ملاحظات حول رواية المجنّد - الجزء الثاني والأخير

بقلم الأستاذ: أحمد محمد عمر (أبو تيسر) - كاتب وإعلامي سابق بإذاعة صوت الجماهير الارترية - برلين

في الجزء الاول اشرنا الى التغيير الذي طرء في الاسلوب الروائي وطريقة تفكير المجندين

بعد وصولهم الى ليبيا وقلنا ان جزءا من النص قد كُتب في وقت مختلف من الوقت الذي كتب فيه الجزء الثاني، ولكن هذا الاستنتاج لا يتعارض مع حقيقة ان الكاتب قد اضاف بعد الفقرات الى الجزء الاول والتي تنسجم مع مواقفه الجديدة.

قد نتفق مع الناقدة الأميركية (لورا كريسمان) فيما ذهبت اليه بأن (قريسوس هيلو) قد وظف النص لإبراز موقفه المناهض للاستعمار بشكل علني بل ويرسم صورة مدمرة للاستعمار الأوربي. وقد تجلى ذلك في العديد من المشاهد المؤلمة والمقززة أحيانا التي تجرد الأوروبيين من انسانيتهم حين يتعاملون مع الشعوب المستعمَرة. فهو عندما يصف المعاملة القاسية للبسطاء المحتشدين في محطة القطار قائلا: "تتدخل الشرطة العسكرية وتضربهم بالسياط مثل الحمير".

وفي مكان اخر يقول على لسان الضابط الإيطالي مخاطبا المجندين قبيل بدء المعارك: "ويل لمن يجد الذهب أو الفضة أو ما شابهما وتسول له نفسه ان يحتفظ بها لنفسه، سأجلد بالسوط مؤخرته العارية بخمس وخمسين جلدة امام الجميع".

وعندما تتعرض قافلة الجيش الإيطالي للعطش في الصحراء يدفع الثمن هؤلاء المجندين الأحباش حيث ان الضابط الإيطالي الذي يقودهم احتمى في خيمته محتفظا بالماء لنفسه واختار مجموعة من الجنود لحراسة الخيمة، ويصف الكاتب حالة هؤلاء الحراس قائلا:
"لم يكونوا هناك كامتياز لهم ليروُوا عطشهم، وانما من المفترض ان يقفوا هناك ويمنعوا أي جندي من الاقتراب من الخيمة، كلما سمعوا صوت صب الماء بالداخل، كانت قلوبهم تقفز الى حناجرهم. وكان الأمر اشبه بمشاهدة كلب ترتفع عيناه وتنخفضان مع حركة شخص يأكل امامه. فبعد كل شيء هم مثل الكلاب... في الواقع كانت الكلاب تلقى معاملة أفضل، فعلى الأقل تأكل بقايا طعام اسيادها".

لكننا نختلف مع (لارا كريسمان) في استنتاجها بان (قريسوس هايلو) كان يحتفي بإمكانية بروز الوعي الوطني المقاوم للاستعمار بالتزامن مع الحرب نفسها. ومنطلق اعتراضنا على هذا الاستنتاج يعود لسببين رئيسين، أولهما يتعلق بالزمن الذي كُتبت فيه الرواية. صحيح ان الكاتب يشير في المقدمة التي استهل بها الكتاب الى انه سجل انطباعاته عن رحلته من اسمرا الى روما مبكرا ولكنه لم يتمكن من نشرها لأسباب مادية، بالإضافة الى ذلك يقول مترجم الرواية الى اللغة الإنجليزية الأستاذ قرماي نقاش بان هذه الرواية كتبت عام 1927 ونشرت عام 1950.

والمفارقة هنا أن الرواية كُتبت في العام 1927 أي في نفس العام الذي نال فيه الكاتب درجة الليسانس في الفاتيكان ثم ظلت في جيبه لمدة 23 عاما حتى يتمكن من نشرها في العام 1950. مع العلم ان الكاتب ظل مقيما في إيطاليا على الأقل حتى العام 1937 عندما نال درجة الدكتوراه في اللاهوت.

