البيئة المحلية زخرفة أم وظيفة عضوية؟ رواية «شاهد قبر» للإريتري محمد مسوكر

بقلم الأستاذة: فيحاء السامرائي - لندن  المصدر: صحيفة الشرق الأوسط

يقص لنا محمد مسوكر، الروائي الإرتيري، في رواية «شاهد قبر»، عن واقع مختلف ببيئته وعاداته،

بخصوصيته وبمحليته، لنتعرف عبره على خصائص إثنوغرافية ثقافية مجتمعية لمنطقة القضارف، شرق السودان، حيث تدور أحداث الرواية في الثمانينات، بعيون لاجئين مستقرين معزولين تستهلكهم صراعات ومشكلات الهوية، محملين بذاكرة زمن وتراث بيئة. إنهم يجسّدون شخصيات أدبية تتماهى مع فضاءات مكانية وزمانية تحدد طرق معيشتها، وتؤثث معمار الرواية وعالمها الداخلي والخارجي ومنظور تطورها.

بعد صراع مسلّح مع الحكومة الإثيوبية، تهرب أعداد كبيرة من الإرتيرين إلى السودان، حيث 570 قبيلة تنقسم إلى 57 فئة إثنية.. 39 في المائة منهم من أصول عربية، 30 في المائة جنوبيون أو من أصول أفريقية، 12 في المائة قبائل البجا، 15 في المائة نوبيون، مع مجموعات أخرى، يتكلمون 114 لغة مكتوبة ومنطوقة، 50 منها في جنوب السودان، ويتحدث 51 في المائة من الناس اللغة العربية، 49 في المائة لغات أخرى.. 60 في المائة مسلمون، 10 في المائة مسيحيون، 30 في المائة وثنيون وأصحاب ديانات أفريقية مختلفة.

وتزدحم بيئة الرواية بأسماء قبائل (بجا، فلاتة، نوبة، الشكرية، البطاحين، ضبانية، الجعليين، دناقلة)، وأشخاص (ولدبلعاي، أرهيت،  إيرات)، ولهجات ولغات (التقري البجاوي، من التقرايت، أي لغة الجئز أو الجعيز السبئية، والرطانة، لكل من يرطن بغير العربية، «لغة الطير»)، وعادات وطقوس (شرب القهوة، بناء البيوت التقليدية، اللبس، العرس، المطبخ، الغناء والآلات الموسيقية، تقبيل ظهر اليد كنوع من السلام، الأكل بيد وطرق الصحن بيد أخرى طردًا للذباب، ومفردات محلية (راكوبة / عربة، قطيّة / كوخ، جبَنة / قهوة، برينسة / مركبة، تكوبة / سجادة، عرات / سرير، الديم / الحي)، بالإضافة إلى مميزات المناخ الاستوائي (المطر، أنواعه وأسماؤه.

وتتمثل البيئة المحلية في صور ناطقة معبّرة تجعل القارئ يسير مع المؤلف في دروب المدينة ذاتها.. يحسّ بالحر ودبقه في ذروة المطر الغزير.. يشم رائحة قهوة مطبوخة بالزنجبيل.. يرى وسائط نقل بدائية تخترق دروبًا طينية، يطلع إليها رجال بملابس تقليدية.. يستريح في قطاطي مخروطية مغطاة بالقش، جيدة التهوية صيفًا ودافئة شتاءً. نتتبع (العم سليمان) ناعسًا راغبًا بقيلولة وعزلة أثناء ظهيرة قائظة، ونتعرف على شخصيته المعرفية المتناقضة (غائم لا تحدد ذاكرته رائحة.. يعجز أمام تراكم الأحلام.. يخشى من فكرة الحلم.. يكتشف أن شروطًا تعيش خارجه تمنع حلمه من التحقق.. فيمكث مع حلمه طويلاً يسامره ويناجيه، ص 153). ويجعلنا الروائي نتفاعل مع (سميرة) العاطفية، وفشلها بسبب كرامتها الأنثوية، وكذلك نميّز التفاوت الطبقي، والحضور القوي للسياسة وهمومها:

جبهة التحرير أدخلتها القبيلة التي تأكلكم هنا في السودان.. الثورة الإرتيرية هي لتحرير الإنسان قبل الأرض.. هل التنازل لمنع الحروب أبقى قيمة من الحق الضائع؟

وهناك أيضًا اللاجئون بحنينهم إلى زمن مضى وأرض تركوها، وأسئلة الشباب حول ما يشغل الإنسان من قضايا أزلية جوهرية: «لماذا لا يبتكر الإنسان فرشاة لتنظيف الذاكرة... كيف تكون رائحة الذاكرة؟»، أو: «إننا مشغولون بالنفي والإثبات، أو تائهون فقدنا شعورنا بقيمة الزمن.. المعرفة تحول الإنسان إلى حالة عقلانية.. البكائيات لغة الفقراء الأغبياء.. كل الشؤون التي نفكر فيها عادة لا نصل إلى تسوية لها، بل الاستغراق في التفكير أصبح سمة لنا.. الناس عبارة عن أثرياء أغبياء وفقراء أغبياء».

وإذا وضعنا تشابك أحداث الرواية وتقريرية النص أحيانا جانبًا، فإن السياحة الجمالية في البيئة المحلية تؤسس لشخصية رئيسية فنية لا تزويقية في النص، وتصبح شاهدًا على هوية الكاتب وفعل الكتابة، لا باعتبارها محض مكان هندسي لوقوع الأحداث، يمارس وظيفة محددة، بل يتجاوزها إلى فضاء يتسع لبنية الرواية، ويؤثر فيها من خلال زاوية رؤية فنية.

Top
X

Right Click

No Right Click