للحكاية أكثر من وجه قراءة في «لعبة المغزل» لحجي جابر
بقلم الدكتورة: ميساء الخواجة المصدر: جريدة الرياض
كتب حجي جابر روايته "لعبة المغزل" ليعيد مساءلة تاريخ وطنه ومساءلة الكتابة وخطورتها في الوقت نفسه. وهو إذ يكتب حكاية
الفتاة مجهولة الهوية والاسم يقيم عالما سرديا رمزيا غنيا بالأسئلة والاحتمالات. هل هي لعبة الكتابة ؟ أم الكتابة عن الكتابة إن صحت التسمية ؟ هل يطرح الكاتب تمثيلا سرديا رمزيا لطريقة الكتابة وكيف يمكن أن تكتب الرواية ؟ أم هو يحاول تقديم وجهات نظر متعددة لحكاية واحدة هي حكاية الوطن ؟ كل تلك الاحتمالات قائمة، وكلها وجوه لحكاية واحدة هي "لعبة المغزل".
تسير الرواية عبر خطين متداخلين هما كيف يمكن أن تصنع الحكاية وما خطورتها، وحكاية الوطن ووثائقه التي تعاد برمجتها في أرشيف دائرة حكومية. وعبر هذين الخطين تتداخل الحكايات ووجهات النظر تاركة القارئ أمام المزيد من الأسئلة والاحتمالات. لقد جاء السرد على شكل أشرطة مسجلة صوتيا كان يمكن أن تقدم بلسان الراوي المشارك وبضمير المتكلم، لكنها تروى بلسان الراوي العليم وبضمير الغائب، وفي ذلك تعميم للحكاية حيث يوضع القارئ في مواجهة السؤال: من يكتب الحكاية ومن يسجل الأشرطة، هل هو الراوي العليم أم الفتاة أم الطبيب المعالج؟ هكذا يكون للحكاية أكثر من وجه، وأكثر من احتمال، كما للحقيقة أكثر من وجه ومن حكاية.
يبنى العمل على لعبة التبئير وتعدد وجهات النظر، ورغم أن الكاتب يوظف الراوي العليم الذي يوحي بوجود تبئير واحد يقوم به على الشخصيات والأحداث، إلا أن الكاتب يترك مساحة لتبئير آخر ووجهات نظر متعددة تقوم بها الشخصيات على نفسها وعلى الحكايات التي تقوم بتعديلها أو باختراعها أو إعادة صياغتها. ومن هنا تأتي أهمية اعتماد الأشرطة التي تحمل أيضا وجوها متناقضة، فهي، من جهة، تحمل وثوقية ومصداقية على اعتبار أن ما ترويه هي تسجيلات صوتية غير قابلة للتلاعب. لكن تلك التسجيلات، من جهة أخرى، تحمل قدرا من الشك فيما ترويه لاسيما مع ما أثاره الطبيب في نهاية الرواية حول المرض النفسي وحالة الوهم التي كانت تعيشها الفتاة صاحبة التسجيلات. لا شيء حقيقي وهو ما تؤكده كلمات الجدة "إن الكلمات مراوغة لا يمكن الوثوق بها، وهي كالفخاخ، ننصبها بحذر وإتقان، دون أن نضمن تجنب الوقوع في شركها" (ص 106)
هكذا يلعب الكاتب على مسألة الراوي ووجهات النظر جنبا إلى جنب مع فكرة الكتابة ليترك القارئ أمام الاحتمالات المفتوحة، وأن لا شيء قابل للوثوق أو التصديق، فكل حكاية لها وجهها الآخر الخفي وغير المعلن، كما للوطن روايته المعلنة ووجهه الخفي. إن نسج الحكاية مهارة ولعبة كغزل الصوف الذي يحتاج إلى التدريب، ولم تتعلم الفتاة استخدام المغزل كجدتها إلا حين أتقنت روي الحكايات وصياغتها وهو ما أتقنته الجدة قبلها. ومن يتقن لعبة المغزل يتحول إلى ناسج للحكاية كالفتاة والطبيب وقبلهما الجدة، وكلما تعدد صانعو الحكايات تعددت الروايات ووجهات النظر وانفتحت الاحتمالات. إن تطور شخصية الفتاة من مستمعة إلى الحكايات ومنبهرة بها إلى صانعة للحكاية هو تطور في وعي اللعبة. وهو الأمر نفسه في كيفية تطور الكتابة ونموها في وعي الكاتب، حيث يسير السرد في هذين الخطين المتوازيين أحيانا والمتداخلين أحيانا أخرى: الحكي/ الفعل، الكتابة/ الوطن. ومن ثم تتساوى الكتابة والخياطة وسرد الحكايات، وتكون الجدة هي النموذج الذي اجتمعت فيه تلك العناصر وكأنها الذاكرة والتاريخ الحقيقي، ذاكرة الوطن وحافظة الأسرار، الثورة التي اختطفت، في حين تمثل الفتاة "الحفيدة" الجيل الحاضر الذي يختطفه الوهم وتجميل الحكاية لكن عليه أن يصنع حكايته الخاصة التي يكشف فيها زيف ما يروى له. هنا تصر الرواية على قوة السلطة والتشويه فلا يكون للفتاة غير الموت، ويستمر تشويه الذاكرة عبر الطبيب الذي يسلم الأشرطة لضابط أمني مؤكدا على أن الفتاة مريضة وأنها عضو في تنظيم إرهابي يحاول تشويه ذاكرة الوطن وحكاية الثورة.