ولو افترضنا جدلا بان هذا الادعاء صحيح ثمة تساؤلات ينبغي الإجابة عليها، ومن بينها هل يعقل ان يتجرأ طالب لاهوت قادم بمنحة دراسية الى إيطاليا برسم هذه الصورة القبيحة عن المستعمرين الايطاليين وهو في عقر دارهم!!؟ وهل صحيح ان الأسباب المادية هي التي حالت دون نشر العمل في وقت مبكر؟ وهل من المنطقي ان يكتب الانسان اثناء مرحلة الشباب نصا ادبيا ثم يحتفظ به ليقوم بنشره بعد أكثر من عشرين عاما دون إضافات او تعديلات؟

لقد أشرنا فيما سبق الي التغيير الذي طرأ في أسلوب الكتابة وطريقة تفكير المجندين ما بين الجزء الأول والجزء الأخير من الرواية، وعند ربط ذلك بالأسئلة التي اثرناها أعلاه يمكن للمرء ان يستنتج بأن (قريسوس هيلو) ربما يكون قد كتب بعض انطباعاته عن رحلته من اسمرا الى روما في تلك الفترة المبكرة ولكن النص الكامل للرواية قد كتب في نفس العام الذي نشرت فيه او قبل لك بفترة قليلة اي بعد هزيمة الايطاليين في الحرب العالمية الثانية وخروجهم من ارتريا.

ان ادعاء (قريسوس هيلو) بأنه كتب هذه الرواية في العام 1927 ولم يستطع نشرها لأسباب مادية الا في العام 1950هو فخ وقع فيه كل من الأستاذ (قرماي نقاش) والناقدة الاميركية (لارا كريسمان) حين أصدرا حكمهما على الرواية على انها واحدة من أقدم الروايات الافريقية باللغات المحلية. إن الحكم على الرواية يجب ان يكون بعد صدورها ونشرها وليس بأثر رجعي كما أراد الكاتب ان يوهمنا بذلك.

السبب الثاني وهو الأهم والذي يجعلنا نختلف مع (لارا كريسمان) ان مفهوم الوطن عند (قريسوس هيلو) مشوش جدا بل هو مفهوم باهت ومشوه. وفي بعض الأحيان يبدو هذا التشويه متعمد لدرجة يثير الاشمئزاز والحنق. فعن أي احتفاء لبروز الوعي الوطني تتحدث (لارا كريسمان) لدى (قريسوس هيلو) وهو الذي استبدل كل الكلمات التي تدل على ارتريا كوطن بكلمة (اثيوبيا) في كل فصول الرواية.

فهو يقول في الصفحة 46 "أطلقت السفينة عواء مخيفا يبعث رعشة باردة في جوفك، ثم تحركت ببطء، عندها بدأ أبناء اثيوبيا بالغناء".

وفي الصفحة 47 يقول: "ميناء مصوع لا يزال يبتعد عنه واضواؤه تخفت تدريجيا، وبدت الجبال الاثيوبية اشبه بالجدران الضخمة المغطاة بالضباب".

وفي الصفحة 59 يقول: "هؤلاء الشباب الاثيوبيون، الذين كانت وجوههم تلمع من قبل كما لو تم فركها بالزبد، تحولوا الى مثل هذه الاجسام الهزيلة في يوم واحد. كان من الصعب الاعتراف بهم كأثيوبيين في ذلك الوقت".

هذه مجرد امثلة على عملية الاحلال والابدال التي تمت لتسمية الوطن. وفي بعض الأحيان كان الكاتب يلجأ الى تسمية ثالثة وهي (الحبشة) عندما يجد صعوبة في استخدام كلمة اثيوبيا. ففي فقرة اشرنا لها سلفا يقول الكاتب: "اعُتبر من المناسب لأهل الحبشة ان يكونوا على استعداد لإراقة دمائهم في هذه الحرب".

حيث ان (قريسوس هيلو) يدرك ان اثيوبيا دولة قائمة بذاتها في ذلك الوقت بينما تعتبر ارتريا مستعمرة إيطالية وتجري عملية التجنيد في الجيش الإيطالي في ارتريا وليس في اثيوبيا وللهروب من هذا المأزق لجاء لاستخدام مسمى الحبشة وهي تسمية قديمة قد تشمل ارتريا واثيوبيا معا.

وفي حالة واحدة فقط اضطر الكاتب لتسمية ارتريا باسمها عندما اقتبس جملة من خطبة الضابط الإيطالي الى المجندين قبيل بدء المعركة والتي قال فيها:
"أيها العسكر الارتريون الأسود، أولئك الذين ستقاتلونهم الآن مجرد حفنة من الرعاة" والسبب واضح وهو ان الايطاليين سموا هذه المستعمرة ارتريا ولا يمكن ان يقول الضابط الإيطالي (أيها العسكر الاثيوبيون).

