عطر البارود رواية الحب والعطاء
بقلم أ. د. : عبدالغفار الحسن محمد المادح
إن رواية عطر البارود الصادرة عام2019م عن دار روافد للنشر هذه الرواية استطاعت أن تعبر
عن إرادة الإنسان في التحرر والانعتاق من قيد الاستعمار متخذا من البندقية سبيلا لانتزاع هذه حريته وأمنه وسعادته.
فثمة أشياء لا توهب وإنما تؤخذ غلابا وكفاحا ومنها الحرية، أعظم قيم الحياة الإنسانية. ولعل الكاتب الأريتيري هاشم محمود الذي أراد أن يوثق لكفاح شعبه لنيل حريته من الاحتلال الأثيوبي، قد أبدع أيما إبداع عندما جعل مأساة الحرب والاحتلال والتشريد واللجوء... تقابلها في الوقت نفسه معاني: الحب والعطاء. حيث جعل من معسكر اللجوء في مدينة كسلا السودانية متكأ يجتمع بداخله أولئك الناس الذين تقطعت بهم السبل بسبب الحرب من النساء والأطفال وكبار السن وبعض الشباب. توحد بينهم الإرادة في استرداد وطنهم المسلوب يغالبون أوجاعهم على أمل أن تشفى قريبا ريثما يحررون الوطن.
جعل الكاتب من مأساة تلك المرأة التي تعسرت في الولادة داخل المعسكر ثم ماتت ولكنها خلفت طفلة خرجت تصرخ فامتدت لها كل الأيدي، وتحولت كل أثداء النساء إلى ينابيع ترتوي منها هذه الصغيرة...!! هذه الصورة تعبر عن معاني الحب في أوسع معانيه، كما تعبر عن معاني الإرادة، إرادة عدم الانكسار، إرادة البقاء، إرادة الانتصار على واقعهم الأليم...
تتكرر هذه المأساة عندما تموت في الطريق إلى معسكر اللجوء طفلة أخرى يتيمة اسمها خديجة، وتظلم الحياة في وجه عافيت رفيقتها في الرحلة المؤلمة...أم إبراهيم والدة عافيت تصل إلى أرض المعسكر مؤمنة بقضاء الله وقدره، وتجمع بخيمتها مجموعة من أصدقاء ابنها إبراهيم على قهوتها، تلك القهوة التي إن عبرت عن معنى فهو معنى الحب والقدرة على العطاء في أحلك المواقف.
أن يتولد الحب بين محمد وعافيت في صمت وحياء بهذه الخيمة، فهذا يعبر عن إرادة أكبر من حب امرأة والبوح به الآن، فكل شيء يمكن أن يؤجل من أجل الوطن، ريثما يسترد حريته وعافيته، فالحرية هي المناخ المناسب لاستمرار الحياة والبوح عن الحب. ولكي تستمر الحياة الآن ينبغي مقاومة الانكسار ينبغي أن يزال حزن عافيت على خديجة، هذا الحزن سيسرق عافيتها، فكر محمد في أن تكون تلك الطفلة التي صرخت معلنة عن تجدد الحياة بعد وفاة أمها هي السلوى لعافيت لتسترد حيويتها هي أيضا ولتعينها على الحياة، فكانت مريم الابنة البديلة لعافيت.
إبراهيم وأصدقاؤه ميكائيل وأحمد ومحمد لا يعجبهم البقاء بأرض اللجوء وترك الوطن لأعدائه، فكان تفكيرهم في الرجوع للوطن والانضمام لجيش المقاومة، وقد كان لهم ما أرادوا ولكن بعد ترتيب أوضاع أم إبراهيم وعافيت ومريم وذلك بنقلهم إلى مكان آمن فكانت الوجهة للخرطوم، حتى تضع الحرب أوزارها.
عافيت تتفوق على نفسها في الدراسة وتحصل على منحة دراسية في لندن! ثم تعود وهي قوية ولديها الرغبة والقدرة على الإسهام في حرب التحرير، وعودة أريتيريا التي يحلمون بها.
ولعل من أجمل ما في هذه الرواية قدرة الكاتب على سوق الأحداث نحو النهايات المفرحة بأن جعل من تكاتف وثبات أبناء أريتريا في المقاومة هو مهر تحريرها من الأثيوبيين؛ ولذلك كان النصر تحت قصف المدافع وعبق البارود ولم يكن نصرا مجانيا.
من الجميل في هذه الرواية أيضا أنها صورت الإرادة الحرة والأمل في التحرر وذلك بالاعتماد على النفس وعلى الشباب الأريتيري من غير إشارة لأي دور خارجي، أو الارتماء في أحضان قوة إقليمية أو دولية؛ لتقوم بالتحرير نيابة عن الشعب الأريتيري؛ فلذلك كان للبارود عبقه الخاص، الذي هو رديف العطر طالما أنه مكن الأريتيريين من العودة إلى بلادهم، وطالما استطاعت أم إبراهيم رمز المرأة الإريترية اللاجئة الصابرة أن تعود إلى قريتها آمنة مطمئنة وتعيد ترميم بيتها الذي هجرته في زمن الحرب.
من حيث الشكل الفني للرواية، استخدم الكاتب لغة سهلة بسيطة ولكنها من السهل الممتنع، فقد كانت قادرة على الرغم من بساطتها أن تعبر عن هذا الحب الخالد للوطن وللإنسان، كما تعبر عن المعاني الإنسانية العميقة، معاني: الإرادة، والحرية. ولعل ما يشوب هذه اللغة بعض الأخطاء الطباعية غير المؤثرة والتي يمكن للكاتب تداركها في إصدارة جديدة للرواية.
كما وظف الكاتب البناء السردي المحكم وهو مناسب في هذا النوع من المتخيل السردي التاريخي.
نختم القول بأن هذه الرواية تستحق أن تقرأ لما تحمله معاني إنسانية خالدة وإيجابية، وعاطفة صادقة لم يكدرها تكلف أسلوب، ولا تصنع تقنيات سردية معقدة، بل كانت البساطة وشاحها الذي تتزين به.
التعليقات
شكرا جزيلا على نشر المقال عبدالغفار الحسن محمد المادح