تلتقي عناصر الحكي/ الكتابة مع تعلم الغزل، وما تتطلبه الحكاية هو ما تتطلبه الرواية: الخيال الخصب، القدرة على الابتكار وإثارة الدهشة، وكلاهما يحكي حكاية الوطن. الجدة تحفظ الحكايات وتعرف الأسرار وهي الشاهدة على الثورة وأحد أعضائها، تحكي للفتاة عن خطورة الحكي لتكتشف الفتاة أن الحكايات تحتفظ بالحياة في حضورها والغياب. "الحكايات لا تعرف السكون، فهي في حركة دائمة، من الشفاه إلى القلوب إلى الملامح، إلى الهواء، إلى شفاه أخرى، وقلوب أكثر".( ص 20 ). من هنا لا تقترب الجدة من المغزل إلا إذا كانت راغبة في الاقتراب أكثر من القماش، وتلك التفاصيل الدقيقة التي تمنح كل قطعة ألقها الخاص. (لم يكن الأمر إذن عشوائيا كما يبدو. هو المنطق ذاته التي تخلق به الحكايات) (ص 46).
تتعلم الفتاة صنع الحكايات، وما تحكيه هي حكاية الوطن، ومن هنا جاء اختيار مكان عملها: الأرشيف حيث ذاكرة الدولة وذاكرة الوطن، هذه الذاكرة التي ستصبح محورا للتعديل والتبديل وتعدد وجهات النظر، وبعبارة أخرى تعدد الحكايات والوقوع في لعبة الكتابة. هكذا تخضع ذاكرة الثورة والوطن لتعديلات متعددة وإعادة صياغة من الفتاة ورئيس القسم ومدير الدائرة والسيد الرئيس، في تسلسل هرمي يبدأ من الرئيس وصولا إلى الفتاة، وتمثل الفتاة الطرف المقابل للحكاية الرسمية التي يصوغها الرئيس ويوثقها موظفو الدائرة الذين يشترط ولاؤهم المطلق قبل تسلمهم العمل، حيث تقوم هي بتعديل الحكايات أو قلبها إلى أن تكتشف المسودة الحقيقية للوثائق التي تبين لها زيف كل ما كان يجري حولها وما آمنت به وصدقته. إن ذاكرة الثورة هي الحكاية ولعبة كتابة/ لعبة مغزل، كل ينسجها بمهارة ووفق وجهة نظره، والمنتصر هو الكاتب الذي يجيد صياغة الحبكة أكثر ولا خاسر غير الثورة والوطن. ودائما هناك وجهان: الحكاية السرية / الحقيقية والحكاية المعلنة / المعدلة والمجملة. من هنا فإن الحكاية الواحدة تعاد صياغتها أكثر من مرة لتختلف باختلاف الراوي ووجهات النظر مع وجود تساؤل يفترضه ذلك التعدد: هل يحكي الراوي الواقع كما عرفه، أم يحقنه بخياله، أم هو يؤلفه ويختلقه تماما؟ وما أساس اختيار الحكايات التي يتم اختيارها ليتم التعديل عليها؟
تقوم الفتاة والجدة أساسا باختيار الحكايات، ولا يتم ذلك عشوائيا فهما الوجه المناقض للحكاية المعلنة، كما سبقت الإشارة، وغالبا ما يتم اختيار الحكايات المرتبطة بالثورة وذاكرتها، وكأن هذه الذاكرة هي ما تم وأده ومحاولة تشويهه. وكل حكاية صغيرة داخل الحكاية الكبرى تروى بأكثر من وجه وتحمل أكثر من نهاية، وهكذا تكتمل اللعبة فلا شيء حقيقي، ولا شيء يحمل وجهة نظر واحدة. فالحكايات "كائنات مسننة يجدر أخذها على محمل الجد، تغرس أثرها عميقا، فننتبه بعد فوات الأوان وقد أدمت كل ما مرت به" (ص 93) من هنا تصير حكاية السيد الرئيس هي البؤرة، والحكاية الرسمية المعدلة، الفاتنة والمكتملة / الخط الجميل، اللوحات الجميلة، الوسامة، القوة (اللوحة المكتملة). ويقوم هو بنفسه بالتعديل على الوثائق التي تحمل الوجه الآخر له ولتاريخ الثورة، الوجه الآخر للعبة الكتابة، الحكاية الضمنية: الدمامة، الخداع، الخيانة، التسلط، الشراسة والتشويه. وبين الحكايتين يرتدي الوطن كله الأقنعة، وكل يختار الوجه الذي يعجبه ويرى أنه يليق به. والحكاية لا يمكن أن تنتهي فما دونته الأشرطة ينسفه الطبيب في لحظة في حركة دائرية تعود فيها النهاية إلى البداية (الليلة الأخيرة)، ويلاحظ أن فصلي البداية (الليلة الأخيرة ) والنهاية (كنز الطبيب) جاءا خارج لعبة الأشرطة والحكاية الرئيسة، بل إن الفصل الأخير جاء بعد كلمة (النهاية) وكأن الكاتب يتعمد التأكيد على اللعبة وأن لا شيء يمكن أن ينتهي كما نتصور، فللحكاية دوما بقية ووجه آخر. الفتاة والرئيس يمارسان العبث بالوثائق، أي العبث بالذاكرة والتاريخ، والعبث بالحكايات مسؤولية لا يمكن أن تمر دون ثمن، لكن الحكاية تقول إن البقاء للأقوى حيث تدفع الفتاة حياتها ثمن اكتشافها الحقيقة وتختار موتها وليلتها الأخيرة، لكن اللعبة لا تنتهي، فمن يكتشف الحقيقة لا بد أن تخضع حكايته للتعديل ليوصف بالجنون والإرهاب والرغبة في تشويه الوطن، وتستمر الدائرة واللعبة بين من يحكي ومن يدون، هي لعبة الحكاية/ لعبة المغزل، لعبة الاحتمالات اللانهائية.