ولكن ما الذي يجعل (قريسوس هيلو) يتعمد هذا التزوير للتاريخ وهو رجل دين درس علم اللاهوت ونال درجة الدكتوراه وتقلد ارفع المناصب في الكنيسة الكاثوليكية الارترية؟

لقد كشف الكاتب بنفسه في المقدمة التي كتبها بأنه قد تمكن من نشر هذا الكتاب بفضل القرض المالي الذي تلاقاه مما اسماها جمعية الوحدة الاثيوبية - الارترية، والمقصود هنا حزب الانضمام او حزب الوحدة مع اثيوبيا. ولسنا هنا بصدد كشف ممارسات حزب الانضمام في ذلك العام 1950 واللبيب بالإشارة يفهم.

ولكن من الواضح تماما ان استبدال تسمية ارتريا بكلمة اثيوبيا تم بإيحاء من هذا الحزب سيئ الصيت او بإصرار منه كشرط لتقديم القرض الذي طُبع به الكتاب، هذا إذا افترضنا حسن النية في الكاتب. الا ان مثل هذا الافتراض سيكون مقبولا إذا كانت المواقف السياسية للكاتب قد تغيرت فيما بعد لكن الحقيقة المؤسفة ان (قريسوس هايلو) ظل موظفا لدى الحكومة الاثيوبية يعمل في اعلى المناصب الحكومية على مدى أربعين عاما، كان فيها الشعب الارتري يخوض نضالات سياسية سلمية وكفاحا مسلحا ويتعرض لأبشع الجرائم الاستعمارية التي لم تحرك ذرة من الشعور الوطني لدى الكاتب.

وليس واضحا بالتحديد ما اذا كان (قريسوس هايلو) ينادي بضم ارتريا بأكملها الى اثيوبيا ام ضم المرتفعات فقط لأنه أورد في نص الرواية جملة مثيرة يقول فيها على لسان الحكماء: (بلدي بسيط ومتخلف بالمقارنة مع بقية ممالك العالم، لأنه يفتقر الى البحر، وفي الوقت نفسه هذا ما يجعل الناس منغلقين وجهلة).

خلاصة القول ان (قريسوس هيلو) كان من أنصار الانضمام الى اثيوبيا ولا يؤمن بوجود ارتريا كوطن وهو من ضمن القلائل الذين باعوا ضمائرهم للمستعمر الاثيوبي من اجل الحصول على بعض الامتيازات والمناصب على حساب قضية الشعب الارتري.

نقطة أخرى مهمة اشارت اليها الناقدة الأميركية (لورا كريسمان) وهي ما أسمته بـ "الإيحاءات التقدمية والرجعية" فيما يتعلق بالألفاظ والعبارات العنصرية والعقائدية والطبقية التي كان يستخدمها الكاتب بين الحين والأخر والتي تعكس نظرته الشخصية وليس بالضرورة نظرة المكون الذي ينتمي اليه. فكلمة (عبد او عبيد) على سبيل المثال استخدمها الكاتب مرارا وتكرارا دون أي مبرر أحيانا ودون ان يقتضي السياق.

ففي الصفحة 49 يقول عندما وصلت سفينة المجندين الى ميناء بورتسودان على سبيل المثال: (بدأ العديد من السودانيين السود ضخام الاجسام بالصعود الى السفينة. وهناك التقى الشعبان: الاثيوبيون والسودانيون، وجها لوجه. كان الأخيرون يفكرون: "هؤلاء العبيد! انهم ذاهبون الى طرابلس من اجل المال!" بينما الاولون يقولون في أنفسهم: "هؤلاء السود! لا يمكنهم ابدا ان يكونوا متفوقين علينا". كلاهما يحكمان على بعضهما بقسوة).

كلمة "الاثيوبيون" في الفقرة أعلاه جاءت ضمن عملية الاحلال والابدال التي أشرنا اليها سلفا والمقصود بها الارتريون. ولكن التساؤل المهم هنا هو ما إذا كانت عبارة "كلاهما يحكمان على بعضهما بقسوة" التي جاءت في خاتمة الفقرة كافية لتبرأة ذمة الكاتب من أفكار عنصرية بغيضة زج بها في النص على افتراض انها أفكار كانت تدور في الاذهان.

وفي وصفه لنوعية الحياة المعيشية لسكان الصحراء من الليبيين يقول الكاتب في احدى الفقرات: (هؤلاء الليبيون كانوا من البدو الرحل تماما مثل التجري والساهو في بلادنا الذين يرحلون من مكان الى اخر).

