الفعل والمبادرة الثورية، وكل الاشكال كان في إنسجام القيادة واللوائح الداخلية والمتابعة والمحاسبة والتقييم المستمر للأداء والتصحيح المستمر للأخطاء في العمل الثوري والتقييم والوقوف على العمل كان ضرورياً حتى لو كان حسب الظروف سنوي ربع سنوي أو نصف سنوي وربط ذلك مع المقاصد والأهداف النهائية ولو إستقام الأمر في هذا لتجنبت الثورة الكثير من المطبات.

نواصل... في الحلقة القادمة

Top
X

Right Click

No Right Click