لا أدرى ما هو وجه الشبه بين الحياة المعيشية لسكان الصحراء الليبيين والساهو والتجري في ارتريا حيث ليس كل الساهو وليس كل التجري من الرحل كما ان الكاتب يعلم تماما ان كلمة "رُحل" في ارتريا يُقصد بها قطاع معين من المواطنين في المناطق الساحلية الذين يغيرون مواقع اقامتهم مع تغير مواسم الصيف والشتاء وهو امر ينطبق أيضا على بعض رعاة ومزارعي التجرينية الذين يغيرون مواقع اقامتهم للاستفادة من الامطار الشتوية الساحلية في المنحدرات الشرقية والغربية.

لو كان التشبيه بين قبائل الرشايدة الارترية والبدو الرحل في الصحراء الليبية لكان أكثر قبولا. ولكن يبدو ان الكاتب أراد التلميح لمقولات يرددها بعض الشوفينيين بان مكون محدد في ارتريا هو مجتمع حضري صاحب ارض والأخرون هم رحل جاؤوا من مناطق أخرى.

اخذا في الحسبان كل هذه الملاحظات حول رواية "المجند" فإنها لا تستحق ان نحتفي بها كمنتج ادبي ارتري رائد يعود الى بدايات القرن العشرين حيث ان كاتبها تنكر لوطنه وزور المعلومات والحقائق لصالح من اذاقوا شعبنا الويلات طيلة عقود مضت بل وترسخ الرواية لمفاهيم عنصرية وطائفية بغيضة تمس اللحمة الوطنية الارترية.

حسنا فعل الأستاذ قرماي نقاش الذي بادر بترجمة الكتاب الى اللغة الإنجليزية. ان الأستاذ قرماي نقاش مناضل ومثقف ارتري له اسهامات كبيرة في مجال النهوض بالآداب والفنون الارترية خاصة خلال الفترة التي عمل فيها بجامعة اسمرا. ولا اشك في منطلقات الأستاذ قرماي الذي انصب اهتمامه على ابراز هذا العمل وايصاله الى قطاع واسع من القراء كونها اول رواية تكتب بالتجرينية.

ولكن كان من المفترض ان يشير الأستاذ قرماي على الأقل في المقدمة التي كتبها الى هذا التزوير المتعمد في إطلاق التسميات وإزالة الوطن الارتري من الوجود واستخدام العبارات والتسميات العنصرية والطائفية وغيرها من علل أشرنا اليها فيما سبق، وهو امر لم يفعله وكان مسألة الإساءة الى الأوطان امر عادي يمكن تجاهله إذا جاء تحت مظلة الاعمال الابداعية.

ربما يجادل آخرون ومن بينهم الأستاذ قرماي بان النص الادبي يجب النظر اليه بعيدا عن الموقف السياسي والأخلاقي لكاتبه خاصة وان هذا العمل يتميز كونه من الاعمال الأدبية الرائدة على المستوى الافريقي وهو ما يجعل لغة التجرينية واحدة من اللغات التي أسهمت مبكرا في وضع أسس الادب الافريقي الحديث. وهذه حجة تفندها الأسباب التي أشرنا اليها مسبقا والتي اضطررنا بسببها اللجوء الى المنهج التاريخي والاجتماعي لمعالج النص حيث لا يمكن الفصل بين النص وكاتبه. اما فيما يتعلق بتطور اللغات المحلية ودورها واسهاماتها فهذا لا يعتمد على العامل التاريخي بقدر ما يعتمد على عوامل أخرى تتعلق بالحاضر والمستقبل وهذا موضوع آخر ربما نتطرق اليه في مناسبة أخرى.

كلمة أخيرة حول عنوان الرواية الذي اختاره الكاتب أي كلمة (المجند) حيث قصد من اختيار هذه الكلمة ان هؤلاء الشباب الذين خدموا في الجيش الاستعماري الإيطالي لم يكن لهم هدف سوى جمع المال واستخدمهم الايطاليون كأدوات لخوض حروبهم في ليبيا واثيوبيا. ولكن الحقيقة ان وصف "المجند" ينطبق على الكاتب نفسه أكثر من هؤلاء الشباب كونه سخر نفسه لخدمة المستعمر الاثيوبي وتم تجنيده من قبل حزب الوحدة العميل كي يسهم بهذا العمل الادبي في تحقيق اهداف لا تستطيع البندقية تحقيقها والمتمثلة في طمس الهوية الارترية واستبدالها بالهوية الاثيوبية.

Top
X

Right Click

No Right Click